الشارع المغاربي – 23 سنة بعد رحيله: بورقيبة المرجع الدائم.../بقلم: صالح مصباح

23 سنة بعد رحيله: بورقيبة المرجع الدائم…/بقلم: صالح مصباح

قسم الأخبار

13 أبريل، 2023

الشارع المغاربي: قد‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬شعب‭ ‬زعيما‭ ‬مثلما‭ ‬يذكر‭ ‬التونسيون‭ ‬الزعيم‭ ‬بورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬تُوافِقُ‭ ‬هذه‭ ‬الأيامُ‭ ‬ذكرى‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬6‭ ‬أفريل ‭ ‬2000 ‬وصارت‭ ‬هذه‭ ‬الذكرى‭ ‬مناسبة‭ ‬دورية‭ ‬يُطل‭ ‬علينا‭ ‬بها‭ ‬الزعيم‭ ‬إطلالة‭ ‬تشحذ‭ ‬ذكراه‭ ‬فينا‭ ‬وتجدّد‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الإعتذار‭ ‬منه‭ ‬لدى‭ ‬من‭ ‬فاتهم‭ ‬حسنُ‭ ‬الظن‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬فتداركوا‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬حين‭ ‬هبّت‭ ‬على‭ ‬تونس،‭ ‬بعد‭ ‬2011،‭ ‬رياح‭ ‬السّموم،‭ ‬وحين‭ ‬رام‭ ‬مُطلِقُوها‭ ‬أن‭ ‬يذرُوَ‭ ‬غبارها‭ ‬ذكراه‭ ‬فَيَطمُسَها‭ ‬بإعماءِ‭ ‬الأبصار‭ ‬والعقول‭. ‬

لكن‭ ‬ذلك‭ ‬الغبارَ‭ ‬الكريهَ،‭ ‬على‭ ‬كثافته،‭ ‬لم‭ ‬يطمس‭ ‬حضور‭ ‬الزعيم‭ ‬،و‭ ‬إنما‭ ‬حفّز‭ ‬عموم‭ ‬التونسيين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يستحضروه‭ ‬استحضارا‭ ‬أضاء‭ ‬الكثير‭ ‬ممّا‭ ‬كانت‭ ‬تخفيه‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬قبل‭ ‬امتِقَاع‭ ‬وجهِ‭ ‬البلاد،‭ ‬ألفَةُ‭ ‬المعايشة،‭ ‬وغشاوةُ‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وحُجُبُ‭ ‬النّزق‭ ‬العقائدي‭.‬

1/ ‬استحضار‭ ‬الزعيم‭ ‬الحي

طيلة‭ ‬سنوات‭ ‬الغبار‭ ‬هذه،‭ ‬أبى‭ ‬الزعيم‭ ‬بورقيبة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يطل‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الرؤوس‭ ‬الغازية‭  ‬الخاوية،‭  ‬والأفئدة‭ ‬الخاقدة،‭ ‬وأبت‭ ‬ذاكرتُنا‭ ‬الجماعية‭ ‬المصدومة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تستتهض‭ ‬صورته‭. ‬فكلما‭ ‬رأينا‭ ‬في‭ ‬رئاسة‭ ‬الدولة‭ ‬أشباحا‭ ‬شاءت‭ ‬منعرجات‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬تلتصق‭ ‬بهم،‭ ‬تذكرنا‭ ‬الزعيم‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬أعلى‭ ‬من‭  ‬شأن‭ ‬تونس‭ ‬فوق‭ ‬ما‭ ‬لها،‭ ‬واستصفى‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬ما‭ ‬يَزِينَ،‭ ‬ومن‭ ‬المستقبل‭ ‬ما‭ ‬يرسم‭ ‬الآمالَ‭ ‬عِراضا‭ ‬باسمات‭. ‬وكلما‭ ‬أخطأ‭ ‬الخطى‭ ‬أولئك‭ ‬الرؤساءُ‭ ‬الأشباحُ،‭ ‬فوضعوا‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬مواضع‭ ‬النّفع،‭ ‬أو‭ ‬أقاموا‭ ‬حولها‭ ‬جدرانا‭ ‬من‭ ‬العزلة،‭ ‬أو‭ ‬توهّموا‭ ‬أنهم‭ ‬رسّامُو‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬لوحها‭ ‬المحفوظ،‭ ‬أو‭ ‬صيروها‭ ‬رقعة‭ ‬مستباحة‭ ‬تتنازع‭ ‬فيها‭ ‬الإرادات‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬خطاب‭ ‬سيادة‭ ‬لا‭ ‬سيادة‭ ‬فيه،‭ ‬تذكّرنا‭ ‬واقعية‭ ‬الزعيم،‭ ‬ونفعيته،‭ ‬وشجاعته،‭ ‬وصراخَه‭ ‬مَتَى‭ ‬وجب‭ ‬الصراخُ،‭ ‬وبكاءَه‭ ‬متى‭ ‬وجب‭ ‬البكاءُ‭. ‬وتذكرنا‭ ‬أنه‭  ‬تعالي‭ ‬بتونس‭ ‬عن‭ ‬الإصطفافات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تحشرها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬من‭ ‬الزوايا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملؤها‭ ‬إلا‭ ‬الأجسام‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتذكرنا‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬تونس‭ ‬على‭ ‬أيامه‭ ‬حِبالا‭ ‬من‭ ‬الوصل‭ ‬النفعي‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬شتى‭ ‬دول‭ ‬العالم‭.‬

تذكرنا‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬عتاد‭ ‬جيشنا‭ ‬الثقيل‭ ‬من‭ ‬أمريكا،‭ ‬والخفيف‭ ‬من‭ ‬النمسا،‭ ‬وأزياءه‭ ‬من‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية،‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬عرباتنا‭ ‬المدنية‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬وألمانيا‭ ‬الغربية‭ ‬وقتئذ،و‭ ‬قطاراتنا‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬الشرقية،‭ ‬وتعاوننا‭ ‬المدرسي‭ ‬البشري‭ ‬مع‭ ‬فرنسا،‭ ‬والمالي‭ ‬مع‭ ‬العراق،‭ ‬والغذائي‭ ‬مع‭ ‬أمريكا‭. ‬وتذكرنا‭ ‬المساعدات‭ ‬الطارئة‭ ‬من‭ ‬يوغسلافيا‭ ” ‬تيتو‭” ‬ومن‭ ‬أوروبا‭ ‬الغربية،‭ ‬وتذكرنا‭ ‬أن‭ ‬النّواة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬بنيتنا‭ ‬السياحية‭ ‬ونواة‭ ‬صناعتنا‭ ‬الآلية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الإسكندنافية،‭ ‬ووجهة‭ ‬صادراتنا‭ ‬من‭ ‬الفسطاط‭ ‬كانت‭ ‬دول‭ ‬آسيا‭. ‬كانت‭ ‬تونس‭ ‬على‭ ‬أيام‭ ‬الزعيم‭ ‬لا‭ ‬شرقية‭ ‬ولا‭ ‬غربية‭. ‬كانت‭ ‬بورقيبية‭ ‬تُولّي‭ ‬الوجه‭ ‬حيثما‭ ‬تلوح‭ ‬المصلحة‭ ‬المحفوفة‭ ‬بالاحترام،‭ ‬وبمراسم‭ ‬الإستقبال‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يُحظى‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬كبريات‭ ‬العواصم‭ ‬سواه‭  ‬من‭ ‬رؤساء‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬تونس‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬فوقها‭.‬

وحين‭ ‬هبت‭ ‬علينا‭ ‬أغبرةُ‭ ‬الشرق‭ ‬الخرافي‭ ‬والغازي،‭ ‬ورياحُ‭ ‬التّتريك‭”‬،‭ ‬واستفحلت‭ ‬في‭ ‬هوامشنا‭ ‬عللُ‭ ‬المحافظة‭ ‬والرجعية‭ ‬والسلفية‭ ‬المنسوجة‭ ‬من‭ ‬أوهام‭ ‬الصفاء‭ ‬المطلق،‭ ‬وحين‭ ‬طفَت‭ ‬على‭  ‬سطحَنا‭ ‬قوالبُ‭ ‬البلاغة‭ ‬الواحلة‭ ‬رَميمًا‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬الماضي،‭ ‬وحين‭ ‬جاءنا‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬دعاةُ‭ ‬ختان‭ ‬البنات،‭ ‬وجهاد‭ ‬النكاح،‭ ‬ومضاجعة‭ ‬الميتة،‭ ‬استحضرنا‭ ‬استنارة‭ ‬الزعيم،‭ ‬وثقافته،‭ ‬وحداثته،‭ ‬وولعه‭ ‬بالشعر‭ ‬والمسرح‭ ‬والفكر،‭ ‬واستحضرنا‭ ‬طائرة‭ “‬الهيليكبتر‭” ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحط‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬9‭ ‬أفريل‭ ‬بالأستاذ‭ “‬أندري‭ ‬ميكال‭”‬من‭ ‬مطار‭ ‬تونس،‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬درس‭. ‬واستحضرنا‭ “‬ميشال‭ ‬فوكو‭” ‬أستاذا‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬المعلمين‭ ‬العليا،‭ ‬وباكالوريا‭ ‬تونسية‭ ‬أشاد‭ ‬بتفوقها‭ ‬على‭ ‬نظيرتها‭ ‬الفرنسية‭ ‬رئيس‭ ‬فرنسا‭ ‬نفسه‭”‬ميتيران‭”. ‬واستحضرنا‭ ‬قاعات‭ ‬السنما‭ ‬بحصص‭ ‬بثّها‭ ‬الثلاث،‭ ‬وسهرات‭ ‬المسرح‭ ‬البلدي‭ ‬أيام‭ ‬كان‭ ‬قبلة‭ ‬المشاهير،‭ ‬نحو‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وعبد‭ ‬الحليم،‭ ‬وصباح‭ ‬فخري،‭ ‬وفهد‭ ‬بلان،‭ ‬وصباح،‭ ‬ومحمد‭ ‬رشدي،و‭ ‬العزبي،‭ ‬ووديع‭ ‬الصافي،‭ ‬وكارم‭ ‬محمود‭ ‬الخ‭… ‬

حين‭ ‬نستحضر‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وغيره،‭ ‬يقبض‭ ‬علينا‭ ‬الألم‭ ‬ونحن‭ ‬نعايش‭ ‬مشايخ‭ ‬التبشير‭ ‬بحور‭ ‬الجنان‭ ‬اللواتي‭ ‬تكون‭ ‬كل‭ ‬مضاجعة‭ ‬لإحداهن‭ ‬بمقدار‭ ‬سبعين‭ ‬سنة،‭ ‬ولا‭ ‬تساؤلَ‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬متعة‭ ‬أو‭ ‬أشغال‭ ‬شاقة،‭ ‬وحين‭ ‬تسود‭ ‬الرداءة‭ ‬والسماجة‭ ‬وضحالة‭ ‬الذوق،‭ ‬وحين‭ ‬تنغلق‭ ‬فضاءات‭ ‬الفن‭ ‬والمعرفة‭ ‬وينتفي‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬الرسمية‭ ‬الإنشغال‭ ‬الجدي‭ ‬بالثقافة‭ ‬والعناية‭ ‬بأهلها‭. ‬وحين‭ ‬يتيه‭ ‬التفكير‭ ‬الرسمي‭ ‬عن‭ ‬شؤون‭ ‬الإقتصاد‭ ‬والمالية،‭  ‬نستحضر‭ ‬الزعيم‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬تونس‭ ‬بوطنية‭ ‬خالصة‭ ‬طيلة‭ ‬ما‭ ‬يفوق‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة،‭ ‬ولم‭ ‬يملك‭ ‬فيها‭ ‬جدار‭ ‬واحدا‭ ‬أو‭ ‬مترا‭ ‬مربعا،‭ ‬نستحضره‭ ‬ونحن‭ ‬نعايش‭ ‬طيلة‭ ‬سنوات‭ ‬الغبار‭ ‬حكامَ‭ ‬الغنيمة‭ ‬والنهب‭ ‬واللصوصية‭ ‬والقصور‭ ‬والتفاهة‭ ‬والسقط‭ ‬الأخلاقي‭. ‬لعل‭ ‬زمن‭ ‬بورقيبة،‭ ‬بأفضاله‭ ‬الكثيرة‭ ‬وعيوبه‭ ‬القليلة،‭ ‬كان‭ ‬سقفا‭ ‬سياسيا‭ ‬وثقافيا‭ ‬ومعرفيا‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬به‭ ‬تونس‭ ‬أقصاها‭ ‬وفق‭ ‬شروط‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬و‭ ‬مفاهيمها،‭ ‬مما‭ ‬آذن‭ ‬بالإنحدار‭ ‬الذي‭ ‬علامتُه‭ ‬الظاهرة‭ ‬سنوات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬2011‭. ‬ولعل‭ ‬السبب‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬لمّا‭ ‬تبتدع،‭ ‬بعد‭ ‬السقف‭ ‬ذاك،‭ ‬بناء‭ ‬جديدا‭ ‬ينهض‭ ‬عليه‭ ‬وفق‭ ‬شروط‭ ‬الحاضر‭ ‬ومفاهيمه،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ “‬البناء‭ ‬الشاهق‭” ‬الذي‭ ‬بشرنا‭ ‬به‭ ‬بَنّاؤُهُ‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬له‭ ‬صرخا‭ ‬يذكر‭. ‬ولعل‭ ‬التحدي‭ ‬السياسي‭ ‬اليوم،‭ ‬بعد‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬التِّيه،‭ ‬هو‭ ‬كيف‭ ‬نبني‭ ‬على‭ ‬السقف‭ ‬البورقيبي‭ ‬صرحا‭ ‬مجتمعيا‭ ‬جديدا‭ ‬يُماشي‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭. ‬فقد‭ ‬تأكد‭ ‬أن‭ ‬بورقيبة‭ ‬هو‭ ‬المبتدأ‭ ‬وفاتحة‭ ‬الخبر‭.‬

2/ ‬الزعيم‭ ‬رمزا‭ ‬تاريخيا‭ ‬وثقافيا

تدخل‭ ‬الرموز‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الرموز‭ ‬الثقافية‭. ‬فهي‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬المحمول‭ ‬الثقافي‭ ‬والذاكرة‭ ‬الجماعِيَين‭. ‬ومن‭ ‬خصائص‭ ‬الرموز‭ ‬الثقافية،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الأنتروبولوجيون،‭ ‬أنها‭ “‬تذكّر‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمعات‭ ‬بانتماءاتها‭ ‬إلى‭ ‬كيان‭ ‬واحد‭ ‬وبمصالحها‭ ‬المشتركة‭ ‬فيه‭”. ‬وفي‭ ‬سياقة‭ ‬الحال،‭ ‬يضطلع‭ ‬بورقيبة،‭ ‬رمزا‭ ‬ثقافيا،‭ ‬بهذا‭ ‬الدور‭. ‬فهو‭ ‬اسم‭ ‬علَم‭ ‬يحمل‭ ‬راية‭ ‬وطن،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬دالٌّ‭ ‬مدلولُه‭ ‬تونس‭. ‬فبينه‭ ‬وبينها‭ ‬تماه‭ ‬تبادليّ‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬القريب،‭ ‬واستوى‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الجماعي‭ ‬باعثا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬مصالح‭ ‬التونسيين‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حسن‭ ‬انتمائهم‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬التي‭ ‬صاغ‭ ‬الزعيم‭ ‬كيانها‭ ‬المعاصر‭. ‬وكلّما‭ ‬هَمَّ‭ ‬نسيجها‭ ‬المجتمعي‭ ‬بالإنحلال‭ ‬والإنقسام‭ ‬المدبّرَين،‭ ‬ذكّرتنا‭ ‬رمزية‭ ‬بورقيبة‭ ‬بأننا‭ ‬كيان‭ ‬وطني‭ ‬واحد‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬البورقيبي‭ ‬قوةَ‭ ‬الدفاع‭ ‬الذاتي؛‭ ‬تلك‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكُفّ،‭ ‬رغم‭ ‬الوهن،‭ ‬عن‭ ‬مقاومة‭ ‬الغبار‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬حواشي‭ ‬الأزمنة‭ ‬الغابرة،‭ ‬وعن‭ ‬تذكير‭ ‬أهل‭ ‬تونس‭ ‬بأن‭ ‬علية‭ ‬مصالحهم‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬أنهم‭ ‬أهل‭ ‬تونس‭ ‬المشدودة‭ ‬بروح‭” ‬الوحدة‭ ‬القومية‭”‬بعبارة‭ ‬الزعيم‭. ‬

وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أولا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحاملين‭ ‬في‭ ‬خواطرهم‭ ‬وعقولهم‭ ‬لتونس،‭ ‬أرضا‭ ‬وشعبا‭ ‬وجغرافيا‭ ‬وانتماءا،‭ ‬لا‭ ‬يُنكرون‭ ‬على‭ ‬بورقيبة‭ ‬رمزيته‭ ‬التي‭ ‬ألّفت‭ ‬فكرتُها‭ ‬كيانَ‭ ‬تونس،‭ ‬وصاغته‭ ‬دولةً‭ ‬حديثة‭ “‬راسخة‭”‬بعبارته،‭ ‬وشعبا‭ ‬استوى‭ ‬أمّة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ “‬ذرات‭ ‬تراب‭” ‬بعبارته‭ ‬أيضا‭. ‬

وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ثانيا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أعداء‭ ‬الأمة‭ ‬التونسية‭ ‬هم‭ ‬أعداء‭ ‬بورقيبة‭ ‬حيا‭ ‬وميتا،‭ ‬ومن‭ ‬أن‭ ‬الدعاة‭ ‬إلى‭ ‬نسفها‭ ‬هم،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬الدعاة‭ ‬إلى‭ ‬محو‭ ‬رمزية‭ ‬بورقيبة،‭ ‬وإلى‭ ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يصونها،‭ ‬وإلى‭ ‬توجيه‭ ‬البوصلة‭ ‬التونسية‭ ‬إلى‭ ‬خلاف‭ ‬ما‭ ‬وجّه‭ ‬الزعيمُ‭. ‬لا‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬جوهر‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬بين‭ ‬رمزية‭ ‬بوقيبة‭ ‬الجمهورية‭ ‬الحداثية‭ ‬ورمزيات‭ ‬أخرى‭ ‬تَمتَحُ‭ ‬من‭ ‬راية‭ ‬الخلافة‭ ‬وسيرة‭ ‬السلف،‭ ‬وأمومة‭ ‬عائشة،‭ ‬وبغلة‭ ‬العراق،‭ ‬وصحيح‭ ‬البخاري،‭ ‬والبناء‭ ‬القاعدي‭ ‬القَبَلي،‭ ‬وجحور‭ ‬الضباء‭.‬

وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ثالثا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬متاريس‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬كيان‭ ‬تونس،‭ ‬وعن‭ ‬هويتها،‭ ‬وعن‭ ‬منوال‭ ‬معاشها،‭ ‬وعن‭ ‬قيمها‭ ‬الكبرى،‭ ‬وعن‭ ‬تقاليدها‭ ‬الجمهورية،‭ ‬وعن‭ ‬ثوابت‭ ‬دولتها‭ ‬الحرِيّة‭ ‬بالصَّون،‭ ‬إنما‭ ‬يمثّلها‭ ‬الحافظون‭ ‬لرمزية‭ ‬بورقيبة‭ ‬ومرجعياتها‭ ‬الكبرى‭. ‬وليس‭ ‬ذلك‭ ‬متاجرة‭ ‬به‭ ‬سياسية‭. ‬فهذه‭ ‬التهمة‭ ‬من‭ ‬سطحي‭ ‬الأفكار،‭ ‬لأن‭ ‬استثمار‭ ‬الرموز‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الجامع‭ ‬ليس‭ ‬معيبا‭. ‬إنه‭ ‬مستوجب‭.‬

إن‭ ‬بورقيبة‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬رمز‭ ‬ثقافي‭ ‬ضروري‭. ‬لقد‭ ‬أثبتت‭ ‬سنوات‭ ‬الغبار‭ ‬أنه‭ ‬كذلك‭. ‬فكلما‭ ‬أُرِيدَ‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتوه،‭ ‬ردتنا‭ ‬رمزيته‭ ‬إلى‭ ‬تونسيتنا‭. ‬فبورقيبة‭ ‬الحاكم‭ ‬قد‭ ‬ولّى‭ ‬زمانه‭. ‬لكن‭ ‬البورقيبية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬سبق‭ ‬إشهارها‭ ‬بُعَيد‭ ‬14‭ ‬حانفي‭ ‬2011،‭ ‬هي‭ ‬حية‭ ‬لا‭ ‬تموت‭. ‬فهي‭ ‬رمز‭ ‬خالد‭ ‬لأنها‭ ‬من‭”‬جينات‭” ‬تونس‭ ‬الخالدة‭. ‬لقد‭ ‬قال‭ ‬الزعيم‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬حين‭ ‬سأله‭ ‬صحفي‭ ‬فرنسي‭ ‬عن‭ ‬تونس‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البورقيبية‭. ‬قال‭ ‬حرفيا‭: “‬سيكون‭ ‬لتونس‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬بورقيبة‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البورقيبية‭ ‬لن‭ ‬يكون‭”. ‬لقد‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬صمام‭ ‬أمان‭ ‬لتونس‭ ‬حيا‭ ‬وميتا،‭ ‬مثلما‭ ‬أدرك‭ ‬أعداء‭ ‬تونس‭ ‬ألا‭ ‬فصل‭ ‬بين‭ ‬عدائهم‭  ‬لتونس‭ ‬وعدائهم‭ ‬لبورقيبة‭ ‬حيا‭ ‬وميتا‭. ‬

وليس‭ ‬من‭ ‬المجازفة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬انحدارنا‭ ‬الراهن‭ ‬إلى‭ ‬الدرك‭ ‬الأسفل‭ ‬من‭ ‬سلم‭ ‬الدول،‭ ‬وإلى‭ ‬هذا‭ ‬الخواء‭ ‬الوطني‭ ‬الظاهر،‭ ‬وإلى‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬الكفاية‭ ‬عن‭ ‬الغير،‭ ‬وإلى‭ ‬مدارس‭ ‬تبث‭ ‬الجهل،‭ ‬وإلى‭ ‬مستشفيات‭ ‬تزرع‭ ‬العلل،‭ ‬وإلى‭ ‬شوارع‭ ‬كالحة،‭  ‬وإلى‭ ‬شباب‭ ‬يائس‭ ‬يفضل‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬بلاده،‭ ‬إنما‭ ‬مأتاه‭ ‬من‭ ‬انصرافنا‭ ‬عن‭ ‬التّوق‭ ‬إلى‭ ‬الآفاق‭ ‬التي‭ ‬رسمَها‭ ‬لنا‭ ‬بورقيبة‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬يردد‭ ‬حلما‭ ‬بتونس‭ ‬جامعةً‭ ‬بين‭ ‬مثالَي‭ ‬سويسرا‭ ‬واليابان‭.‬

ولعل‭ ‬سراج‭ ‬الأمل‭ ‬الباقي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬البورقيبية،‭ ‬مرجعا‭ ‬فكريا‭ ‬وتيارا‭ ‬سياسيا،‭ ‬إنما‭ ‬لها‭ ‬اليوم‭ ‬حُماة‭ ‬آخذون‭ ‬في‭ ‬التوسع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬علموا‭ ‬أي‭ ‬منقلب‭ ‬صار‭ ‬لتونس‭ ‬التائهة‭ ‬عن‭ ‬البورقيبية،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أدركوا‭ ‬أن‭ ‬رمزيتها‭ ‬ليست‭ ‬صنما‭ ‬ثابتا‭ ‬جامدا،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬قيم‭ ‬كبرى‭ ‬أصيلة‭ ‬مطواعة‭ ‬لحركة‭ ‬الزمن‭ ‬والتاريخ‭.

‬*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 11 افريل 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING