الشارع المغاربي – تونس - الموت أرحم من بطّاحات جربة! / بقلم معز زيّود

تونس – الموت أرحم من بطّاحات جربة! / بقلم معز زيّود

قسم الأخبار

15 يناير، 2020

الشارع المغاربي : مثلما تُعدّ جربة “جزيرة حالمة” يطيب فيها المقام، ويعمّ على أرضها الجمال الأخّاذ، وتفوح منها عطور الطبيعة ونسيم البحر المنعش ويتهادى فيها النخيل الباسق في غمرة الهدوء وراحة البال، فقد بات من المؤسف أن تُمسي أيضا ساحة للتهاون وانتهاك القانون، ناهيك أنّ ما يحدثُ من فساد بوّاحٍ في بطاحات جربة قد استحال أسوأ مثال!.

لن أتحدّث، في هذا الحيّز، عمّن لوّثوا المشهد العمراني للجزيرة الحالمة بالآجر الأحمر والألوان الثقيلة البلهاء والتصاميم الهندسيّة القبيحة التي تُمعنُ الطعن في تفاصيل موروث المكان، ولن أتوقّف كذلك عند تخاذل معظم المجالس البلديّة عن وضع حدّ للباعة الذين لا يتورّعون عن تحويل الشوارع إلى مزابل مقذعة أيّام الأسواق الأسبوعيّة، وغيرها من ممارسات مسيئة للجميع…

سأكتفي، هنا والآن، بإشارات طفيفة إلى إمبراطوريّة بطاحات جربة التي لم يستفق لهول تجاوزات عدد من منظوريها، إلّا حين حلّت كارثة غير مسبوقة ذهب ضحيّتها غرقًا امرأة مُسنّة وشقيقها منذ أيّام.

موظفو شركة بطاحات جربة الذين تعوّد معظمهم على التنصّل من أيّة مسؤوليّة عند حصول تجاوزات، كشّروا عن أنيابهم منذ سنوات، فأضربوا عن العمل وأوقفوا سير البطاحات وعطّلوا أحوال البلاد والعباد وكوّموا صفوف من ينتظرون العبور نحو الجزيرة أو مغادرتها بالمئات والآلاف. استأسدوا آنذاك من أجل فرض غلق حانة في الجرف، زعمًا منهم التمسّك بتعاليم الإسلام، لكنّهم في الحقيقة انجرّوا إلى ذلك طلبًا لراحة مؤقتة وركوبًا لموجة تسييس الدين وإخفاءً لرفضهم الحقّ في الاختلاف والكفر بحريّة الأفراد…

هؤلاء المتّقون الورعون أنفسهم ما انفكّوا يضرّون بصورة جربة ومصالح العابرين منها وإليها قبل الإساءة لأنفسهم. فبدلا من محاولة بذل ما أمكن من جهود لتخفيف الاكتظاظ المريع والحدّ قدر المستطاع من طول الطوابير الكيلومتريّة، فإنّ عددًا منهم ضالعون في زيادة الطين بللا تحت مسمع الجميع ومرآهم. ومثالا على ذلك فإنّه قد لا يعمل من البطاحات وقت ذروة عبور القنال سوى عوّامتين عوضًا عن أربعة بطاحات أو ثلاثة. معضلة أخرى ليست أقلّ مرارة، ويعرفها كلّ من تعوّد على الوقوف في تلك الطوابير، منذ سنوات طويلة، وتتمثّل في المحاباة أو حتّى السقوط في شراك الرشوة. فقد تكفي دينارات معدودة لتمرّ سيّارة شخصيّة أو إداريّة، دون أدنى وجه حقّ، في الممرّ المخصّص للحافلات ذات الأولويّة. وهو ما يؤدّي إلى تغذية الاحتقان في صفوف المسافرين، رغم ما عُرف عن أهل جربة من صبر وتسامح يسيء أحيانا لقيم المواطنة السليمة…

أمّا المأساة التراجيديّة التي جدّت منذ أيّام، فإنّها قد تجاوزت كلّ التوقّعات. وتتمثّل الحادثة، نقلا عن شهود عيان، في إحدى السيارات وقفت أمام شباك التذاكر من جهة أجيم، فاقتنى السائق تذكرة ورُفعَ الحاجز وسُمح للسيّارة بالعبور، بمعنى صعود البطاح. كانت الساعة آنذاك حوالي السابعة صباحًا، حيث كان الضوء خافتًا في ظلّ الضباب المخيّم على المكان. وللأسف فإنّ السائق لم يلمح انطلاق البطّاح ومغادرته الميناء، ولم يكن هناك حاجز يصدّه أو عامل يمنعه من التقدّم. فوقعت الكارثة وسقطت السيّارة في عمق القنال فغادر مع شقيقته الحياة، لا الجزيرة وحسب. لم ينج من الغرق سوى الابن الذي تمكّن بصعوبة من الخروج من السيّارة، وحاول فتح الباب لإنقاذ والدته المسنّة، فدفعته إلى النجاة بعبارة تراجيديّة مفادها: “امنع إنت يا وليدي”، لكنّ روحَيْ السيّدة شاذلية عاشور وشقيقها الطاهر عاشور الخبير في الطاقات المتجدّدة ما زالتا تُرفرفان في المكان، رحمهما الله…

كارثة انجرّت عن أخطاء بشريّة وإداريّة وتجهيزات مفقودة، من أهمّها غياب التنسيق بين قاطع التذاكر الذي سمح بعبور السيّارة والموظف المسؤول عن الصعود إلى البطاح. وهو من دون شكّ خلل كبير، لكنّه يبدو هيّنًا تمامًا أمام مصيبة أكبر تتمثّل في عدم وجود حاجز مسطّح ينغلق آليّا تزامنا مع اشتغال البطاح قبيل إغلاق بوّابته وإعلانه الرحيل بمنبّهات ومضخّمات صوت تبدو مفقودة…

ولا ريب أنّه في دولة قانون تحترم مواطنيها، لا يتوقّف هذا الحادث الخطير عند إقالة المسؤول الأوّل عن هذه المؤسّسة أو كذلك مندوب وزارة النقل في الجهة، وإنّما يستوجب استقالة وزير النقل رأسًا، حتّى تكون هذه الحادثة التراجيديّة عبرةً ودرسًا قانونيًّا وأخلاقيًّا لكلّ المتهاونين والمتجاوزين للقانون. أمّا في بلادنا، فإنّ الحدث الجلل قد يُمسي مجرّد واقعة يُشارُ إليها بمجرّد أسطرٍ في الموجز من الأخبار للإعلان عن فتح تحقيق داخليّ سريعًا ما تُطوى أوراقه ويُغلق نهائيًّا في طرفة عين.

لا مجال للتعميم طبعًا، فمن بين العاملين في بطاحات جربة عمّال شرفاء لا يرتضون الفساد وانتهاك القوانين، ولكن ما بأيدي هؤلاء حيلة أمام استشراء العدوى والوباء، وكذلك تنصّل الدولة من مسؤوليتها في التسريع بإنجاز الجسر الرابط بجربة لوضع حدّ للمعاناة والمرارة والموت…


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING