الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: انعقد نهاية الاسبوع الفارط اجتماع عن بعد بين وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار علي الكعلي وأطراف من الحزام السياسي والبرلماني للحكومة، تم في اطاره بحث التصورات والفرضيات والتوجهات التي يجب تضمينها في مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2021 إلى جانب النظر في التوازنات المالية القادمة للبلاد .
أتى الاجتماع في سياق اشكالي لعدة أسباب أبرزها انتهاء صلوحية قانون المالية الاصلي لهذا العام لسقوط فرضياته سيما في ما يتعلق بالتمويلات وتغير اسعار المواد الأولية والطاقية. كما جاء الاجتماع في اطار عدم استكمال ميزانية تكميلية رغم انه من المفترض انهاء انجازها مع نهاية جوان الماضي، حسب مقتضيات القانون الاساسي للميزانية. غير انه من الواضح ان الحكومة تسعى لختم حسابات السداسي الاول من العام الحالي للتمكن من تقييم دقيق لازمة المالية العمومية ولكنه من المؤكد كذلك انه ومع اقتراب العطلة البرلمانية وعدم وجود موارد فعلية لسد ثغرة الميزانية، فإن الحديث عن وضع ميزانية تكميلية، ان تم ذلك، لن يكون قبل شهر اكتوبر المقبل وهو ما يعني ان تونس تعيش ولأول مرة في تاريخها سنة كاملة تقريبا بلا ميزانية…
قانون مالية تجاوزته الأحداث
أصدر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية مذكرة الأسبوع الفارط تحت عنوان «أزمة المالية العمومية في تونس وثغرة التمويل: أي هامش مناورة لضمان تماسك الاقتصاد الوطني؟». وقسّمت المذكّرة الى محورين حيث خصص الأول لإبراز تغير معطيات وفرضيات قانون المالية الأصلي لسنة 2021 الذي أُعْتبر غير واقعي وغير قابل للتحقيق حتى قبل دخوله حيّز التنفيذ في حين خُصّص القسم الثاني من الدراسة لصياغة سيناريوات ضمان تماسك الاقتصاد التونسي والبحث عن بدائل مستحدثة لتمويله.
أكّد المعهد في مذكرته أن تسارع نسق الأحداث السلبية جعل من قانون المالية الأصلي لهذا العام قانونا تجاوزته الوضعية الاقتصادية في البلاد مما يجعل من تحيينه أمرا ضروريا لضمان ديمومة تمويل ميزانية الدولة وتحقيق تماسكها المالي. وتم التركيز في هذا الإطار على أن فرضيات الميزانية ارتكزت على تقدير تسجيل تراجع للنمو لسنة 2020 بنسبة 7.3 بالمائة في حين أن هذه النسبة بلغت 8.8 بالمائة. كما أنبنت الفرضيات على نسبة صرف تعادل 2.8 دينار للدولار الأمريكي ومتوسط لسعر برميل النفط في حدود 45 دولارا في حين أن معدل السعر كان عند 60 دولارا خلال الشهرين الأوليين من سنة 2021 واستقر عند 65 دولارا في بداية مارس 2021.
من جانب آخر، قَدّر قانون المالية الأصلي لسنة 2021 نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بـ 4 بالمائة. الا أن هذه النسبة أضحت بعيدة الى حد ما عن تقديرات صندوق النقد الدولي الذي ضبطها عند 3.8 بالمائة في افريل 2021. وبينت مذكرة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية علاوة على ما سبق أنه لم يتم أخذ العديد من العوامل والضغوطات بعين الاعتبار عند إعداد الميزانية مما أدى الى استفحال اختلال التوازنات المالية للدولة واستمرار الأمر بنسق حثيث. وأشار المعهد على سبيل الذكر الى عدم تقييم استمرار توقف انتاج الفسفاط وانهيار الإنتاج الطاقي واشتداد الأزمة المالية للمؤسسات العمومية وتحديدا في ما يهم شركات الفولاذ والخطوط التونسية والديوان التونسي للتجارة والشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكرير.
كما تطرقت مذكرة المعهد الى عوامل أخرى منها التخفيض الحاد للترقيم السيادي لتونس من قبل وكالة «موديز» عند «بـ 3» مع آفاق سلبية مع غياب وأفق لحل الأزمة السياسية التي القت بظلالها على الاستثمار والمبادرة الخاصة إضافة الى عجز الحكومة عن التحكم في الأجور ونفقات التسيير الإداري. واقترح المعهد إعادة صياغة إطار عام للميزانية مع مراعاة المعطيات الظرفية السلبية للجائحة والاشكاليات المتجذرة على المستوى الوطني.
واقترح معهد الدراسات الاستراتيجية تحويل بعض المشاريع المبرمجة في ميزانية التجهيز الى مشاريع شراكة بين القطاعين العمومي والخاص وذلك بغرض التمكن من إنجازها لدفع النمو وقّدرها على مستوى أربع وزارات بقيمة 2606.6 مليون دينار. كما اقترح الضغط على بعض النفقات المتعلّقة بالتأجير وذلك خصوصا في باب المنح المردودية وما شابهها من تعديلات بما يحقق ترشيد نفقات التصرف بـ 1714.3 مليون دينار. وشددت المذكرة كذلك على انه من الممكن الاستمرار في الزيادة في الأسعار في ما يهم الغاز المنزلي والكهرباء والماء الصالح للشرب والتبغ لتحقيق عائدات مالية للميزانية بـ 832.5 مليون دينار مع إقرار عفو جبائي وديواني وصرفي وبلدي بما يسمح بتعبئة 1040 مليون دينار.
اضافة لذلك أشارت ذات المذكرة الى أنه يمكن لتسوية ديون مؤسسات القطاع العام مع الدولة أن تخفف من أعباء الميزانية بقيمة 3850 مليون دينار فضلا عن أن تسوية الديون في ما بين كل مؤسسات القطاع العمومي تسمح بدورها بتوفير تكاليف بنحو 1430 مليون دينار وبالتالي تمكن مقاربة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية من التخفيف من أعباء الميزانية بقيمة 11473.4 مليون دينار.
غير أن مجمل هذه التصورات يخضع للكثير من النقاش ويمكن اعتبارها ببساطة غير واقعية وغير قابلة للتحقيق وذلك على غرار تقييم المعهد نفسه ميزانية 2021 وهو ما يشكل تناقضا لمن يبحث عن الواقعية خارج أي إطار واقعي بحكم ان الزيادة في أسعار المواد الأساسية أصبحت تقريبا غير ممكنة لبلوغها مدى عاليا للغاية.
كما أنه لا معنى للحديث عن التحكم في نفقات التسيير أمام خضوع الحكومة لكل الطلبات النقابية. أما في ما يهم تسوية الديون بين هياكل القطاع العمومي وتحويل المشاريع التنموية الى مشاريع شراكة بين العمومي والخاص فهي مسائل يمكن ان يمتد إنجازها على سنوات في حين أعدّ معهد الدراسات الاستراتيجية مذكرته بحثا عن بدائل لسد ثغرة الميزانية في المدى المنظور. وعلاوة عن البدائل المذكورة أكّد المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية ان من شأن إصدار قرض رقاعي بالعملة الأجنبية وبضمان الدولة لدى الجالية التونسية في الخارج أن يعزز بشكل واضح مدخرات البلاد من العملة الأجنبية وهو امر يعتبر شبه مستحيل لظروف الجالية المادية، من ناحية ولمشاكل التونسيين في الخارج مع البيروقراطية في تونس ومعاناتها من عراقيلها وعوائقها، من ناحية اخرى.
الآفاق الغامضة
يكتنف الغموض، في الظرف الراهن، برامج السلط المالية لتعبئة موارد مالية تمكن فعليا من التصرف في ميزانية الدولة وذلك بحكم جمود مسار التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية المانحة، وذلك تحديدا في ما يخص صندوق النقد الدولي الذي دعا السلط التونسية الى العودة الى المناقشات المبدئية حول تمويل ائتماني محتمل بعد مدة لم يحددها علما ان الصندوق يعبّر باستمرارعن قلقه بخصوص الانقسام السياسي المتزايد في تونس وعدم تمكنه من ايجاد مُحَاوِر يقدم خطط اصلاح مهيكلة.
يُشار الى ان الوضعية ازدادت تعقيدا بعد رفض الجانبين الليبي والقطري منح تونس أية ودائع او قروض مما دفع السلط الى الكف تماما عن الافصاح عن خططها لتعبئة موارد بقيمة 18.5 مليار دينار علما ان آخر محاولة، في هذا الاتجاه، لتوفير اعتمادات كانت قد بائت بالفشل غداة اختتام الاكتتاب في قرض رقاعي داخلي يوم 28 جوان الفارط. ولم توفر الاكتتابات في هذا القرض سوى 715.6 مليون دينار منها 196.7 مليون دينار للبنوك وهو ما يمثل نسبة 28 بالمائة من الاكتتابات.
في المقابل، تتزايد نسب البطالة مما ينبئ بانفجار اجتماعي وشيك في غياب أي مساعدات للفئات الهشة التي اصبحت تمثل تقريبا نصف عدد المواطنين. وتجد السلط التونسية نفسها عاجزة تماما عن مجابهة الجائحة الصحية في سياق انهيار البنى التحتية الصحية وحالة الارتجال في ما يتعلق بإجراءات الحظر الصحي سيما انه تم تصنيف تونس مؤخرا ضمن الدول الاولى الاكثر تضررا على مستوى الوفيات والاصابات (المرتبة 12) رغم محدودية عدد السكان. ومما زاد الوضع تعكرا قيام الحكومة منذ إعلانها عن بداية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بالترفيع في اسعار جل المواد التي تقول انها مدعومة. كما عمد المحتكرون والمضاربون على مرأى ومسمع من هياكل الدولة الى اشعال لهيب الاسعار في جل مواد الاستهلاك وخاصة الحساسة منها.
ومن المؤكد ان الحكومة ستواصل تعبئة الموارد من السوق النقدية بين البنوك في حدود الإمكانات المتاحة وتحت رقابة البنك المركزي التونسي بغرض توفير التمويلات الدنيا لخلاص الأجور ونفقات الادارة بحكم أن السوق النقدية وعائدات الجباية هي الموارد الوحيدة للحكومة لتأمين التزاماتها المالية، في انتظار موافقة قد تأتي أو على الأغلب لا تأتي من صندوق النقد الدولي للخروج للسوق المالية الدولية للحصول على قروض خارجية علما أن الصندوق ينتظر بدوره على الأغلب التقييم السيادي القادم لوكالة «فيتش» للاقتصاد التونسي وآفاقه والذي سيتم الكشف عنه على الأرجح في المدى القريب.
وعموما، لا تملك الحكومة في ظل غياب التخطيط، أي برامج واضحة لتعبئة الموارد وهو ما يفسر تكتمها على مآل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أو الحلول البديلة التي يمكن تبنيها لتعبئة الموارد الخارجية التي ستنفق بنسبة 93 بالمائة في غضون الأشهر القريبة القادمة لخلاص ديون أغلبها لصندوق النقد وللمانحين الأجانب وعدد محدود من الدول المقرضة.
وتبرز معطيات وزارة المالية في تقريرها حول متابعة تنفيذ ميزانية الدولة للعام الحالي عن تعبئة قروض خارجية طيلة الربع الأول من سنة 2021 تناهز قيمتها 889.5 مليون دينار، أي نحو 325 مليون دولار، في حين بلغت أقساط القروض المسددة في ذات الفترة 689.7 مليون دينار أي ما يعادل 255 مليون دولار.
وذكر البنك المركزي في عدة مناسبات من جانبه أن المالية العمومية ستواجه ضغوطا خلال شهري جويلية وأوت بسبب الحاجة المؤكدة إلى مليار دولار لسداد قرضين خارجيين.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 6 جويلية 2021