الشارع المغاربي: كان من الطبيعي أن يحتدّ الجدل وتتواتر الانتقادات بشأن ما يجري من محاكمات عسكريّة في البلاد منذ إعلان قرارات 25 جويلية، غير أنّ ما يُروّج اليوم عن توظيف جهاز القضاء العسكري لضرب الخصوم السياسيّين له خلفيّاته المرتبطة بمنظومة الحكم السابقة…
من المعلوم أنّ المرجعيّة القانونيّة الأساسيّة لجهاز القضاء العسكري في تونس تتمثّل في «مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة» الصادرة عام 1957 والمنقحة والمتمّمة بالمرسوم عدد 69 المؤرّخ في 29 جويلية 2011، فضلا عن «المرسوم عدد 70 لسنة 2011 المؤرّخ في 29 جويلية 2011 والمتعلق بتنظيم القضاء العسكري وضبط النظام الأساسي الخاصّ بالقضاة العسكريّين». ووفق الفصل 5 من المرسوم عدد 70 المذكور سلفا، فإنّ «القضاة العسكريّين مستقلّون في ممارسة وظائفهم عن السّلطة العسكريّة، ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون». كما أنّهم يؤدّون «اليمين القضائيّة» أسوةً بزملائهم العاملين في القضاء المدني.
في المقابل، ينصّ الفصل 110 من دستور 2014 على أنّه «يُمنع إحداث محاكم استثنائيّة أو سنّ إجراءات استثنائيّة من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة». وتضيف الفقرة الثانية من الفصل الدستوري ذاته أنّ «المحاكم العسكريّة محاكم متخصّصة في الجرائم العسكريّة. ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها». وكما هو معلوم فإنّ «الأمر الرئاسي عدد 117 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 والمتعلق بالتدابير الاستثنائية»، قد انتقى من دستور 2014 ما يحتاجه ولا يتعارض مع توجّهاته، ولم يُبق منه سوى التوطئة والبابين الأوّل والثاني منه، وفق منطوق الفصل 20 من هذا المرسوم، أي أنّه علّق العمل لا فقط بالباب الرابع المتعلّق بالسلطة التنفيذيّة وإنّما كذلك بالباب الخامس المتعلّق بالسلطة القضائيّة ومعظم ما تلاه تقريبا. وهو ما يعني أنّ المؤسّسة العسكريّة غير ملزمة اليوم رسميّا بمقتضيات دستور 2014، بل وقد تخلّصت من عبء التناقض القانوني مع النصّ التشريعي الأعلى. والحال أنّ القضاء العسكري كان يتعهّد بقضايا تشمل مدنيّين زمن كانت حركة النهضة تُهيمن على البرلمان وتقود أو تشارك بنصيب متفاوت في مؤسّسات الحكم.
في هذا السياق، اعترفت يمينة الزغلامي النائبة بمجلس نوّاب الشعب، الذي عَلّق الأمر الرئاسي عدد 117 جميع اختصاصاته، بمسؤوليّة حزبها في عدم تعديل القانون ذي الصلة. وقالت، في حوار على أمواج إذاعة «ديوان آف.آم» مؤخرا، «نحن لم نقدر على سنّ قانون يتماهى مع الدستور الذي يحول دون وجود محاكم استثنائيّة، والقضاء العسكري بكلّ تفاصيله الآن هو قضاء استثنائي».
سوابق معلومة
هذه الوضعيّة التي أدّت إلى تضخّم تحكيم جهاز القضاء العسكري تعود بالأساس إلى امتناع الائتلافات الحاكمة، على امتداد السنوات العشر السابقة، عن إجراء تعديلات على مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة أو إصدار مجلّة جديدة للغرض. ولا أدلّ على ذلك من أنّ المبادرات التشريعيّة لتعديل هذا القانون بقيت حبيسة رفوف مجلس نوّاب الشعب، على غرار مقترح تنقيح مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة كانت الكتلة الديمقراطية قد تقدّمت به، في نوفمبر 2018، بهدف جعلها ملائمة للفصل 110 من الدستور في اتّجاه حصر اختصاص القضاء العسكري في النظر في الجرائم العسكريّة التي يرتكبها عسكريّون دون سواهم.
ولا يخفى أنّ المحاكم العسكريّة هي التي كانت قد تعهّدت، بُعيد عام 2011، بقضايا شهداء الثورة وجرحاها. وهو ما جعل القضاء العسكري عرضةً لسيل من الانتقادات اللاذعة تتعلّق بمؤاخذات بشأن مدى استقلاليّة هذا الجهاز القضائي عن الإدارة وبشكوك حول توفّر ضمانات المحاكمة العادلة وكذلك بعدم علنيّة الجلسات في المحاكم العسكريّة وما إلى ذلك. ومن المفارقات أنّ هذه الانتقادات كانت قد جدّت تحت قبّة قصر باردو، وتحديدا خلال جلسة استماع عقدتها «لجنة شهداء وجرحى الثورة وتفعيل العفو التشريعي العام» بالمجلس الوطني التأسيسي مع عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع الوطني آنذاك. فعلى خلاف ما قد يتبادر إلى الأذهان، فإنّ إرادة تعديل القانون المنظم لجهاز لقضاء العسكري كانت غائبة تماما، سواء في المجلس التأسيسي الذي كانت تتصدّره حركة النهضة أو مجلس نوّاب الشعب الذي لحقه وهيمنت الحركة على سلطة القرار فيه بعد انتخابات 2014 و2019.
وما لا يُراد الوقوف عنده اليوم أنّ القضاء العسكري كان قد تعهّد بالعديد من القضايا، ذات المؤثرات السياسيّة، على غرار قضية التآمر على الأمن الخارجي للدولة، وكذلك الشكاية المتعلّقة بـ»الانقلاب» الذي كان سليم الرياحي قد رفعها ضدّ عدد من الشخصيات من بينهم رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد. وفي المقابل فإنّه قرّر التخلّي عن الشكاية المتعلّقة بالجهاز السرّي لحركة النهضة لخروجها عن دائرة اختصاص القضاء العسكري.
من الواضح إذن أنّ الالتجاء إلى القضاء العسكري اليوم لم يأت من فراغ إطلاقا، وإنّما سبقته ممارست وعوامل تمهيديّة، لاسيما عمليّة تهرئة متزايدة للقضاء المدني، حتّى بات مثار انتقادات جمّة متأتية من مختلف الاتجاهات. وهو ما أثّر في صورة القضاء العادل لدى الرأي العام عموما، ولاسيما بالنظر إلى ما يُروّج علنًا عن «التلاعب» الخطير بملفّات قضايا الإرهاب والاغتيالات السياسيّة، فضلا عمّا يُردّد عن خضوع بعض القضاة لتعليمات قيادات حزبيّة وتمطيط القضايا وإطالة الإجراءات وما إلى ذلك، في ظلّ ظروف العمل الصعبة لهذا المرفق الحيوي…
خلفيّات وحسابات
رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر قال، منذ أيّام في ندوة لجمعيّة القضاة، إنّه «لا يمكن قبول دخول السياسة إلى قصور العدالة، ولا يمكن للقاضي أن يكون مسيّسا، خاصّة أنّ ذلك يمثّل مدعاة إلى الشك في الأحكام القضائيّة». هذا التصريح يندرج، كما يُدرك الجميع، ضمن ما يجب أن يكون دون أن يعكس ما هو قائم في البلاد فعليّا. فالواقع المتشعّب للمنظومة القضائيّة، في تونس ما بعد الثورة، لم يُتح انعتاق القضاء والقضاة من تأثير السياسة والسياسيّين والأحزاب ومن شبكات العلاقات الزبونيّة ومن تدخّل مراكز القوى المهيمنة بشكل عام. وليس من قبيل التجنّي التصريح بأنّ السلطة التنفيذيّة تملك من الوسائل ما أتاح لها في مناسبات عدّة التدخّل في الشأن القضائي واستمالة قضاة وامتهان آخرين. ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى مثالين وحسب، يتعلّق أحدهما بتوظيف الجهاز القضائي في عدد من القضايا التي أثيرت زمن رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد ضمن ما سُمّي آنذاك بحملة «الحرب على الفساد». ويعود المثال الآخر إلى فترة حكم الترويكا حين استخدم وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري «الحركة القضائيّة»، التي أعلنها في سبتمبر 2012، للهيمنة على الجهاز القضائي وإقصاء من لم يسر في صفّه ولم يجر إلى حضن حركة النهضة. وهذا ليس من قبيل الرأي وإنّما نقل لما كشفته آنذاك «جمعيّة القضاة التونسيّين» و»المرصد التونسي لاستقلال القضاء» في بيانات موثّقة، اعتبرت فيها أنّ الحركة القضائيّة التي أجرتها وزارة العدل وما إليها من إسناد الخطط الوظيفيّة والترقيات للقضاة «تمهّد إلى السيطرة على جهاز القضاء والتحكّم في إدارة قضايا الفساد والمحاسبة والتجاوزات المرتكبة في العهد السابق وفي مسار العدالة الانتقاليّة والقضايا المتّصلة بالحريّات».
في هذا السياق تحديدا تندرج الشهادة المحوريّة للقاضية السابقة كلثوم كنّو، خلال مواجهتها للنائبة يمينة الزغلامي على أمواج إذاعة «ديوان آف.آم»، ردّا على انتقادات قيادات حركة النهضة اليوم لرئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بشأن انفراده بالحكم وجمع كافّة السلطات بين يديه واتّهامه بالالتجاء إلى جهاز القضاء العسكري انتقاما من خصومه. وصرّحت «يقولون إنّ رئيس الجمهوريّة يمسك بين يديه بالسلط الثلاث، شخصيا أقول: ألم تكن النهضة ممسكة بالقضاء عن طريق السيد نور الدين البحيري؟. القضاء كان في يد البحيري وأنا شاهدة على ذلك».
كما كشفت كلثوم كنّو أنّها كانت شاهدة على النقاشات البرلمانيّة وكيفيّة صياغة القوانين والمصادقة عليها وما كان يحدث من «بيع وشراء»، مُحمّلة حركة النهضة والأحزاب المتحالفة معها مسؤوليّة تلك الممارسات. كما ذكرت بخصوص القضاء العسكري أنّها حضرت على عينة من ذلك وأنّ نوّابا من حركة النهضة «طلبوا منّا مغادرة القاعة، مُعتبرين وجودنا مؤثرا باعتبارنا ممثلين لجمعية قضاة». وأوضحت «نحن نادينا آنذاك وصرخنا أنّه لا ينبغي توسيع اختصاص المحاكم العسكريّة. هم مسؤولون عمّا حدث، ثمّ يأتون اليوم للتباكي على كيفيّة تعهّد القضاء العسكري بقضايا مدنية، أقول لهم أنتم تسبّبتم في ذلك، لأنّنا عندما نصحنا في هذه النقطة تحديدا بأنّه من اللازم التضييق على اختصاص القضاء العسكري وألّا تنظر المحكمة العسكريّة إلّا في القضايا التي تخصّ العسكريين أثناء أدائهم لوظيفهم، عدا ذلك تبقى محاكم الحقّ العام هي المختصّة، لكنّهم رفضوا لأنّ لهم حسابات ولأنّهم كانوا يعتقدون أنّهم سيبقون في الحكم دائما، وقد سبق لهم أن قالوا إنّهم سيبقوم أكثر من 30 سنة في الحكم، وهذا ليس جديدا».
هكذا يبدو إذن أنّ جهاز القضاء العسكري التونسي لا يشهد اليوم قطيعة مع كيفيّة عمله طيلة السنوات العشر السابقة، بل يتحرّك في حدود ما سطّرت له قوانين ما قبل عام 2011 والتعديلات التي أدخلت عليها فجر الثورة. ولم ترغب حركة النهضة والأحزاب المتحالفة معها في تنزيل أحكام دستور 2014 تأمينا لضمانات المحاكمة العادلة لأنّها اعتقدت وهمًا أنّها تغلغلت في أجهزة الدولة حتّى باتت فوق المساءلة، ودون أن تستشرف أنّ السحر قد ينقلب يومًا عليها…
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 26 اكتوبر 2021