الشارع المغاربي: هل يجهل رئيس مجلس النوّاب راشد الغنوشي مدى كارثيّة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في البلاد، حتّى يستعجل رئيس الحكومة لتفعيل صندوق التعويضات لنحو 30 ألف شخص ممّن وُسموا بـ«ضحايا الاستبداد»؟! الإجابة يدركها الجميع، لكن أيّة خلفيّات تقف وراء هذا التجاسر على استنزاف الدولة، زمن جوائحها المتراكمة؟!
قبل يوم واحد من عيد الاستقلال، وتحديدا يوم 19 مارس الماضي، حسمت رئاسة الحكومة مسألة قائمة شهداء الثورة ومصابيها، حين نشرت في الرائد الرسمي القائمة التي ضبطتها «الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة» لتضمّ أسماء 129 شهيدا و634 مصابا. وقبل يوم واحد أيضا من عيد الشهداء، وتحديدا يوم 8 أفريل الجاري، وجّه رئيس مجلس نوّاب الشعب إلى رئيس الحكومة رسالة توصية تحثّه على «تمكين صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد من مقرّ ومن جميع الوسائل اللوجستيّة والبشريّة في أقرب وقت ممكن حتّى يتسنّى له القيام بالمهام المناطة بعهدته». أمّا الفارق الجسيم بين الانعكاسات الماديّة للأمرين، فيتمثّل أساسًا في أنّ تسوية حقوق عائلات شهداء الثورة وجرحاها لا يفوق الأخذ بمتطلّبات جبر الضرر المتعلّقة بـ763 ملفّا، في حين أنّ رسالة راشد الغنوشي تتعلّق بممارسة ضغوط على رئاسة الحكومة من أجل توفير مستلزمات لوجستيّة باهظة التكاليف وإجراء انتدابات وظيفيّة جديدة لتيسير عمل الصندوق المذكور، على أن «تُحمَل مصاريف لجنة التصرّف في الصندوق على ميزانية رئاسة الحكومة»، حسب منطوق الفصل 9 من الأمر الحكومي عدد 211 لسنة 2018 المتعلّق بتنظيم صندوق الكرامة، وذلك تمهيدا للمُضيّ في تقديم التعويضات لحوالي ثلاثين ألف شخص، وتحديدا 29950 شخصا. تعويضات تُقدّر برقم خرافي يناهز 3000 مليون دينار يُطالَب رئيس حركة النهضة الدولة بدفعها، وتتأتّي أساسا من عرق دافعي الضرائب، إلى جانب ما قد يُجمع من ملاليم التبرّعات المحليّة ومن مساعدات بعض الجهات الأجنبيّة، وكأنّ المعارضين السياسيّين أحقّ بالتعويض والإحاطة من عشرات الآلاف من الفقراء والمحرومين والعاطلين عن العمل. فمن المؤكّد أنّ من شأنها ألّا تُرهق فقط ميزانيّة الدولة، بل وتستنزفها أيضا حتّى آخر رمق…
الثرى والثريّا!
هذا التزامن، «ما قبل يوم واحد»، له كذلك أبعاد رمزيّة عميقة. فقد كان من الطبيعي أن تستبق الحكومة ذكرى عيد الاستقلال لتسجيل اعترافها الرسمي بشهداء وجرحى أدّى حراكهم التلقائي وغير الحزبي، خلال شهري ديسمبر 2010 وجانفي 2011، إلى إسقاط النظام الاستبدادي السابق، فكأنّ هؤلاء حقّقوا بشكل رمزي استقلالا ثانيًا افتكّوا به حريّة الكلمة التي كانت شبه مغيّبة قبل عام 2011. اعترفت الدولة إذن رسميّا، ولو بعد عشرة أعوام مريرة، بشهداء الثورة وجرحاها وسجّلت في تاريخها الحديث أسماءهم بأحرف لامعة. إنجاز جاء متأخّرًا ممّا تسبّب في تعميق المعاناة وضياع حقوق من أمعنت صروف الحياة في العبث بهم، ولكنّه يبقى إنجازا مهمّا جدّا على الرغم من أنّ الاعتراف بحقّ هؤلاء كان قائما بالنسبة إلى من نالوا سابقا تعويضات ماديّة. كما أنّ لا شيء يحول دون تسوية الملفّات المتعلّقة بما يُروّج عن تغييب القائمة بعض الأسماء لشهداء الثورة وجرحاها.
أمّا رسالة الغنوشي فقد سبقت بيوم واحدٍ الذكرى الـ83 لعيد الشهداء الذي ينبغي أن يذكّر التونسيّين بأنّ ذلك اليوم المشهود جاء على خلفيّة مطالبة قيادات الحركة الوطنية الشعب التونسي آنذاك بالخروج للتظاهر ضدّ قوّات الاحتلال والمطالبة ببرلمان تونسي وبحكومة وطنيّة. وبذلك ساوت توصية الغنوشي ذات المضمون المادّي المحض، رغم أنّها صادرة من مكتبه ببرلمان باردو، بين من سالت دماءهم من أجل مقاومة جبروت الاحتلال المتوحّش دون انتظار أيّ مقابل مادّي ينسف تضحيّاتهم، ومن كان حراكهم السياسي حزبيّا وأيديولوجيّا صِرفًا ولا علاقة له بالمطالب الشعبيّة. فبغضّ النظر عمّا يُروّج من عمليّة تعمية وتعويم بخصوص الفئات المتنوّعة لضحايا الاستبداد من يساريّين وقوميّين وإسلاميّين وغيرهم، فإنّه لا يخفى عن ذي إدراك أنّ الأغلبيّة الغالبة من الثلاثين ألف «مستفيد» هم من أنصار حركة الاتّجاه الإسلامي ووريثته النهضة، أي ممّن كانت معارضتهم للنظام السابق مدفوعة تحديدًا بعقيدتهم في الاستخلاف وممّن كان يحاول الاستيلاء على الحكم واستبداله بنظام يحكم بمنوال معيّن للشريعة الإسلاميّة، بل وممّن يشترك مع النظام الذي كان يُعاديه في عدم الإيمان بتاتا بالديمقراطيّة وما يرتبط بها عضويّا من قيم الحريّة والمساواة والحقوق الفرديّة. فلا يهتمّ إلى حدّ اليوم إلّا بآليّاتها الانتخابيّة من أجل الوصول إلى الحكم وعدم التنازل عنه وخصوصا عن غنائمه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لا يعني هذا طبعا السقوط في بوتقة ما يروج من شعارات سياسيّة مضادّة حول «النضال المدفوع الأجر». كما لا يعني تبخيس المبادئ التي بُنيت عليها قيم العدالة الانتقاليّة، بما في ذلك ضرورة مساءلة الجلّادين ومحاسبتهم وجبر الضرر للضحايا الحقيقيّين، بالنظر إلى ضرورة تجنّب التمييز بين ضحايا الاستبداد، مهما كانت توجّهاتهم الأيديولوجيّة والسياسيّة. ومع ذلك شتّان بين الثرى والثريّا، بين من ناضل واستشهد من أجل تحرير الوطن من المحتلّ ومن مغتصب الأرض ومستبيح العرض أو من شباب خرج تلقائيًا من حواشي الأحياء الشعبيّة احتجاجا على نظام قمعي فاسد، وبين من كان نشاطه السياسي والحزبي المعارض يتناسل في خلايا سريّة مبثوثة حول المساجد ومحكوما فقط بهواجس أيديولوجيّة لا شعبيّة وبطاعة عمياء للجماعة والزعيم.
يرفع رئيس البرلمان اليوم إذن شعار الحرص على استكمال مسار العدالة الانتقاليّة وتنفيذ قانون العفو العام الذي أخرج من غياهب السجون، من بين من أخرج، الكثير من المحكومين في قضايا إرهابيّة، ما لبثوا أن عادوا إلى غيّهم، وانتفضوا مجدّدا مكفّرين المجتمع، واستقطبوا شبابا يافعا عانى الحرمان وحوّلوه إلى عبوّات ناسفة وأشلاء إرهابيّة متنقّلة تحت جنح الظلام كالذئاب المنفردة المستعدّة للانفجار والانقضاض على فرائسها في أيّ مكان وحين…
للحساب الخاص!
كان من الطبيعي إذن أن تثير مراسلة الغنوشي لرئيس الحكومة جدلا واسعًا حول المضمون والتوقيت. فقد اعتبر منجي الرحوي النائب عن حزب الوطد الموحّد أنّ «البلاد تعيش أصعب المراحل في تاريخها المعاصر ولا تحتمل صرف التعويضات، في وقت أدّت فيه سياسات التفقير وجائحة كورونا إلى تجويع التونسيين»، على حدّ تعبيره. الرحوي رأى أنّ الهدف من محاولة استحثاث تركيز الصندوق المذكور يكمن في «شراء ذمم قواعد حركة النهضة» التي وصفها بـ»المتململة». والأدهى من ذلك ما ذهب إليه النائب المذكور، خلال جلسة عامة للبرلمان انعقدت الأسبوع المنقضي، بشأن «توزيع 29950 وصلا تحت الطاولة» أي على كافّة المعنيّين بصندوق الكرامة!؟.
ورغم ضرورة التدقيق في تصريحات الرحوي باعتبار أنّ مواقفه محكومة آليّا باستهداف خيارات حركة النهضة، فإنّه قد أصاب في تساؤله حول دلالات توقيت المطالبة بتفعيل الصندوق المذكور في هذا الظرف بالذات، مقابل «البطء في إصدار أوامر واردة في قانون الماليّة تخصّ الفئات الهشّة» التي تنوء تحت وطأة الحرمان. والحال أنّ مئات الآلاف من التونسيّين يكابدون تراجع مقدرتهم الشرائيّة جرّاء الغلاء الفاحش للأسعار. ومن ثمّة، يجد ما أبداه هذا النائب من أنّه «لا يمكن أن يكون إلا صندوقا جديدا لنهب التونسيّين ومزيد تفقيرهم» أكثر من مبرّر آنيّ، لاسيما أنّ الصندوق المذكور سيُعنى بتوزيع ما لا يقلّ عن 3000 مليون دينار، وفق ما ذكره النائب وما أشار إليه خصوصا عبد الرزاق الكيلاني رئيس «الهيئة العامّة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليّات الإرهابيّة» ورئيس لجنة التصرّف في «صندوق الكرامة» الذي كان قال حرفيّا، في تصريح لإذاعة «إي.آف.آم» بتاريخ 8 ديسمبر 2020، إنّ «التعويضات مبالغ ضخمة، يُقال إنّها تبلغ 3 مليار دينار».
ذراع النهضة
ألا يُدرك عبد الرزاق الكيلاني رئيس لجنة التصرّف في «صندوق الكرامة» حجم هذه المزالق القانونيّة والسياسيّة وحتّى الأخلاقيّة التي عدّدها بعض زملائه في المهنة؟! الظاهر أنّ عميد المحامين زمن نظام بن علي، المعيّن في أكتوبر 2020 على رأس «الهيئة العامّة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليّات الإرهابيّة»، يأخذ فقط بالفوائد العمليّة للممارسات السياسيّة، وربّما يُدرك أكثر من غيره أنّ جلّ أمور هذه البلاد باتت تُدبّر بليل أو وفق أجندات سياسيّة غير معلنة، وأنّه عليه أن يتموقع في صفّ الرابحين وتحديدا في صفّ من استوزره زمن حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة ومن رشّحه إلى منصبه الحالي. ومن ثمّة، لا ينبغي أن نستغرب إطلاقا دفاعه المستميت عن استعجاله مباشرة مهام توزيع التعويضات بصرف النظر عن الأوضاع الاقتصاديّة المتناهية السوء للدولة، نظرا إلى ما سيمنحه ذلك من سلطة، ولو مؤقّتة.
الكيلاني برّر الأمر دون مواربة، في حوار مع وكالة تونس إفريقيا للأنباء، قائلا إنّ «الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعية التي تعيشها البلاد لا تحول دون التعويض لكلّ من تم اضطهاده قبل الثورة بالنظر إلى أن الدولة ملزمة بالدستور والقوانين والمواثيق الدوليّة بالتعويض وجبر الضرر لهم حسب إمكانياتها». وهو نفسه الذي ذكر أنّ التعويضات تناهز 3000 مليون دينار، فعن أيّة إمكانيّات يتحدّث؟!. وطبعا فإنّه غير قادر على إقناع التونسيّين، من غير أنصار حركة النهضة، بأنّ جبر الضرر «سيُمكّن من طيّ صفحة الماضي وتحقيق السلم الاجتماعي بالبلاد» مثلما يقول، أو بضرورة «إعطاء الأولويّة لهذه المسألة (التعويضات) حتّى يتمّ القضاء على الضغينة والأحقاد في نفوس ضحايا الاستبداد»، حسب ما ذهب إليه خلال جلسة استماع عقدتها اللجنة البرلمانيّة الخاصّة بشهداء الثورة وجرحاها قبل أيّام معدودة من مراسلة رئيس البرلمان لرئيس الحكومة. فالمسألة كانت بلا ريب في غاية الترتيب والتمهيد والتدبير…
هذه إذن أولويّة الأولويّات التي تحتاجها تونس اليوم!!، أي زمن ما تعيشه من جوائح صحيّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة بالنسبة إلى كبير المقاومين والمتصرّف الأوّل المكلّف بصندوق التعويضات، ومن ورائه الغنوشي الذي يتصرّف بصفته زعيم جماعة لا باعتباره رئيس برلمان، ولا يبحث من خلال إكراه الحكومة على استعجال الصرف قبل التصرّف إلّا عن طمأنة قواعد جماعته وترضيتها من أجل ضمان استمرار طاعتها في معاركه الداخليّة والخارجيّة. فهذه التعويضات لن تُدفع إلى من قاوموا قوّات الاحتلال الفرنسي الغاشم بل يُنتظر أن يُمنح سوادها الأعظم لمعارضي النظام السابق من منتسبي حركة النهضة. كيف لا يقلب الكيلاني الأولويّات وهو يروم أن يجعل من هيئته وصندوقه نسخة ثانية من «هيئة بن سدرين»!. فقد كشف هو نفسه، في حواره مع وكالة الأنباء الرسميّة، عن «وجود مشروع لتنقيح الأمرالمحدث للهيئة -التي يترأسها- لتشمل مهامها استكمال مسار العدالة الانتقالية وتنفيذ التوصيات الواردة في التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة»!. يعكس ذلك للأسف مسارا معلوما لدى فئة من النخب القانونيّة والسياسيّة والإعلاميّة «المجتهدة» في تنفيذ التعليمات ضمانا قبل كلّ شيء لمصالحها الظرفيّة…
هذه إذن بعض الخلفيّات التي جعلت رئيس حركة النهضة، في ظلّ إكراهات القواعد وضغوط الخارج، يستغلّ قدر المستطاع حالة الضعف المتمكّنة من الدولة والحكومة من أجل استباق ما قد يجدّ في البلاد من تطوّرات ربّما تؤدّي أصلا إلى تغيير المعادلات السياسيّة الراهنة، على غرار مغبّة إلغاء الأمر الحكومي المتعلّق بتنظيم هذا الصندوق الذي اتّخذه رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد خضوعًا لضغوط حركة النهضة نظير دعمها له ضدّ نجل الرئيس الراحل حافظ قائد السبسي المقيم خارج البلاد خشية محاسبته جزائيّا على ممارساته الغنائميّة التي سيتكفّل التاريخ بكشفها ولو بعد حين. وللتونسيّين في تاريخهم أكثر من عبرة…
نُشر بأشبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 20 افريل 2021