- التمديد للهيئة يُخفي صفقة تحاول حركة النهضة عقدها لخدمة مصالحها وتعبئة المستفيدين منها
- أحمد صواب : ما قامت به هيئة بن سدرين يُعدّ جريمة بالمعنى الدستوري والقانون الجزائي والقانون الدولي
الشارع المغاربي -معز زيّود يبدو أنّه قُدّر لمسلسل “هيئة الحقيقة والكرامة” أن يطول كمسلسلات الدراما التركيّة المتناسلة، فها هي رئيستها لا تبتغي فقط تمديد عُهدتها، بل تُعلن جهارًا امتلاكها “الصلاحيات المطلقة” لإطالة أنفاسها واستنزاف مقدّرات البلاد،جاعلةً نفسها فوق البرلمان وغير عابئة تمامًا بدور السلطة الأصليّة التي أحدثتها. تلك هي الحال في ظلّ وجود قوى سياسيّة لا تحفظ مقام المؤسّسات وإنّما تتهافت فقط على تكويم مصالحها…
انطلقت “لجنة شهداء الثورة وجرحاها وتنفيذ قانون العفو التشريعي العام والعدالة الانتقالية” بمجلس نواب الشعب في جلسات الاستماع لعدد من الخبراء حول “التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة ومدى شرعية قراراتها في ظلّ الإقالات والاستقالات وعدم تنفيذها قرارات المحكمة الإدارية”، وفق ما جاء حرفيّا في جدول أعمال اللجنة ومحضر جلستها. وفي المقابل استبقت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين حضورها لدى اللجنة البرلمانيّة، خلال هذا الأسبوع الثالث من الشهر الجاري، لتُعلِنَ عدم اكتراثها أصلا بمضامين الاجتماع المذكور. فمن المفارقات الساطعة أنّ هذه اللجنة النيابية (التي تترأسها مباركة عواينية وتشغل صفة المقرّرة فيها يمينة الزغلامي) قد باشرت اجتماعاتها لتحديد الموقف من التمديد للهيئة من عدمه، في حين رمت بن سدرين بكلّ ذلك عرض الحائط لتُعلن أنّ هيئتها سيدة نفسها وأنّ الرأي قد استقرّ لديها على أنّ “صلاحية التمديد تعود إلى مجلس الهيئة”، لا إلى الجهة التشريعيّة التي تمخّضت عنها. ومن ثمّة حريّ باللجنة، ومن ورائها البرلمان الموقر، أن تلتزم حدودها ولا تخوض في شأن يتجاوزها…
وشهد شاهد من أهلها…
ينصّ الفصل 18 من قانون العدالة الانتقالية،الصادر سنة 2013 ، على تحديد مدّة عمل هيئة الحقيقة والكرامة بأربع سنوات بداية من تاريخ تسمية أعضائها قابلة للتمديد مرّةً واحدةً لمدّة سنة بقرار معلّل من الهيئة يُرفع إلى المجلس المكلّف بالتشريع قبل ثلاثة أشهر من نهاية مدّة عملها (التي تنتهي في شهر ماي 2018 ). وللتّمعن في ذلك استمعت لجنة شهداء الثورة وجرحاها وتنفيذ قانون العفو العام والعدالة الانتقالية، يوم 15 جانفي 2015 بمجلس نواب الشعب بباردو، إلى مجموعة من الخبراء هم تحديدا القاضية بالمحكمة الابتدائية بتونس عفاف النحالي ورئيس مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطية أمين الغالي والقاضي السابق بالمحكمة الإدارية أحمد صواب.
ووفق ما جاء في محضر جلسة اللجنة، المنشور في الموقع الرسمي للبرلمان، فقد أوضحت القاضية عفاف النحالي التي ألحقتها هيئة القضاء العدلي وثلاثة من زملائها في شهر أوت 2015 بهيئة الحقيقة والكرامة للتحقيق في الملفات المودعة لديها، أنّ القضاة رصدوا “العديد من التجاوزات داخل الهيئة والتلاعب بملفات الضحايا” ممّا عرّضهم لمضايقات عدّة وأدّى إلى إنهاء إلحاقهم. كما لم تتردّد القاضية المحلّفة في الإشارة إلى ارتكاب رئيسة الهيئة “العديد من التجاوزات”، على غرار الامتيازات التي تُمنح إلى بعض الموظفين و”إسناد التحقيق إلى غير القضاة من خلال تغييرها دليل الإجراءات وإفراغ الهيئة من الكفاءات ممّا أثر سلبا على الملفات”. ومع أنّ القاضية المذكورة اعتبرت من الضروري التمديد للهيئة نظرا إلى عدم استكمال جلسات الاستماع ودون الاستجابة لانتظارات الضحايا، فقد بيّنت أنّ “تأخّر الملفّات يعود بالخصوص إلى الاستقالات والإقالات والإجبار على الاستقالة وإفراغ الهيئة من الكفاءات”. وهو ما يعني في تقديرنا أنّ هيئة بن سدرين تتحمّل مسؤوليّة التأخير الحاصل، ومن ثمّة ليس على مجلس نوّاب الشعب أن يُشجّعها على التمادي في ارتكاب الممارسات نفسها على حساب مقدّرات المجموعة الوطنية.
من جهته أوضح الخبير أمين الغالي أنّ”مسار العدالة الانتقالية لا يُختزل في هيئة الحقيقة والكرامة”، بمعنى أنّ هذا المسار الواسع لن ينتهي بانتهاء مهام الهيئة، مشيرا إلى أنّ”جنوب إفريقيا مثلا تعمل منذ 21 سنة إلى اليوم على هذا المسار منذ انتهاء مدة عمل الهيئة التي عملت لمدة سنة ونصف فقط”. وشدّد في هذا المضمار على أنّ “الفصل 18 من القانون المتعلّق بالعدالة الانتقالية حدّد مدة زمنية للهيئة واسعة جدا وهي أربع سنوات، رغم أن مدّة الهيئة في بلدان أخرى لا تتجاوز السنتين”، متسائلا: “هل أنّ إضافة سنة خامسة سيمكّن الهيئة من التقدّم في دراسة الملفات وإنجاز المهام مع المشاكل الداخلية من الشغورات والقضايا المرفوعة ضدّها، إضافة إلى عدم تجاوب الجهاز التنفيذي مع الهيئة؟”. والأكثر من ذلك أنّ رئيس مركز الكواكبي أبرز أنّه “حسب القانون المتعلّق بمكافحة الفساد فإنّ عدم الامتثال للقرارات القضائية يعتبر شكلا من أشكال الفساد”.
مغالطات مكشوفة…
كان توصيف القاضي أحمد صواب أكثر حزمًا وحدّةً، قائلا في هذا الصدد إنّ عدم تنفيذ الهيئة أحكام المحكمة الإدارية”سيُدرّس للأجيال القادمة وسيبقى وصمة عار على جبين الهيئة لأن ذلك فيه تكريس لحالات اللاشرعية المتواصلة”، بل واستعرض عددا من الفصول القانونيّة التي تُجرّم هذا “الخطأ الفاحش” على غرار “الفصل 315 من المجلة الجزائية الذي ينصّ على أنّ عدم تنفيذ القرارات يعتبر مخالفة يمكن أن يعاقب عليها بالسجن”، مُعتبرا أنّ ” ما قامت به الهيئة يُعدّ جريمة بالمعنى الدستوري والقانون الجزائي والقانون الدولي”، فضلا عن أنّه يُشكّل “إهانة للقضاء وإذلالا للمتظلّم”. وليس من العسير إذن أن يستوعب المصابون بعُسر الفهم والهضم أنّ من ارتكب هذه الممارسات التي ترقى، حسب شهادة المختصّين، إلى درجة الجريمة ليس أهلا للتمديد في عهدته والقبول بسطوته.كما أنّ من استهلك أربعة أعوام دون تحقيق ما كُلّف به لن يتمكّن من القيام بواجبه بإضافة عام خامس، إلاّ في حال كانت له أهداف أخرى غير معلنة ولن تُعلن.
ومن التفاصيل المهمّة التي توقّف عندها القاضي صواب أنّ تقديم مطلب التمديد يجب أن يتمّ، حسب الفصل 18 من قانون العدالة الانتقالية،قبل ثلاثة أشهر، موضّحا “أنّ منح مجلس نوّاب الشعب مهلة ثلاثة أشهر لم يكن من فراغ بل لدراسة المطلب والتقرير بشأنه”. كما ذهب إلى أنّ عبارة “يُرفع” تعني بالضرورة علاقة عمودية قائمة بين البرلمان والهيئة، وكلّما نجد كلمة “يُرفع” نجد بالضرورة “سلطة تقريريّة”، مؤكّدا في نهاية المطاف على أنّ”الفلسفة العامّة لقانون العدالة الانتقالية وتحديدا في الفصل 64 منه تبرز أنّ الهيئة مضبوطة بحدود وهي الميزانية ومدّة العمل…فالمجلس التشريعي هو الذي منحها فترة عمل بأربع سنوات والمجلس بالضرورة هو الذي يُقرّر التمديد من عدمه”.
ومن ثمّة تنكشف بوضوح أكذوبة “الصلاحيات المطلقة” للهيئة في التمديد لنفسها التي أطلقتها سهام بن سدرين. وهو ما لخّصه أحد أعضاء اللجنة البرلمانية، وفق ما أثبته محضر الجلسة، في أنّ “تمديد الهيئة لنفسها يعتبر تكريسًا للاشرعية والفساد والمخالفات القانونية والدستورية”.
ومع ذلك فإنّه من المرجح أن التمديد في عمر الهيئة- وإن كان النظر فيه من مشمولات اللجنة البرلمانيّة المذكورة ثمّ الجلسة العامّة للبرلمان-،يرتبط بوجود صفقة قد تعقدها حركة النهضة مع بن سدرين بهدف الحفاظ على مصالح منظوريها المستفيدين من الهيئة وتعبئتهم للاستحقاقات المقبلة، وهو ما يحفظ في الآن ذاته امتيازات رئيسة الهيئة وتوابعها. ولا يخفى في هذا المضمار وجود أعضاء قياديين في “هيئة الحقيقة والكرامة” على ارتباط وثيق بحركة النهضة، بل ويُحسبون عليها وقد طفا الأمر على السطح منذ فترة بعد أن كنّا خصّصنا له مقالا بحاله، غير أنّه قد يصعب على حزب الغنوشي أن يُفلح هذه المرّة في تحقيق مراده دون أن يحظى بمساندة حركة نداء تونس. وهو ما قد لا يكون مضمونا في هذه الفترة السابقة للاستحقاقات الانتخابيّة…
استقواء ومكابرة…
من الواضح إذا أنّ سهام بن سدرين قد عجزت عن تبيان أدنى حجج موضوعيّة تدعم بها الادّعاء بأنّ مجلس الهيئة يمتلك صلاحية تمديد عملها، في حين أنّ ذلك يحتاج إلى “موافقة البرلمان في جلسة عامّة بأغلبية 109 أعضاء، على غرار بقية القوانين الأساسيّة”، مثلما يؤكد القاضي أحمد صواب، لاسيما أنّ البرلمان يُعدّ “سلطة أصليّة”، في حين أنّ “الهيئة سلطة فرعيّة”. وهنا تكمن المفارقة في أنّه يُمكن لسلطة فرعيّة في تونس أن تستقوي على سلطة أصليّة وتطرحها أرضا، بل وتتجاهلها وتُهمّشها وتُهينها أصلا بعدم الاعتراف بصلاحيّاتها. وعليه، لن يكون مفاجئا قطّ أن يورّط تحالف الأغلبية البرلمانية بين النهضة والنداء نفسه بالانصياع لرغبات رئيسة الهيئة عبر فرض تصويت قطيعي لصالح تمديد عملها.
أمّا في حال الفشل في إذلال السلطة التشريعيّة محليّا، فإنّ للبعض وسائل أخرى لممارسة ضغوطٍ ليست أقلّ إذلالا. فلا غرابة أن نلاحظ تحرّكا “مفاجئا”للصداقات واللوبيات الأجنبيّة التي لن تتردّد في محاولة الاستقواء على المؤسّسات السياديّة التونسيّة تحت عناوين مختلفة. وهو ما قد يأخذ نصيبه حتى في بعض أعمدة الصحف الأمريكية الكبرى، مثلما حدث سابقا، دون أدنى إدراك للخلفيّات أو الممارسات غير القانونيّة.
ومن المفارقات “المضحكة/المبكية” أنّ من يجرؤ على نقد أداء هيئة الحقيقة والكرامة تواجههُ رئيستها بأقذع النعوت، فلا تتردّد مثلا في توصيفه ببوق دعاية من أتباع النظام النوفمبري السابق وتهدّده بالقضاء. والحقيقة أنّ القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها تضمّن لفظا فضفاضا من السهل توظيفه والتشبّث بتلابيبه للإنتقام من كلّ من يُمارس دوره بشأن تقويم عمل الهيئة ومواقفها، على غرار الفصل ال 66 الذي ينصّ على عقوبة بالسجن لمدّة أقصاها ستة أشهر ضدّ كلّ شخص يقوم بأيّ عمل يُشكّل “ازدراء لها”.
ومع ذلك فإنّ هذا الفصل لا يعني شيئا أمام الحقّ الدستوري في حريّة التعبير الذي لا يُمكن لا لهيئة بن سدرين ولا لأيّة مؤسّسة أخرى أن تطمسه مهما كان حجم ترسانة الفصول الزجرية القائمة، ما لم يرتكب فعلا يُشكّل “وصمة عار” كالذي تحدّث عنه القاضي أحمد صواب.
مربط الفرس…
لا ريب أنّ للهيئة أعباء كبرى وأنشطة كثيرة ولجان عديدة، غير أنّ تونسيّين كثرا، حتّى ضمن نخبهم، قد لا يتصوّرون أنّ ميزانيتها تبلغ المليارات من مليماتنا، وهنا يكمن بيت القصيد، بل ومربط الفرس الحظيّة.فقد ناهزت ميزانيّة الهيئة، خلال عام 2016 فقط، 17 مليون دينار ) 16.900.000،000 دينار تحديدا( وُجِّه أكثر من ثُلثي هذا الرصيد المستخلص من عرق دافعي الضرائب إلى نفقات تسيير الهيئة حصريا، أي أجور الأعضاء والموظفين والمصاريف العامة. وفي المقابل لم يتجاوز المقدار المخصّص للعناية الفورية بضحايا الاضطهاد والتعويض مبلغ مليوني دينار.
وطبعا فإنّ التمديد بسنة إضافيّة في عمل الهيئة يعني صرف ما قد لا يقلّ عن 17 مليارا إضافية وربّما يبلغ أو يتجاوز 20 مليارا، وذلك بالنظر إلى التطوّر التدريجي لميزانيّة الهيئة واستجابة الحكومة لها.وفي هذا الصدد من الضرورة بمكان أن تقوم دائرة المحاسبات بالمهام الموكولة لها في الرقابة وفحص شتّى الملفات والفواتير حفاظا على المال العام.
وبعيدا عن أيّ”تتفيه” لعمل الهيئة، فإنّ التونسيين لا يتحمّلون مسؤوليّة عدم التزامها بأداء المهام الموكولة إليها خلال فترة عهدتها أو عجزها عن ذلك بدعوى إغراقها بعدد غير متوقّع من الملفات. فلتونس في هذا الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمرّ به حاجات كبرى ملحّة ذات مصلحة عامّة. ولنا أن نتساءل: كمْ من مدرسة ومعهد ووحدة صحيّة وطرقات فرعيّة وأشغال للبنية التحتية يُمكن إنجازها أو تهيئتها في المناطق الداخليّة للبلاد بمثل هذا المبلغ الضخم!؟، إلاّ في حال تظافرت مواقف بعض ساسة المزايدين، داخل الهيئة والبرلمان وخارجهما، للتعبير عن هواجس مصلحيّة أخرى!.
ورغم ضخامة هذا النزيف المالي، فإنّ الإشكال لا يكمن أساسًا في مبدأ التمديد ومتطلّباته المادية المنهكة، وإنّما في ادّعاء الهيئة امتلاك صلاحيّات ليست لها. ومن الأجدى أن تلتزم بما ينصّ عليه الفصل 67 من قانون العدالة الانتقالية الذي يُطالبها في نقطته الثانية بإعداد تقرير ختامي شامل، على أن تتولّ الحكومة “إعداد خطة وبرامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة”ومن ثمّ تمريرها إلى مجلس النوّاب للبتّ فيها…
وفي المحصّلة، يبدو أنّ نيلسون مانديلا ومُمثلي شعبه لم يفقهوا شيئا إطلاقا بالمقارنة مع برلماننا والهيئة السائبة التي أحدثها. فلجنة جنوب إفريقيا أتمّت عملها في غضون سنة ونصف السنة فقط دون تمديد أو تجديد، رغم أنّ تلك البلادكانت عنوانا للميز العنصري والاضطهاد والاستعباد والتعذيب لعقودٍ جدّا طويلة. أمّا في تونس الثورة، فقد أزبدت بن سدرين ونفثت سهامها فاستهانت بالقضاء وقرّرت والقرار لها وحدها أن تستزيد لنفسها عامًا خامسًا بعد قضم أربعة أعوامٍ وخراجها. يقول اللسان الشعبي التونسي الفصيح: “شي يكوخر يا لوخر”!!!.