الشارع المغاربي: المسرح البلدي معلم تاريخي من أهم معالم المدينة أنشئ في بدايات القرن العشرين. وفي رحابه لمعت أسماء فنانين وأدباء وأقيمت الحفلات لأعلام الأمة تكريما وتأبينا. كما استقبل أشهر الفرق المسرحية والفنية ونظمت في رحابه العديد من اللقاءات السياسية والأدبية والفكرية. هذا الدور الإبداعي التنويري الذي لعبه المسرح البلدي طوال ما يفوق القرن اتسع في أحداث 11 جانفي 2011 إلى مجالات أخرى لتصبح درجاته الموصلة إلى مدخله ولأوّل مرّة منصّة للتعبير عن موقف سياسي حيث شهد تجمع عدد من الفنانين الذين وقفوا هناك لمساندة المظاهرات التي عمّت البلاد. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت واجهة المسرح البلدي المنصة التي يعبر على درجاتها عن المواقف السياسية والاجتماعية لفئات مختلفة وأصبحت الملجأ لكلّ من يريد أن يبلّغ موقفا ولو كان بصورة فردية بحيث أصبحت درجاته شبيهة بدرجات نقابة الصحفيين في مصر المسماة بـ”قلعة الاحتجاجات”. في الأيام الفارطة وبعد مرور ما يقارب الخمسين يوما على الإعلان عن قرارات 25 جويلية وإثر عجز حركة النهضة عن تجييش الشارع وعودة قياداتها خائبة من وقفتها أمام أبواب مجلس النواب في محاولة منها للدخول وبعد أن فشلت لوبياتها في تأليب الرأي العام الدولي دعت إلى وقفة احتجاجية يوم السبت الفارط للتنديد بتجميد عمل البرلمان ونوابه وما تلا ذلك من إجراءات، ولي على ما حصل جملة من الملاحظات:
1) لم تتم الدعوة إلى هذه الوقفة علنا من طرف الخاسر الأكبر من قرارات 25 جويلية أي حركة النهضة بل تمت من خلال أعوانها المنتشرين في مختلف الفضاءات إذ فضلت الحركة التخفي فلم تُظهر أعلامها ولا لافتاتها بل اكتفت بإرسال بعض المنتسبين اليها من الصف الثاني غير أنها في نفس الوقت عملت على الحشد والحث على الحضور باستعمالها نفس الوسائل التي تعودت عليها سابقا.
2) الظاهر أن هذه الوقفة حصلت على ترخيص قانوني. يدلّ على ذلك وقوف الأمن على الحياد خصوصا لما ارتفعت شعارات المواطنين المساندين لقرارات 25 جويلية الذين تجمعوا بشكل عفوي وهو أمر محيّر. ذلك أن الحزب الدستوري حاول المرات والمرّات تنظيم وقفات ورغم حصوله على التراخيص القانونية فإنه كان يتم منع نشاطاته بتعلات واهية كتلك التي ذكرتها والية سوسة أو يتم منع مناصريه من الالتحاق خصوصا ببؤرة القرضاوي وهو ما يوحي بأن هناك قرارا سياسيا بحماية هذه البؤرة، والذي نرجوه أن تتم معاملة الجميع على قدم المساواة وألا تكال نفس المسائل بمكيالين مختلفين.
3) لم نلاحظ مشاركة للأحزاب التي أصدرت بيانات ضد قرارات 25 جويلية فلا أعلامها حاضرة ولا لافتاتها كذلك إذا استثنينا بعض الوجوه. ويبدو أن الحاضرين وأغلبهم من حزب الحركة التزموا بتعليمات تنصّ على ألا يظهر سوى علم تونس وعلى ألا ترفع شعارات حزبية وانما يُكتفى بشتم رئيس الدولة والمطالبة بالعودة إلى ما قبل 25 جويلية.
4) رغم أنه تم الاعداد مسبقا لهذه الوقفة فإن أن عدد الحضور كان محدودا للغاية ولم يتجاوز بعض المئات ولم يستطع منظموها أن يحشدوا لها حتى المارة بل عكس ذلك تجمع مواطنون صدفة ووقفوا في الجهة المقابلة رافعين شعارات ضد حركة النهضة وزعيمها وهو ما لم تتفطن له قناة “الجزيرة” إذ بثت الشعارات معتقدة أنها لصالح دعاة عودة البرلمان المجمّد.
5) رُفعت شعارات كثيرة منها ما هو قديم تعوّدنا سماعه منذ سنة 2011 من نوع “ديقاج” و”كرامة وطنية” وحتى مقطوعة “محلى القعدة على الميّة” لم تغب وهناك شعارات جديدة صيغت بالمناسبة في منتهى البذاءة تناولت شخص الرئيس وبعض معاونيه لا يمكن إيرادها في هذا الفضاء بحيث اقتصرت على ترديد البذاءات بدل أن تكون ذات مضمون سياسي ورسالة واضحة.
6) الشعارات التي رفعت من طرف الذين مرّوا صدفة وواجهوا دعاة الوقفة تؤكد أن التونسي أصبح بعد مرور 10 سنوات على حكم النهضة متيقنا بأن السبب في ما آلت إليه أوضاع البلاد من انهيار وهوان يعود بالأساس إلى حركة النهضة وقياداتها الذين اتهمهم الحضور صراحة بالاغتيال وبالإرهاب وهو ما يؤشر على أن التونسي خرج من أسر الفصول الدستورية وتناطحها باعتبار أن المسالة سياسية وأن حلّها لن يكون إلا سياسيا.
7) من خلال حديثي مع بعض الذين شاركوا بعفوية في الوقفة من الجهة المقابلة تبيّن لي أن مساندتهم لقرارات 25 جويلية ليست مساندة عفوية أو ابنة اللحظة وإنما هي مساندة مبنية على رؤية وفهم لمعطيات الواقع كما وأنها مساندة مشروطة وغير مطلقة وما يدلّ على ذلك أن جلهم حرص على دعوة الرئيس إلى الإسراع باتخاذ الإجراءات العملية لتنزيل قرارات 25 جويلية في الواقع السياسي والوصول بها إلى القضاء على الفساد بكلّ أشكاله لأن كل تأخير يضعف من حماسة أنصار القضاء على المنظومة القديمة ويبعث فيهم الشكوك حول صدقيّة ما جرى خصوصا لما نضع في الاعتبار حملات التشكيك التي تخترق كافة وسائل الاتصال. لذا تجدهم يحرصون على تذكير الرئيس بضرورة الانتهاء من هذه المرحلة والانتقال إلى مرحلة البناء كتأليف الحكومة وصياغة النصوص المنظمة للمرحلة القادمة وإحالة ملفات الفساد والمفسدين إلى القضاء.
اقتصرت الوقفة الاحتجاجية على الدرجات العشر للمسرح البلدي في العاصمة ولم تتمكن من الانتقال إلى غيرها في المدن الأخرى وهو ما يعكس الهوان والعجز الذي أصبحت عليهما حركة النهضة أمام المدّ الجماهير المناوئ لها الذي خرج بعد الإعلان عن قرارات 25 جويلية في كامل أنحاء الجمهورية معبرا عن فرحه واحتفاله بالبدء في القضاء على الفساد وأسّه.
وقفة احتجاجية فاشلة بكل المقاييس أثبتت أن حركة النهضة انتهت تماما في الشارع التونسي وأنها لم تعد صاحبة تأثير فيه وأن كل ما نشاهد من تلميع لصورتها ومواقفها إنما يندرج في باب الفساد الإعلامي. غير أن ما يجب أن نضعه في الاعتبار هو أن نهاية حركة النهضة لا تعني خروجها من السلطة فقط وانما تعني أساسا إغلاق كل البؤر والجمعيات والمدارس التي ظهرت كالفطر في فترة حكمها للقيام بمهمتين أساسيتين: تمويلها وتجنيد الشباب لصالحها.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 21 سبتمبر 2021