الشارع المغاربي: تابعنا في الإعلام الإعلان عن أولى الشركات الأهلية بجهة بني خيار من الوطن القبلي. وباعتبارها فكرة جديدة فقد وقفنا نستمع للمتحدثين عن القانون المنظم لها فوجدنا مجموعة تصوّرات متناقضة تذكر أهدافا لا يقدّم لها الحدّ الأدنى من مستلزمات التحقيق. فهل يمكن مثلا إنشاء مشروع رأس ماله 10 آلاف دينار يضمّ 50 مشتركا؟… إنّ 10 آلاف دينار على ملك أحد الأفراد لا تمكّنه من إنشاء منزل بغرفة واحدة وحمام إن كانت الأرض متوفرة… فعن أيّة مشاريع نتحدّث وعن أيّة أرباح وأيّة إمكانية لتنمية المشروع وكم سيعول رأس المال هذا من بين الـ 50 مساهما…؟؟؟!!! أمّا عن اقتراح الاكتتاب بدينار من كلّ مواطن في الجهات (وحتّى 5 دنانير) بما قد يجمع 500 ألف دينار لتجمّع يضمّ 100 ألف مواطن، فمن هم الذين سيعملون لأشهر طويلة وبأيّ أجر على تحويل المبلغ إلى مشروع تدور عجلته؟… وهل سيكون المبلغ لإنشاء المبنى أم للتجهيزات أم لأجرة العاملين على الإنجاز ؟؟؟… ونسأل خبراء الصناعة هل تعتبر 500 ألف دينار مبلغا يمكّن من إنشاء مؤسسة اقتصادية تحدث نقلة نوعية في حياة الـ 100 ألف مواطن المساهمين ؟… ثمّ من سيكون من بين أولئك جميعا المستفيدون المباشرون من المشروع؟؟؟…
فإن قيل إنّ أموالا ستضخّ من طرف رجال الأعمال في إطار الصلح الجزائي… قلنا: وهل هناك الآن أيّة خطوة فعلية في مسار التمويل هذا، أمّ أنّ نسج “الحصيرة” هو الضامن لبناء “الجامع” ؟!
هل تشبه الشركات الأهلية مؤسسات الاقتصاد التضامني؟
إنّ ما يعرف بالاقتصاد التضامني الذي تعتمده عديد الدول في العالم لا يشبه في شيء فكرة الشركات الأهلية. وقد أنشئ هذا النوع من الاقتصاد بغاية دعم ومساندة أفراد من ذوي المهن الحرة والشركات الصغيرة إذا وجدوا صيغة شراكة بينهم تجمع نشاطاتهم في مؤسسة واحدة لإدارتها وتسويق منتجاتها…
لذلك تعتبر مقاربة الشركات الأهلية بشركات الاقتصاد التضامني تضليل بحت. ومع ذلك فلنقفز قفزة في الهواء معتبرين أنّ هناك تكتلات ستجمع عشرات الملايين من الدنانير وتنطلق في إنشاء المشاريع. وهنا فليعلم الجميع أنّ المعطّلين عن العمل والذين لا مال لهم لن يكونوا من بين المستفيدين من تلك الشركات. فإذا كان البعض ينتظر من مثلها أن يؤمّن له موطن شغل فليربط على بطنه بضع سنين لعلّ مشاريعها تستقرّ ثمّ تزدهر فتدرّ أرباحا تسمح لها بتوسيع نشاطها بما يستوجب طلب يد عاملة إضافية. ليس الأمر سوء فهم ولا هو حكم على النوايا، ولكنّ فلسفة الشركات الأهلية تنطلق من فكرة تكتّل مجموعة من الأفراد و/أو المؤسسات الصغيرة من ذوات النشاط المهني المتشابه، حيث يتمّ ضمّ هذه الكيانات لبعضها والملاءمة بينها لتكوين مجمع اقتصادي من أجل توحيد العلاقة مع السلط المحلية والإدارة المركزية والتصرّف كشخصية معنوية واحدة.
هل لهذه الشركات مساهمة في تعبئة موارد الدولة؟
الخدمات الوطنية كالتعليم والصحّة العموميين والأمن والدفاع والنقل والبنية التحتية من طرقات وجسور وسدود ومنشآت عامّة كشركات إنتاج الكهرباء والغاز واستغلال وتوزيع المياه…الخ، كلّ ذلك يتأتّى تمويله من الضرائب بدرجة أولى. فهل يُنتظر من الشركات الأهلية أن تدعم موارد الدولة المالية من أجل تأمين تلك الخدمات القومية، ناهيك عن تمويل ما يمكن إعداده في المخططات التنموية المقبلة…؟ الإجابة هي ببساطة: لا. ذلك أنّها ليست مؤسسات مبنية على مبادئ ربحية وإنّما على مبادئ اشتراكية تشاركية تضمن تقارب مستويات الدخل بين المساهمين فيها والذين هم من غير العاطلين عن العمل بالأساس. وليس أدلّ على ذلك من إعفائها من الضرائب لمدّة عشر سنوات، فلا تكون للدولة أيّة فوائد مالية منها طيلة فترة الإعفاء… فإن قيل إنّ قانون الشركات الأهلية يجعلها مطالبة بضخّ 25% من مرابيحها لفائدة الجماعات المحلية قلنا: أوليست الجماعات المحلية مطالبة في المقابل بتوفير البنية التحتية اللازمة لنشاط تلك الشركات الأهلية بحيث أنّ ما ستنفقه البلديات من أموال خلال انطلاق تلك الشركات أكبر قيمة مما سيدخل خزائنها…؟!
هل تعتبر هذه المؤسسات منوالا تنمويّا يساهم في خلق الثروة التي تبددت خلال عشرية 2011-2021؟
طبعا لم تكن تونس بلدا غنيّا قبل 2011، ولكنّها كانت تفي بكلّ التزاماتها المالية تجاه المقرضين الدوليين ولم يكن التضخم فيها قد بلغ مستويات قياسية كالذي نشهده اليوم… حيث لم يعد الباحثون في القمامة استثناء بل صاروا فئة من المجتمع بالنظر لتضاعف أعدادهم… فهل نأمل من الشركات الأهلية أن تخفف وطأة المأساة وتخلق انفراجا تدريجيّا يحلّ العقد الاقتصادية الواحدة تلو الأخرى؟ أم أنّها ستكون في أفضل الحالات كجمعيات المجتمع المدني ذات التدخّل المحدود؟… الكلّ يعرف أنّ مئات من جمعيات المجتمع المدني تسدي خدمات اجتماعية واقتصادية مهمّة كمنابت لبعث المشاريع الرقمية وإسناد القروض الصغيرة للحرفيين ومرافقة أصحاب الشهائد العليا في صياغة ومتابعة مشاريع لهم حسب اختصاصاتهم… وغير ذلك كثير… فهل نعوّل على تلك الجمعيات في تقليص العجز السنوي العامّ للدولة أو التخفيض بشكل جدّي في نسب البطالة أو تعديل الميزان التجاري؟… طبعا لا. لأنّها جهود متفرّقة وغير محكومة ببرنامج قومي يجعلها ترتقي إلى مستوى ما يفترض أن تقوم به الدولة…
فإن غاب دور الدولة؟
نقول يا حسرتنا على الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية… فقد عمل فريق الحكم على مدى عشرية 2011-2021 على “خوصصتها” لحساب الأفراد… واليوم بعد 25 جويلية 2021 نشهد مراحل إنهاء مهامها بالكامل…!!!
لقد أيّد جلّ التونسيين مساء 25 جويلية تعليق أشغال برلمان جلّ أفراده مرتزقة يبحثون عن منافع خاصّة لهم على حساب البلاد والعباد، ولكنّ اعتراضنا الآن هو على اعتبار أنّ سبب الإخفاق يكمن في النظام البرلماني كهيئة تشريعية، وأنّ الحلّ من أجل قيادة ناجحة للبلاد يكون في استبداله بنظام رئاسي أو بالأحرى بنظام حكم الرئيس-وليّ الأمر-المرشد العامّ، بما يحوّل كلّ سلطات الدولة إلى يد وليّ أمر فرد في مقابل رعايا…!!! قد يرى بعض المعترضين أنّ في هذا التوصيف تعبيرا مجازيّا أو مبالغة منفصلة عن الواقع. فليتحروا إذن في سلوك رئيس دولتنا بالنسبة لتمشّيه في تسييرها منذ تاريخ 25 جويلية 2021. هل نرى على الساحة بعض آثار أفكار غير أفكاره…؟ وهل يعير رئيسُنا المجتمعَ اهتماما حين يحتجّ على تلك الأفكار من خلال مثقفيه ووسائل إعلامه التي تنقل آراء الشارع التونسي بجميع مكوّناته…؟ لقد قرّر رئيسنا أنّ الشريحة التي تبارك خطواته هي وحدها “الشعب” ، أمّا البقية فكلّهم متآمرون على الوطن، وإن كانت تلك الشريحة لا تمثّل أكثر من ربع الجسم الانتخابي (بالنسبة لقبول الدستور الجديد) وأقلّ من ذلك بكثير في مواطن أخرى كالاستشارة (5 %)، وفي قراره ذاك تجاهل أو غفلة عن أنّ الديمقراطية في حدها الأدنى تتمّ من خلال تأييد النصف زائد واحد (51%) وما أبعدنا عن ذلك…
حالنا بين العشرية البائسة وما بعد 25 جويلية 2021…
مررنا من الارتزاق بعنوان المعارضة والنضال، إلى المشاريع الخيالية المنقطعة عن الواقع… والحال أنّه لم يعد مجال لإضاعة وقت الجمهور بالاستماع لكلام من ليس له أثر حقيقي أنجزه لصالح المجتمع. لا مجال لسماع من لم يقدّم لسنين وربّما لعقود شيئا يفيد الناس مما يمكن أن يرتقي بالفكر وبالمستوى المعيشي ويدعم مواطنة المواطن. لقد وجد كثير من الأفراد بعد الثورة “المباركة” في اعتلاء المنابر والتوجّه للجمهور عبر وسائل الإعلام أصلا تجاريا يبيعون من خلاله أسماءهم “النضالية”… فزكّى بعضهم بعضا وقدّموا أنفسهم كأصحاب نظريات في الإصلاح والبناء للأوطان… ولكنّ أكثرهم لم يكونوا إلّا مدّعين انتهازيين، جلّ أحاديثهم مجرّد تحويل للوجهة عن القضايا الحقيقية نحو قضايا مفتعلة لخدمة أهداف أصحابها في اعتلاء منصب سام بالدولة. فلندرس آثار سياسيينا الذين مازالوا حضورا في المشهد العام ولنر من وجب شطب اسمه من القائمة لعدم إضافته للمشهد الاجتماعي العامّ غير الخيبة للناس باقتراح أفكار ليس فيها إلّا ما يعلي أصحابها ويغنيهم.
في المقابل بعد 25 جويلية وجدنا الرئيس قيس سعيّد ينظّر لبناء الدولة، ولكن دون مخطط يفهمه الناس ليدعموه كمشروع لهم إن وجدوا فيه بوادر واقعية من أجل النهوض بأحوالهم المنهكة. لا نسمع إلّا مجموعة أفكار هلامية يتابعها الشعب في الخطابات الشفوية بينما تغوص قدماه في الطين كلّ يوم أكثر… أمّا مواصلة توجيه التهم لمن تسبب في ما وصلت إليه البلاد دون التتبع الجزائي للمسؤولين عن ذلك وتحديدهم بالاسم والصفة من أجل الضرب على أيديهم لإيقاف الإفساد، فهو إضاعة لوقت ثمين، بل وفرصة ذهبية لأولئك المفسدين تمكّنهم من طمس آثار كلّ ما اقترفوا من إفساد ممنهج في حقّ الوطن… فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يحاسبهم وقد وجدوا فسحة مريحة لقبر القرائن والأدلة التي تدينهم…
شروط بناء الدولة والإيفاء بوعود الثورة
بناء الدولة لا يستطيع شخص واحد أن ينجزه مكتفيا بنفسه مهما بلغ من النبوغ، بل يحتاج البناء إلى انخراط أفضل من في الوطن من كلّ القوى الوازنة شعبيّا وكلّ الخبراء الأفذاذ من أصحاب الأفكار العلمية التي تنطلق من الواقع وتنفّذ على الأرض بدءا من اليوم والساعة… ولقد كدنا نأمل في بدء الانفراج عندما كان مشروع الدستور الجديد يصاغ من طرف لجنة من الخبراء في تشاور مع ثلّة من ممثلي المجتمع المدني خاصّة لما تضمن ذلك المشروع من فصول تنظّم اقتصاد الدولة بما يشجع الباعثين الشبان والمستثمرين على مضاعفة المشاريع بدل تعطيلها بسبب البيروقراطية الحالية… لقد كدنا نأمل لولا أنّ الرئيس قيس سعيّد اختار أن يلقي بعمل تلك اللجان في سلّة المهملات ويقدّم دستورا لا نعرف من صاغ نصوصه… وبقطع النظر عمّن فعل، فاشتمال الدستور الجديد على فصول قابلة للتأويل في علاقة الدين بالدولة وأخرى تنصّ على احتكار السلطة من طرف الرئيس (سواء كان قيس سعيّد أو غيره) وعدم خضوعه للمساءلة في أيّ وقت من الأوقات وغياب كلّ ما له علاقة بالاقتصاد وخلق الثروة كلها مؤشرات على استفحال الأزمة في البلاد ومزيد الغرق في مستنقع الفقر والفوضى وتأجيل العمل على حلّ المشاكل الحقيقية وتفكيك الدولة لصالح نظم أخرى تعقّد مشهد الحكم بدل حلّه (على غرار القانون الانتخابي الجديد.. )
وحيث نعود إلى موضوع الشركات الأهلية فإنّ الدول لا تدار بغير المخططات الواضحة المفهومة ولا يمكن أن ينقذ تونس وهي على شفا الإفلاس مشاريع الشركات الأهلية حيث لم يستطع أحد من المفسّرين أو الموالين أو المؤيدين لمشروع الرئيس أن يوضّح علاقتها بوعود الشغل والحرية والكرامة الوطنية… وهل قامت الثورة إلّا من أجل تحقيق ذلك…!!!؟
نشر يأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 اكتوبر 2022