الشارع المغاربي:
“حافظ على كرامتك حتى لو كلفك الأمر أن تصبح صديقا لجدران زنزانتك”
– نيلسون مانديلا
“المساعي لإكراه النّاس على احتقار أنفسهم، هذا ما أسمّيه الجحيم”
ـ أندري مالرو
قبل 36 سنة وفي مثل هذا اليوم من شهر ماي، استشهد ابن حزب العمال الشيوعي التونسي، الرفيق نبيل بركاتي بعد تعذيب وحشي امتد على مدى أكثر من أسبوع. جلاّدو بورقيبة، الرئيس مدى الحياة وقتها، وزين العابدين بن علي، وزير داخليّته، طالبوه بالاعتراف بأنه وراء توزيع منشور حزب العمال في قعفور، “الصراع الدستوري-الإخوانجي لا مصلحة للشعب فيه”، في مدينة قعفور وبأنه ينتمي إلى هذا الحزب. كما طالبوه بأسماء رفاقه العاملين معه.
رفض نبيل الكلام وتحمّل التعذيب حتّى الموت. عشرة أيّام كاملة من الألم من أجل الحرّية. وقد أقرّ الطبيب الذي قام بالتشريح بأنّه لا يوجد سنتمتر واحد في جسده لم يطله التعذيب. انتفض أهالي قعفور وفرض عليهم حظر الجولان لمدة نصف شهر. وعمّ الخبر كافة جهات البلاد مثيرا السخط والاستنكار لدى كل أصحاب/صاحبات الضمائر الحيّة. ووصل الخبر إلى مختلف أرجاء العالم فجاءت الإدانة من عديد المنظمات والأوساط الديمقراطية والتقدميّة.
تحوّل قبر نبيل بمقبرة “البراكتة” بمدينة قعفور إلى مزار سنوي للديمقراطيين والديمقراطيات. وعُمّد يوم استشهاد نبيل، بداية من سنة 1994، يوما وطنيّا لمناهضة التعذيب. وتواصل إحياء الذكرى كل سنة رغم الحصار الذي كان يضربه نظام بن علي على كافة الطرقات المؤدية إلى مدينة قعفور لمنع الوصول إليها. كان الحصار يمتد أحيانا لمدة أسابيع لأن المنظمين كانوا يغيرون التاريخ كل سنة تقريبا لمراوغة بوليس الدكتاتوريّة.
بعد الثورة كام من المنتظر تحويل يوم 8 ماي، ذكرى استشهاد نبيل، يوما رسميّا لمناهضة التعذيب، يوما رسميّا لتذكير التونسيات والتونسيين بما تعرض له الآلاف من أخواتهم وإخوتهم من ممارسات بشعة أدت إلى استشهاد العديد منهم وإلى إصابة البعض الآخر بإعاقات نفسية وجسدية أبديّة، يوما رسميّا لإذكاء الوعي بخطورة هذه الممارسة الوحشية والعمل على اجتثاثها من مجتمعنا ليتمكن المواطنات والمواطنون من العيش أحرارا، مطمئنّين في وطنهم على سلامتهم الجسدية والنفسيّة.
ولكن ذلك لم يحصل سواء زمن حكم الترويكا أو زمن حكم “نداء تونس- حركة النهضة” أو زمن حكم المنظومة التي جاءت من انتخابات 2019 أو مع المنظومة الحالية التي ينفرد فيها قيس سعيّد بالحكم منذ انقلاب 25 جويلية 2021. ولسائل أن يسأل ما هو السبب الذي جعل هذه المنظومات المتعاقبة ترفض إصدار أمر أو مرسوم لتحويل 8 ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب مع علم أن بعض الرؤساء كان وعد بذلك وعدا صريحا؟
إن الجواب على هذا السؤال بسيط وهو أن ممارسة التعذيب استمرت مع كل الذين تعاقبوا على الحكم بعد سقوط الدكتاتورية. وهو ما تشهد به تقارير المنظمات الحقوقية ومنها خاصة “المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب”. فهم، أي الحكّام، ليسوا في حاجة لا إلى اجتثاث ممارسة التعذيب الوحشيّة ولا إلى تغيير المنظومتين الأمنية والقضائية وتحويلهما إلى منظومتين في خدمة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لأنهم في حاجة إليهما منظومتين قمعيتين تكرّسان هيمنتهم وهيمنة الأقلية التي يمثّلون مصالحها على المجتمع.
لقد تمّ إجهاض العدالة الانتقالية، ولم يطّلع التونسيات والتونسيون على حقيقة ما ارتكب من جرائم على حسابهم طوال عقود. ونتيجة لذلك لم يتمّ لا تحميل المسؤوليات ولا إنجاز المحاسبة. كما أنه لم يتم إعادة تنظيم مؤسسات الدولة وأجهزتها على أسس جديدة تحترم الحريات وكرامة الإنسان بل تم الحفاظ عليها كما هي في الأساس لتشغيلها ضد الجماهير الكادحة والشعبية وضد المعارضين والمحتجين. وهو ما عشناه مع منظومات حكم ما بعد الثورة حتّى اليوم.
وهكذا فقد ظلّت “دولة البوليس” تطلّ برأسها تدريجيا إلى أن عادت اليوم بقوة في عهد الشعبوية اليمينية المتطرّفة، عادت بسطوتها على المجتمع وممارساتها التي تذكّر بأيّام الدكتاتوريّة. وهو أمر طبيعي، فحين يستولي شخص واحد على الحكم ويحتكر كل السلطات التي حوّلها إلى مجرد “وظائف” فإنه يعجز عن فرض سلطته بغير الطرق والأساليب التّعسّفية وهو ما يجعله في حاجة إلى تشغيل الأجهزة القمعية والصمت على انتهاكاتها وعدم محاسبتها ممّا يجعلها تتغوّل على المجتمع وتخنق أنفاسه.
في مثل هذا الوضع تصبح العودة إلى نبيل البركاتي، سيّد الشهداء المعذّبين، إلى قصة صموده واستشهاده أكثر إلحاحا من أي وقت مضى لأنها تمثّل البوصلة، البوصلة حين تختلط السبل ويسري الخوف في النفوس من جديد وتنتشر ثقافة “أخطا راسي واضرب”. لقد تحمّل نبيل بركاتي التعذيب حتّى الموت دفاعا عن كرامته وكرامة بني جلدته… لقد خيّر عدم الكلام والموت شامخا، على الاعتراف أمام جلاده والعيش منحني الظهر، مهزوما. وتلك هي قمّة الشعور بروح المواطنة بل قمّة التضحية من أجل الكرامة التي لا تتحقق دون ألم ومعاناة، لا تتحقق بالخوف الانهزام وإنّما بالشجاعة والتضحية. “إنّ أهمّ شيء في الحياة، كما قال الكاتب الفرنسي الشهير، أندري مالرو، هو أن لا ترى فيها نفسك مهزوما أبدا” .
إن الاستبداد لا ينجح في أي مجتمع من المجتمعات إلا إذا وجد الأرضية المناسبة وهي تنازل “الناس” عن حرّيتهم وقبولهم التحوّل من مواطنين إلى رعايا. ولا بد لنا من الوعي أن هذا ما بدأ يحصل بين ظهرانينا اليوم. فنحن نسمع تمجيدا للاستبداد والدكتاتورية وازدراء للدديمقراطية والحرية بدعوى أنهما لم يثمرا غير “الفساد”. وقد نسي مروّجو هذه المزاعم عن جهل وضيق أفق أن الاستبداد يمثل أكبر مفسدة لأنه يلغي كرامة البشر ويحولهم إلى عبيد ويفتح الباب على مصراعيه للجور والعسف والاستغلال الوحشي والفقر والجوع.
إن المطروح أمامنا ليس قبول الاستبداد بدلا من ديمقراطية شكليّة، متعفنة، وإنّما النضال من أجل ديمقراطية حقّة تقترن فيها الحرية السياسية بالعدالة الاجتماعية، ديمقراطية حقة تكون فيها السلطة الفعلية للشعب لا لفرد متجبّر أو حزب أو كتلة أحزاب رجعيّة دورها حراسة مصالح الأقليات الثرية المحلية والأجنبيّة وقمع الأغلبيّة من المجتمع المتكونة من الكادحين والكادحات والنساء والشبان المعرضين في معظمهم للاضطهاد والاستغلال والتفقير.
وأنا أكتب هذه الكلمات تحتفل شعوب العالم هذه الأيام بالانتصار على الوحش النازي/الفاشي. وبهذه المناسبة فإنك تسمع مثلا في وسائل الإعلام الفرنسية منذ هذا الصباح اسم “جون مولان” يتردّد في كل نشرة وفي كل برنامج… كان “جون مولان” أحد قادة المقاومة الكبار الذي ترأس “المجلس الوطني للمقاومة. اعتقله النازيون وعذبه “كلوز باربي”، المسؤول النازي على “ليون”، وقد آثر أن يستشهد على أن يتكلّم. لقد نقلت رفاته إلى “البونتيون”، إلى جانب عظماء فرنسا، وظل الشعب الفرنسي يحيي ذكراه وذكرى جميع الشهيدات والشهداء الذين قاوموا النازية كل سنة اعترافا بفضلهم عليه وإقرارا منه بأنه مدين بحريته لمثلهم من الرجال والنساء. وهذا لعمري مظهر من مظاهر العرفان والتمدّن.
علينا الافتخار بتاريخنا. وعلينا الاعتراف بجميل من ضحّوا من أجل تخليصنا من الاستعباد. إن شعبا بلا ماض ليس له مستقبل.
تحية إليك يا نبيل في ذكرى استشهادك السادسة والثلاثين. تحية إلى روح كل الشهيدات والشهداء الذين آثروا الموت على التخلي عن كرامتهم وكرامة شعبهم.
عِندَما تَدْلَهِمُّ السَّبِيلْ…
وتَغْدُو بِلاَ بَوْصَلَةْ
عندَما يُخْلِفُ العَاشِقُونْ
موْعِدَ السُّنْبُلَة
عِنْدَمَا يَتَوارَى النّهَارْ
ويَسْكُنُ هَذِي الخَرِيطَةَ لَيْلٌ طوِيلٌ طَوِيلْ…
ولا مِنْ خِيَارْ
تَرَى عِشْقَهُ المُسْتَحِيلْ…
عِنْدَمَا، عِنْدَمَا…
لا فَتِيلَةَ فِي الأَرْضْ…
لا شيْءَ إلّا دُمَى ودَمَارْ
ولاَ مِنْ خِيَارْ
ولا مِنْ سَبِيلْ
ولا مِنْ دَلِيلْ
تَذَكَّرْ فَتًى لا يَخُونْ
ولاَ يَسْتقِيلْ”
(شعر الطاهر الهمامي)
تونس في 8 ماي 2023