الشارع المغاربي: في عام 2005 التقى أسطول الأمريكي تتقدمه حاملة الطائرات الأمريكية رونالد ريغان بغواصة سويدية تعمل بالديزل. وتمكنت الغواصة السويدية المحترفة من التسلل عبر دفاعات السونار المُفعّلة من حاملة الطائرات الأمريكية رونالد ريغان وبقية الأسطول المرافق لها بأكمله وتسجيل عدد من الضربات الثمينة، التي أغرقت حاملة الطائرات، لتفلت الغواصة السويدية دون أن يُصيبها خدش تقريبًا.
حدث ذلك في إحدى المناورات الحربية بين البلدين، خلال ألعاب الحرب أو تمارين المُحاكاة العسكرية، التي يجري مُحاكاتها افتراضيًّا بين عدد من دول الناتو والتي تهدف لاختبار مدى جاهزية قواتها المسلحة أو اختبار أسلحة أو تكتيكات، أو استراتيجيات عسكرية معينة دون الدخول في معركة أو حرب حقيقية، بالإضافة إلى تطوير أدائها وتعزيز مهاراتها الميدانية، وتقوية الروابط العسكرية بين الدول المشتركة.
وتُقام هذه التدريبات العسكرية منذ عقود وتُساعد الدول في اختبار قدرتها على التعامل بشكل جماعي مع التهديدات الخارجية، وفي ظل التقدم التكنولوجي المتصاعد في الآونة الأخيرة، أصبحت التمارين العسكرية تُحاكى افتراضيًّا بالعديد من الأشكال المختلفة وبدرجات متفاوتة من الواقعية. ومؤخرًا، اتسع نطاق عمليات المحاكاة ليتعدى العوامل العسكرية ويشمل أيضًا إدراج العوامل السياسية والاجتماعية للبلاد المتنازعة خلال الحروب، والتي تُعد بدورها عوامل متداخلة تداخلًا غير قابل للانفصام في نموذج الحرب الواقعية.
محرك “ستيرلينغ” يتغلّب على المفاعلات النووية
توقفت البحرية الأمريكية عن استخدام الديزل في تشغيل غواصاتها منذ عام 1990، إذ كان الأمر الذي يعيب استخدام الغواصات التي تعمل بالديزل في الماضي، هو الحاجة إلى الظهور للسطح ظهورًا متكررًا لتشغيل محركاتها الصاخبة والمستهلكة للهواء مما يعني أنه لا يمكنها البقاء تحت الماء سوى بضعة أيام فقط، قبل الحاجة للظهور إلى السطح من جديد.
وبطبيعة الحال، يجعل هذا الغواصة أكثر عرضة للخطر، ويمكن تتبعها بسهولة أكبر، عند ظهورها إلى السطح. لذلك كان يجري استخدام محرك الديزل التقليدي للتشغيل، عند العمل على السطح أو خلال الغطس. وعلى الجانب الآخر، لا تتطلب الغواصات التي تعمل بالمفاعلات النووية إمدادات هوائية كبيرة لتشغيل محركاتها، وتستطيع البقاء في هدوء لأشهر تحت الماء، ويمكنها السباحة أسرع.
أما الغواصة السويدية من طراز «غوتلاند»، والتي يبلغ طولها 200 قدم وتزن 1.6 طن، فقد زُوّدت بمُحرك لا يتطلب إمدادات هوائية متكررة، ويعتمد على نظام «الدفع المستقل الجوي» (AIP)، الذي يستخدم بطاريات متطورة ذات 75 كيلووات. وكانت تلك الغواصة التي جرى تقديمها في عام 1996، اولى الغواصات التي استخدمت ذلك المُحرك الذي سُمي بـ«محرك ستيرلنغ»؛ نسبةً إلى المهندس الذي صمّمه، ويعمل باستخدام الديزل والأكسجين السائل، إلى جانب إمكانية عمل الغواصة على طاقة البطارية فقط.
وباستخدام محرك «ستيرلنغ»، تستطيع الغواصة «غوتلاند» أن تبقى تحت سطح الماء، لمدة تصل إلى أسبوعين بمتوسط سرعة يبلغ ستة أميال في الساعة، أو يمكنها استخدام طاقة البطارية لتزيد من سرعتها حتى تصل إلى 23 ميلًا في الساعة. إلى جانب ذلك، يُدير محرك ستيرلنغ الغواصة بهدوء أكثر من المحركات التي تعمل بالطاقة النووية، والتي يصدر عنها ضجيج بفعل المضخات المُبردة في مفاعلاتها.
كيف اخترقت «غوتلاند» دفاعات حاملة الطائرات «رونالد ريغان»؟
أحبطت الغواصة السويدية «غوتلاند» متخصصي مكافحة الغواصات الأمريكيين، بعد أن تمكنت من التهرب من دفاعات حاملة الطائرات الأمريكية «ريغان» المضادّة للغواصات، إلى جانب عدد كبير من أجهزة الاستشعار التي تتضمنها سفن الأسطول الأمريكي وطائراته. فكيف استطاعت غواصة رخيصة الثمن مقارنة بالأسطول الأمريكي، وتبلغ كلفتها حوالي 100 مليون دولار، أي ما يُعادل كلفة مقاتلة من طراز «F-35» تقريبًا تحقيق ذلك؟
بالإضافة إلى مُحركها الذي يُمكّنها من الغوص لفترات طويلة مُتخفية في هدوء عميق، تمتلك غواصة «غوتلاند» العديد من الميزات الأخرى، التي تجعلها بارعة في الهرب من الكشف عبر أجهزة السونار، والتي تتمثل في تزويدها بـ27 مغناطيسًا كهربائيًّا، صُمم لإبطال إمكانية اكتشاف شارتَها المغناطيسية عبر أجهزة الكشف عن الشذوذ المغناطيسي، وقد زاد المصممون أيضًا من قدرتها على التخفي بمنع العثور عليها عبر الأشعة تحت الحمراء، حتى عند ظهورها إلى السطح.
علاوة على ذلك، جرى طلاء هيكل السفينة بنوع من الطلاء المقاوم للسونار، بالإضافة إلى تغطية شراعها بمواد تمتص إشارات الرادار. أما المقصورة الداخلية، فقد جرى تغليف الآلات الموجودة بداخلها بمُخفضات مطاطية كاتمة للصوت ومُضادة للاهتزاز؛ وذلك لتقليل تراكم الضوضاء الناتجة من عمل الأنظمة الميكانيكية المختلفة، وتقليل إمكانية الكشف عنها عبر السونار؛ الأمر الذي يجعلها أشبه بمقاتل «نينجا» خفيّ.
ولجعل مقاتلة «النينجا» السويدية أكثر فتكًا؛ صُمم نظام إدارة القتال الخاص بها، تصميمًا يجعل منه قطعة فنية فريدة من نوعها. لكن تفرده ذلك لا يجعله بالضرورة معقدًا؛ إذ يمكن إدارة واجهة الاستخدام الخاصة به بسهولة وسلاسة متناغمة، وخلال هجوم واحد، يستطيع نظام إدارة القتال توجيه قذائف متعددة في ضربة واحدة؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدي أكثر من مهمة قتال، وتسديد ضربات متعددة في نواحي مختلفة، حتى ضد المقاتلات البحرية الضخمة مثل حاملات الطائرات.
موقف البحرية الأمريكية من “الهزيمة النكراء”
بعد أن أثبتت مقاتلة «النينجا» السويدية أنها تُمثل التحدي الأكبر للسفن الأمريكية المضادة للغواصات خلال التدريبات الدولية؛ ذهبت البحرية الأمريكية إلى السويد على أمل استئجار واحدة من غواصاتها من طراز «غوتلاند»، والطاقم الخاص بها مدة عامين كاملين عبر إجراء تدريبات مضادة للغواصات. وقد وافق السويديون على الطلب الأمريكي، وجرى شحن غواصة «غوتلاند» إلى سان دييغو، وخلال العام الأول من التدريبات، لعب الفريق السويدي دور المنافس ضد مجموعة البحرية الأمريكية الضخمة من مقاتلات السطح المضادة للغواصات، وطائرات الهليكوبتر، والطائرات ذات الأجنحة الثابتة، علاوةً على الغواصات النووية.
وبدأت ألعاب المحاكاة الحربية فور وصول الغواصة السويدية، التي استطاعت فيها «غوتلاند» إغراق العديد من الغواصات الهجومية النووية الأمريكية السريعة، وغيرها من السفن الحربية، واستمرت في اختراق صفوف الدفاع، حتى وصلت إلى «المنطقة الحمراء» بعد تجاوزها الجدار الأخير من الدفاعات المضادة للغواصات دون أن يجري اكتشافها.
كانت «غوتلاند» السويدية الصغيرة صامتة ومتخفية الى درجة، جعلتها تبدو لأجهزة الاستشعار الأمريكية غير موجودة فعليًّا، وأقنعت هذه النتائج، البحرية الأمريكية أن مجسَّاتها تحت البحر، لم تكن قادرة على التعامل مع قوارب التخفي؛ وأدى ذلك الى توجه البحرية الأمريكية نحو تغيير أولوياتها داخل مجتمعات الحرب السطحية والجوفية.
وفي العام الثاني من التدريبات، أخذت البحرية الأمريكية تبحث عن كيفية التعامل مع هذا التهديد القاتل وتُحاول وضع الخطط والتكتيكات لمواجهته. وفي منتصف عام 2007، جرى شحن «غوتلاند» في نهاية المطاف من أجل العودة إلى موطنها عبر بحر البلطيق.
وتحاول البحرية الأمريكية اليوم استخلاص الدروس المستفادة من مواجهة غوتلاند، وتعزيز قدرتها على الحرب المضادة للغواصات عبر تطبيق التكتيكات والتقنيات الجديدة، خاصةً في ظل ازدياد قوة الغواصات الباليستية النووية الصينية شعارها في ذلك مثلما شاعر التحدي ابو الطيب المتنبي “لَا تَحْقَرَنَّ صَغِيْرًا فِيْ مُخَاصَمَةٍ … إِنَّ البَعُوْضَةَ تُدْمِيْ مُقْلَةَ الأَسَدِ”.