الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: أذنت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس في 17 أوت 2023 بالاحتفاظ بصاحب سلسلة محلات ومغازات مختصة في بيع الدواجن وعلف الدواجن وذلك من أجل شبهات الاحتكار والمضاربة في السوق في مادة العلف النباتي المدعم وشبهات غسل وتبييض الأموال.
ويعيد هذا الإيقاف إلى المشهد العام في البلاد ما راج حول تحكم بارونات العلف الحيواني في مسالك القطاع وتلاعبهم بالأسعار وتأثيرهم السلبي على الفلاح والمستهلك على حدّ سواء. غير أنّ الوضع أعقد ممّا يبدو عليه إذ تعجز المالية العمومية باطّراد عن توفير الموارد المالية الكافية لاستيراد المواد الاساسية وتوفير الدعم اللازم لها فيما تستفيد المجموعات الصناعية الضخمة من وضع احتكاري ويتفاقم الفساد يوما بعد يوم ليتغلغل في كل القطاعات بلا استثناء ويتصاعد عجز هياكل الرقابة والتعديل في نسق مخيف.
إنتاج تونس من الدواجن
حسب المجمع المهني المشترك لمنتوجات الدواجن والأرانب يزود قطاع الدواجن البلاد بـ 50 بالمائة من مجموع اللحوم وجميع الاحتياجات من بيض الاستهلاك. علاوة على ذلك ورغم أن أسعار منتجات الدواجن في متناول عدة شرائح اجتماعية وإن بدرجات متفاوتة يمثل هذا القطاع حوالي 25 بالمائة من قيمة الثروة الحيوانية و8 بالمائة من الإنتاج الفلاحي.
قطاع دجاج اللحم
يتكوّن قطاع دجاج اللحم في أغلبيّته من صغار المربين الذين لديهم طاقة استيعاب أقل من 5000 طير في الدورة الواحدة. كما توجد بعض الشركات في مستويات مختلفة )أمّهات ومفارخ ومنشآت تربية ومصنع علف ومسالخ ونقاط بيع) . ويقدّر مجمل لحوم الدّواجن الأخرى والمتأتية أساسا من دجاج البياض المسن وأمهات الدجاج المسن والدجاج التقليدي بـ 11.900 طن أي ما يقارب 7.6 بالمائة من الانتاج الجملي.
أمّا بالنسبة للطيور الثانوية فإنتاجها غير معروف بصفة دقيقة وهو إنتاج ضئيل. وتطوّر الإنتاج الجملي للبيض خلال السنوات الخمس الأخيرة من 1.44 إلى 1.55 مليار وحدة.
كما يساهم قطاع الدواجن بنسبة 12 بالمائة في الإنتاج الفلاحي و32 بالمائة في الإنتاج الحيواني إضافة إلى مساهمته في تغطية الحاجات الاستهلاكية من اللحوم بنسبة تتراوح بين 50 و53 بالمائة وتوفيره ما لا يقل عن 15 ألف موطن شغل حسب إحصائيات رسمية. وقد بلغ إنتاج تونس من لحوم الدواجن 185 ألف طن في 2017 ثم ما انفك يتراجع بنسق مستمر.
المشكل الأساسي
تعود زيادة أسعار الأعلاف في الميدان الفلاحي الى العديد من العوامل من بينها تراجع قيمة الدينار وارتفاع أسعار الأعلاف في الأسواق العالمية بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا وهما من كبار المنتجين للأعلاف في العالم. ولعلّ أهم عامل حصل حوله إجماع هو احتكار مجموعات كبرى توريد الأعلاف في تونس وإنتاجها مما أدّى لاحقا للتلاعب بأسعارها والمضاربة فيها.
ويشتكي صغار الفلاحين الذي يمثلون 90 بالمائة من مربيي الأبقار والدواجن من ارتفاع كلفة إنتاج اللحوم والحليب والتي لا تتناسب مع أسعار البيع مما لا يترك لهم إلا هامش ربح ضئيل بل أحيانا يتم البيع بسعر الكلفة.
كما يتم توريد الأعلاف المتكونة من الذُرة والصوجا بالعملة الصعبة وتتأثر أسعارها بالأسعار العالمية وهي تسير قدما في اتجاه الارتفاع.
وتمثل الأعلاف الحيوانية 70 بالمائة تقريبا من كلفة الإنتاج سواء بالنسبة للتر الحليب أو للكلغ الواحد من اللحم وبالتالي تنعكس كل زيادة في سعر الأعلاف الحيوانية سلبا على كلفة الإنتاج وتتطلب في المقابل زيادة في سعر الحليب واللحوم حتى لا يتضرر الفلاح.
يوجه الدعم العمومي فقط لنوعين من الأعلاف هما السداري والشعير ولا يشمل أغلبية الأعلاف الخشنة الضرورية لإنتاج الحليب واللحوم مثل الصوجا والفصة والذُرة التي يتم استيرادها بالعملة الصعبة عن طريق الخواص وتخضع لتقلبات الأسعار في السوق العالمية ولنسبة التضخم الاقتصادي والمضاربات الداخلية بين كبار التجار والمجامع المهنية.
من يحتكر إنتاج الأعلاف وتوزيعها في تونس؟
تهيمن شركات إنتاج الأعلاف الخاصة على مختلف مسالك توريد وإنتاج وبيع الأعلاف منذ دخولها تونس في حالتها الأولية حتى رحيها وخلطها وتوزيعها. وبالإضافة للاتهامات الموجهة لهذه الشركات بالتلاعب بالأسعار وبكميات الأعلاف فإن البعض منها يتلاعب بتركيبة هذه الأعلاف عبر خلطها بمواد غذائية أخرى غير علفية مثل المعجنات كما ثبت ذلك في مرات كثيرة حين تم الكشف عن مصانع عجين غذائي يتم التلاعب به وتوجيهه علفا للحيوانات.
وتشير تقارير وبحوث استقصائية إلى أنّ مجموعات صناعية ضخمة تسيطر على قطاع إنتاج البيض واللحوم البيضاء والى انها ذاتها المزود الوحيد للفلاحين بالمواد الأولية الأساسية أي الذرة وفيتورة الصوجا. كما تفيد التقارير بأن المجموعات المذكورة تشتري بدورها فيتورة الصوجا من شركة خاصة هي المزود المحلي الوحيد بهذه المادة. وجدير بالذكر أنّ الدولة التونسية لا تستورد فيتورة الصوجا.
ويتم شراء الاستهلاك المحلي من الشركة الخاصة التي تستورد حبوب الصوجا وبعد استخراج الزيت منها تستعمل فيتورة الصوجا في صناعة الأعلاف. وبعدما أصبحت المادة تصنّع في تونس فرضت المجموعات الصناعية الضخمة على الشركة الخاصة ان تبيعها حصريا مما خلق وفاقا أصبح يتحكم في سعر العلف المركب. وبخروج الدولة من هذا القطاع مع بداية القرن الجديد وإعداد كراس شروط لاستيراد الذرة وفيتورة الصوجا ارتكبت الدولة خطأ جسيما تمثّل في منح الفرصة للمجموعات الصناعية الضخمة للهيمنة على المجال ولاحتكار تزويد منافسيها بالأعلاف…
ويخول هذا الوضع الاحتكاري لهذه المجمعات هامشا واسعا لتحديد الأسعار لا حسب تقلّبات السوق العالمية فحسب ولكن كذلك حسب استراتيجياتها الربحيّة وهو ما يجعلها مستفيدة في كل الأحوال سواء خلال إنتاج الأعلاف وبيعها أو عند إنتاج اللحوم والدواجن.
وبالتالي فإن المجموعات الصناعية الضخمة التي تحتكر استيراد العلف وإنتاجه وتسويقه تسجل أرباحا مضاعفة من إنتاج الأعلاف بما أنها لا تكتفي بالمتاجرة فيها فقط وإنما تستفيد من كلفة إنتاجها المنخفضة عبر شركاتها.
اتحاد الفلاحين؟
يتهم عدد كبير من صغار الفلاحين خاصة منهم مربيي الدواجن والماشية الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري بالتواطؤ والصمت على احتكار إنتاج الأعلاف وارتفاع أسعارها.
وقد نفى الاتحاد مرارا هذه التهم وكان آخر نفي له في 12 جوان 2023 ودحض فيه تهم الفساد الموجهة لهياكله المحلية والجهوية بخصوص ادارة ملف الأعلاف المدعمة )شعير علفي / سداري) .
وأكد في بيان صادر عنه أن التهم الموجهة اليه باطلة وانها تتضمن مغالطات متعمدة مشيرا الى أن توزيع الأعلاف المدعمة يتم تحت اشراف لجان وطنية وجهوية ومحلية تضم مختلف الأطراف الرسمية المتدخلة في القطاع (تحت إسم لجان تنظيم وتوزيع المواد العلفية المدعمة( والى ان مهامها تخصيص الحصص وتحديد المنتفعين بها.
وأوضح الاتحاد في ذات السياق أنه ليس سوى مكون من مكونات هذه اللجان إضافة إلى انه مكلف بتنسيق عملية توزيع العلف المدعم طبقا لقرارات اللجان وانه يخضع للرقابة والمساءلة من قبل مكونات هذه اللجان تحت إشراف مباشر للسلطة التنفيذية والإدارية.
ولفت إلى أن الإشكالية الأساسية تكمن في النقص الكبير في الكميات الموضوعة على ذمة الفلاحين مؤكدا انها لا تتجاوز في أحسن الحالات 55 بالمائة من الحصص المخصصة لهم من قبل المطاحن وانه يتم ترويج كميات أخرى في السوق السوداء بأسعار مضاعفة عبر مسالك موازية لا يعرف مصادرها.
وجدير بالذكر في نفس السياق أنّ الحكومة أعادت في موفى شهر جويلية الفارط ضبط تركيبة كل من اللجنة الاستشارية المكلفة بتنظيم تعاطي الصيد البحري واللجنة الاستشارية لإسناد رخص صنع وتوريد وحدات الصيد البحري دون منح الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري العضوية فيهما.
ويترأس اللجنة الاستشارية المكلفة بتنظيم تعاطي الصيد البحري وفق الأمر 534 لسنة 2023 الصادر بالرائد الرسمي عدد 83 لسنة 2023 المدير العام للصيد البحري وتربية الأسماك. وتضم اللجنة أعضاء يتم تعيينهم من قبل وزير الفلاحة يمثلون وزارت الدفاع والداخلية والنقل والبيئة وعن الوزارة المكلفة بالصيد البحري والوزارة المكلفة بالبحث العلمي على ان يتم اقتراح المترشحين من قبل الوزارات المعنية.
المرسوم عدد 14 لسنة 2022 وهياكل رسمية عاجزة
غالبا ما يتحدث المسؤولون في الدولة عن تشعب مسالك التوزيع الذي يتسبب في المضاربة بالمنتج الغذائي وهي عملية بيع وشراء يبتغي منها المضاربون الاستفادة من تقلب الأسعار لتحقيق ربح متسببين في خلل على مستوى الكميات المعروضة للبيع حتى يضمنوا تقلب الأسعار. غير أنه لا يمكن أن تكون مسالك التوزيع السبب الوحيد الذي يُلهب السوق. فالدّولة تعجز عن توفير المواد الأساسية بسبب شحّ مواردها المالية ونقص الدّعم العمومي فيما يواجه التونسيون نقصا حادا في المواد الأساسية وارتفاعا حادا في أسعارها.
ويُسلّط المُشرّع عقوبات زجريّة تتراوح بين الخطايا الماليّة والعقوبات السّجنية على كلّ من يُعرقل تحديد الأسعار حسب قاعدة العرض والطّلب أو كلّ من يمارس سيطرة حاسمة على نشاط مؤسّسة أو يدعم وضعيّة هيمنة على السوق الداخليّة طبقا لمقتضيات القانون الصادر سنة 2015 والمتعلّق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار. وتتراوح عقوبة عدم إشهار الأسعار أو الإشهار المنقوص بين خطية بـ 50 دينارا و2000 دينار. وقد تعزز هذا القانون بالمرسوم عدد 14 لسنة 2022 المتعلق بالمضاربة غير المشروعة والذي ينص في الفقرة الثانية من فصله 17 على عقوبة بالسجن مدّة عشرين سنة وعلى خطية مالية قدرها 200.000 دينار إذا كانت المضاربة غير المشروعة تتعلق بمواد مدعمة من ميزانية الدولة أو بالأدوية وسائر المواد الصيدلية”.
ويتمّ تشديد العقوبة لتصل إلى ثلاثين سنة سجنا وخطيّة ماليّة قدرها 500 ألف دينار على كلّ من يمارس أيّ أفعال تدخل تحت طائلة المضاربة غير المشروعة أو من يحدث عروضا في السوق بغرض إحداث اضطراب في التزويد وغير ذلك من الأفعال المجرّمة بالمرسوم.
غير أنّه يصعب تطبيق هذا المرسوم نظرا إلى أنّ عدد المراقبين الـ300 التابعين لوزارة التجارة وهم المكلفون أساسا بتحرير المحاضر ورصد المخالفات ضعيف جدا مقارنة بعدد التجار الذين يمتهنون بيع كل المواد الغذائية إضافة إلى الفساد الذي يتورط فيه بعض المسؤولين أنفسهم.
آفاق القطاع
يواجه قطاع الدواجن في تونس تحديات متعددة ولكن لا تزال ثمة بعض الآفاق المستقبلية. من هذه التحديات ارتفاع كلفة التجهيزات إذ يعاني المربون في قطاع الدواجن بتونس من تكاليف التجهيزات الباهظة.
كما تعدّ معالجة فضلات اللحوم تحديا آخر امام القطاع حيث تفتقر تونس إلى وحدات لمعالجة اللحوم والتخلص من الجثث والنفايات بطريقة صحية. وتوجد حاجة ملحة لتطوير بنية تحتية لمعالجة اللحوم والنفايات الحيوانية المتأتية من قطاع الدواجن بطرق صحية وبيئية ومن الضروري أن تلعب الدولة دورًا تعديليا وتنظيميًا وداعمًا مهمًا من خلال وضع السياسات المناسبة وتشجيع الاستثمارات في هذا القطاع الحيوي ومكافحة الاحتكار وذلك بهدف تحقيق الاستدامة والنمو الأمثل في صناعة الدواجن في تونس.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 اوت 2023