الشارع المغاربي – لطفي النجّار : “رفقا بالتاريخ” ربّما هي العبارة الموجزة التي تليق بتوصيف هذا الغبار الكثيف الذي أحدثه عبد الجليل التميمي ومن معه حول “وثيقة الاستقلال“، والتشكيك في الحدث عبر سحب نقاش أكاديمي علمي مطلوب دائما من مربّعات الجامعة والنقاش الأكاديمي الرصين إلى دوائر مهاترات التبخيس والتجريح في نخبنا العلمية في الفضاء العام. بعد الستين مؤرّخا الذين ردوا على مغالطات التميمي، يأتي نص آخر ممضى من أكثر من خمسين مؤرخا أكاديميا يدعو مرّة أخرى إلى أن يرفق التميمي بالتاريخ.
يدعو ردّ المؤرخين في جملته الأخيرة المعبّرة التي تختزل هذا الاشتباك بين أهل علم التاريخ من دكاترة وأكاديميين من جهة، وعبد الجليل التميمي من جهة أخرى، إلى التذكير ب“أنّ المؤرخ يستمد شرعيته المعرفية، أوّلا وبالذات، من اعتراف الوسط الأكاديمي بقيمة أبحاثه وليس من الاصطفاف الظرفي وراء أصحاب النفوذ“. هذا التذكير الذكي يعيد أمر العلم إلى نصابه المفترض وهو ساحة البحث الأكاديمي وليس السقوط في معارك ثأرية طاحنة والاصطفاف لجهة بعينها عبر توظيف وتأويل أحادي للوثائق والتعسّف على سياقات التاريخ ومحاولة إسقاط معارك إيديولوجية معلومة على حساب الموضوعية والحقيقة العلمية.
رفقا بالتاريخ…شكلا ومضمونا
بعد أن غرّد عبد الجليل التميمي خارج أهل الاختصاص في أسلوب مخلّ معتبرا أنّ البيان المنشور و الممضى من ستّين مؤرّخا “مهزوزا وغير مدروس وفيه الاعتباط والكذب وعدم الصدق وعدم النزاهة“، مضيفا أنّه يتأسّف لزملائه المؤرّخين الذين انساقوا حسب توصيفه وراء “نصّ مهزوز” و“الذي لا يمثّل شيئا في صدقية وأمانة التاريخ” حسب تقديره، يأتيه الردّ شافيا وافيا هذه المرّة من أكثر من خمسين مؤرّخا. جاء الردّ مفصّلا لسلسلة الانزلاقات التي قام بها التميمي في حقّ العلم وفي حقّ زملائه الأكاديميين، وفي حقّ خاصة الحقيقة العلمية التي تستوجب الموضوعية والرصانة والترفّع عن متاهات الثأر الإيديولوجي وتصفية الحسابات مع الخصم السياسي. اعتبر الممضون على بيان “رفقا بالتاريخ” وهم نخبة علم التاريخ في جامعاتنا المشهود لهم بالكفاءة العلمية وأصحاب الكتب والمؤلفات والأبحاث المنشورة في الداخل والخارج وفي الدوريات العلمية المعروفة عند أهل العلم، فيه انحرافات إيتيقية في الشكل و“تلبيسات” ومغالطات في المضمون.
شكلا، اعتبر الممضون أنّ تصريح التميمي قد تضمّن إيحاءات سلبية تبخس قدر ستين مؤرّخا تونسيا، يوحي بأنّه “بيان احتجاجي يقارع الفكرة بالفكرة، ويردّ على الحجّة بالحجّة استنادا إلى مرجعية معرفية مضبوطة أو محاذير منهجية متّفق عليها“، في حين قد “ورد في شكل ردّ انفعالي متضارب لا تربط بين مقدّماته واستنتاجاته أيّة روابط“. ويضيف المؤرّخون في ردّهم على التميمي، أنّ ردّه قد جاء من خارج المؤسّسة الجامعية خلافا لما هو متعارف عليه بخصوص نقد المواقف العلمية، وأنّ “السجل اللّغوي الذي استعمله السيّد عبد الجليل التميمي لا يمتّ للحقل الأكاديمي بصلة“، لما تضمّنه من نعوت لا تليق وتجريح “يلاحظ أنّ مفرداته تندرج ضمن منطق يستند إلى ثنائيات الإدانة والتبرئة والتبخيس والتعظيم، ولا ترتقي إلى مستوى اللّغة الوظيفية الدقيقية” كما يشير نصّ البيان.
أمّا في الجانب الجوهري، فقد ذكّر المؤرخون الممضون على هذا الردّ عبد الجليل التميمي بمسألة أساسية ومبدئية مفادها أنّ الذاكرة والتاريخ حقلان مختلفان، وأنّ “النشر المتواتر لأعمال السيمنارات ليس حجّة يعتدّ بها للتدليل على ضمان الجودة، وأنّ الناشر، وإن كان مسؤولا عن مضمون ما ينشر، لا يمكن أن ينسب لذاته أعمال غيره“. كما ذكّروه أيضا كما جاء في نصّهم بشكل واضح وجليّ: “إنّ عددا من المؤرخين الذين قدح السيّد عبد الجليل التميمي في ذمّتهم العلمية سبق لهم نشر بعض أبحاثهم لدى مؤسّسته، وهذا القدح يسيء إليهم، لأنّ مؤسّسته ممثّلة برئيسها قد قبلت بتلك الأبحاث وقامت ببيعها منشورة وقبضت معلوم بيعها كاملا، ثمّ أدار لهم صاحبها بهذه التصريحات ظهر المجن“.
التميمي و…”جوقة ناكري الاستقلال“
في النقاط الأربع الأخيرة من الردّ على هفوات وأخطاء التميمي، و“انخراطه في “جوقة ناكري الاستقلال” Les Negationnistes ، يعرب المؤرخون عن “استغرابهم” ممّا أسموه ب“الصحوة المتأخّرة” للتميمي، واندهاشهم إزاء هذا “الوعي المفاجىء” ب“زيف الاستقلال” من “السيّد عبد الجليل التميمي الذي أعدّ أطروحة حول “الحاج أحمد باي وبايليك قسنطينة 1830 ـ 1837“، واشتغل بصورة رئيسية بالتاريخ العثماني ولم يقترب من التاريخ التونسي المعاصر إلّا بصفة عرضية ومن خلال أبحاث غيره“. هذا إضافة كما يشير بيان المؤرخين إلى أنّ “التباهي بكثرة المنشورات يطرح مشكلا منهجيا دقيقا“، نظرا لتعدّد الاختصاصات وتنوّعها وتباينها العجيب، في حين يتساءل الأكاديميون “كيف يمكن أن تدّعي مؤسّسة خاصّة الاشتغال على كلّ هذه المحاور المتباينة من دون توفّرها على هيئة علمية معروفة أو سند مالي، فقصارى ما يعرفه الملاحظون حولها ينحصر في بعض المعطيات الشحيحة، منها أنّ إحداثها تمّ من قبل موظّف عمومي قبل سنوات من إحالته على التقاعد وأنّه اختار لها مقرّا فاخرا يقع خارج العاصمة ( زغوان)” وهو ما يطرح فعلا إشكالا إن لم نقل إحراجا علميا وأخلاقيا فعليا.
إنّ ردّ المؤرخين الأخير قد جاء بعد أن طفح الكيل من “تبخيسات“ التميمي المجّانية لأهل الاختصاص، وإعادة اعتبار للعلم على إثر ولوج “غير المؤرخين” مضمار النقاش الأكاديمي لكشف “خفايا تاريخ الاستقلال” التي “غفل عنها” المؤرخون المحترفون لينصبوا أنفسهم كجهة “ناطقة باسم المدرسة التاريخية” زورا وتلبيسا على النّاس.
لجوقة ناكري الاستقلال نقول ما خطّه حمادي بن جاء بالله من كلّمات توفي حق علم التاريخ وفنّه في نصّ تحت عنوان :”توفيق البشروش، العميد اللاشرعي“: “التاريخ علم لا يرقى إليه إلّا من كدّ وجدّ..ومن مفارقاته أنّه ليس من شيء أكثر تبدّلا من الماضي من حيث معانيه وما من شيء أكثر ثباتا من الماضي ذاته لكن من جهة وقائعه…وهو بالتالي يطالبنا بإعادة قراءته على الدوام، غير أنّه ينبغي ألاّ نخلط بين تأويل الوقائع تلمّسا لما يمكن أن يكون لها من المعاني الإنسانية التاريخية وبين الوقائع التي شهت لها دماء زكيّة وعذابات عاشها شعبنا بصبر الأنبياء…”.