الشارع المغاربي : كثّف راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، خلال الفترة الأخيرة، من تحرّكاته الحزبيّة وأنشطته السياسيّة في كلّ الاتّجاهات. ولئن كان الأمر مفهومًا جدّا بالنظر إلى إقراره التعبئة العامّة في صفوف حزبه وأنصاره استعدادًا لخوض غمار الانتخابات البلديّة، فإنّ بعض المؤشّرات تؤكّد أنّ الغنوشي يُحلّق بنظره إلى ما أبعد من موعد يوم 6 ماي 2018، بل ويرى أنّ تحقيق نجاح كاسح في هذا الاستحقاق يُمثّل سبيله الأوحد للحفاظ على تماسك حركته وخوض “رئاسيّات 2019” والولوج في قصر قرطاج العصيّ. مؤشرات وخلفيّات…
منذ أن أقبل شيخ حركة النهضة خلال الصيف الماضي على ارتدائها، تنوّعت ربطات عنق الغنّوشي وازدهت بكلّ الألوان، فلم تُخلّف حتّى البنفسجيّ والوردي منها. تغيير في المظهر وتعديل في الملامح وتواتر صور “السِلفي” مع الحسناوات في شتّى اللقاءات والمؤتمرات والاستقبالات، وخطاب متمسّك بـ“التوافق” و“المشاركة” يؤشّر لمخطّط انفتاحي غير محدود على عوالم سياسيّة واجتماعيّة غير معهودة… ألمْ يُرشّحْ، مؤخرا، تونسيّات غير محجّبات على رأس بعض قائمات حركته للانتخابات البلديات! وألمْ يستقطب الحزب ذو المرجعيات الإسلاميّة مواطنا تونسيّا يهوديًا للانضمام إلى القائمة الانتخابية للحركة بدائرة المنستير بالذات، مدينة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة… مشاهد متواترة تُظهر مؤسّس حركة “الاتّجاه الإسلامي” في تونس في صورة غير مسبوقة من شأنها أن توجّه رسائل سياسيّة إلى الداخل والخارج وتُسهم في جعله مقبولا لدى معظم التونسيين، لا جماعة منهم دون سواها، وتُمهّد خصوصًا لاحتمال الإعلان عن طموحه الجارف في دخول قصر قرطاج من بوّابته الواسعة…
طموح تبرّره توازنات جديدة
لم يُخفِ راشد الغنوشي، عشية فوز قايد السبسي برئاسة الجمهوريّة، قناعته بأنّه لم يكن ممكنًا ومطروحًا إطلاقا أن تتقدّم حركة النهضة بمرشّح من داخلها إلى الانتخابات الرئاسيّة. والأكثر من ذلك أنّه أقرّ آنذاك حرفيّا، في حديث نُشر له بصحيفة “الخبر” الجزائريّة، بتخوّفه الشديد من الأسوأ قائلا: “لو تقدّمنا إلى هذا المنصب (رئاسة الجمهوريّة) سينهار المسار بانقلاب، بإرهاب، باغتيالات، بفوضى عارمة، كلّ عمل لا تبرّره موازين القوى لا يتمّ“، وفق ما ذهب إليه آنذاك، مُلمّحًا إلى ما حدث في مصر بعد إطاحة العسكر بحكم الإخوان وعزل الرئيس محمد مرسي. وفي هذا المضمار لم يتردّد رئيس حركة النهضة في القول “نحن اعتبرنا بغيرنا وبهذه التجارب، وتونس والديمقراطية أغلى علينا من النهضة، أنا ليس لي مشكل في أن انتقل من السلطة إلى المعارضة، لكن لا أحبّ أن انتقل من السلطة إلى السجن أو من السلطة إلى المهجر“…
أمّا اليوم فقد تغيّر الحال، وفي ظرف سنوات معدودة أصبح هذا التصوّر لا يهمّ غير الماضي، بعد أن اعتبر الغنوشي من أخطاء “الترويكا” وأعدّ العدّة لجعل ما كان يُعتبرُ جسمًا غريبًا مبثوثا في مختلف نواحي الدولة ومنصهرًا بقدر أكبر في الوسط التونسي المحيط به. ولئن كان من المُبكّر أن تُعلن حركة النهضة ترشيح ممثل لها لخوض الانتخابات الرئاسيّة، فإنّ رئيسها نفسه قد أعلن بلسانه أنّ الحركة ستُشارك في هذا الاستحقاق المصيري. جاء ذلك في حوار شامل أدلى به لمجلة “جون أفريك” ونشرته في موقعها بتاريخ 5 أفريل 2019. صرّح فيه الغنوشي حرفيا: “من المؤكّد أنّ حركة النهضة ستشارك في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة“، واستطرد: “لن نتبنّى موقفا حياديًا على غرار سنة 2014 وسنساند مرشّحًا“.
وممّا يلفت الانتباه أنّ زعيم النهضة قد لمّح أيضا إلى أنّ ترشّح حركته للانتخابات الرئاسيّة قد يُمرّر من بوّابة “التوافق” الشهيرة، قائلا “أمّا أن يكون لنا مرشّحنا الخاص فإنّنا سنقرّر ذلك داخليّا، بعد التشاور مع الأحزاب الصديقة“. وبقدر ما ينضح به هذا التصريح المهمّ من وضوح، فإنّه يتّسم أيضا وفي الآن نفسه بالكثير من الغموض. وهذا في الحقيقة من خاصيّات الخطاب المتعدّد المعاني الذي يعتمده رئيس حركة النهضة. وهو ما يتشابه إلى حدّ مّا مع الأسلوب الخطابي للباجي قايد السبسي نفسه الذي لم يُعلن بدوره عن نواياه بالنسبة إلى استحقاق 2019.
ومربط الفرس في هذا المضمار إنّما يكمن في ماهيّة “الأحزاب الصديقة” التي يقصد الغنوشي اعتزامه التشاور معها بشأن مسألة الترشح تلك، إذ تبدو قائمتها متغيّرة إلى حدّ كبير. فالأحزاب الصديقة لحركة النهضة خلال فترة حكم الترويكا ليست هي نفسها حليفتها اليوم، كما يُمكن أن تتغيّر غدا، وفق التوازنات الجديدة ولاسيما التي قد تُفرزها الانتخابات البلديّة…
6 ماي.. اختبار مصيري!
مع أنّ لا شيء يبدو مضمونا خلال الانتخابات البلديّة المقبلة، وخاصّة بالنظر إلى طبيعة النظام الانتخابي وتأثير تكاثر القائمات المستقلّة في تشتيت الأصوات، فإنّ حركة النهضة تبدو مؤهّلة أكثر من غيرها لتصدّر القائمات الفائزة بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البلدية. ورغم هذه التوقّعات المتفائلة بالنسبة إلى حركة النهضة، فقد حرص الغنوشي على توجيه رسالة طمأنة مضمونة الوصول إلى مناوئيه وحلفائه. ولا أدلّ على ذلك من أنّه قد أكّد، في حواره الأخير مع مجلة “جون أفريك“، أنّ البلديّات ينبغي أن تُدار بشكل جماعي وتشاركي، بعيدا عن أيّ نزوع إلى الهيمنة، مهما كانت نتائج الانتخابات المقبلة.
لا ريب طبعا أنّ هناك فرقا شاسعًا بين الوعود القبليّة والممارسات المحتملة، بصرف النظر عن توجيهات زعيم الحركة وتعليماته. فعلى سبيل المثال، لن يكون غريبا أن نرى مسؤولين محلّيين في بعض البلديات وقد تراءى لهم أنّ زمن الخلافة قد حلّ، وربّما يتناسون عندها تعهّد حركة النهضة بالفصل بين الدعوي والحزبي عبر دعم جمعيات أصوليّة مختلفة أو الصمت عن دعمها، غير أنّ هذا الأمر يبقى نسبيا باعتبار يُسر كشف مثل تلك الممارسات قبل استحقاق 2019.
والأهمّ من تأكيدات الغنوشي بشأن عدم سعي حركته إلى الانفراد بتسيير الشأن البلدي حتى في حال كان فوزها كاسحا، فإنّه من الطبيعي أن يكون كلّ تفكيره اليوم منصبّا على ضرورة تحقيق فوز كبير جدّا في الانتخابات البلديّات. فهذه المحطّة تبدو السبيل الوحيد أمامه لتمهيد السبيل أمام الاستحقاق الرئاسي. فهو يُدرك تمامًا أنّ حصول أيّة نكسة محتملة وغير منتظرة في يوم 6 ماي المقبل سيعني فشلا شخصيّا لربّانها، وربّما يُهدّد زعامته العصيّة عن النقاش. كما قد يكون لأيّ فشل محتمل تداعيات خطرة حتّى على التوازنات داخل الحزب. ولا يخفى في هذا الصدد أنّ الغنوشي إنْ كان يُهيمن على “الحزب” ومؤسّساته السياسيّة المعلنة فإنّه لا يتحكّم بشكل محدّد في “التنظيم“. كما أنّ بعض الغاضبين ممّن لحقهم الإقصاء من عضويّة المكتب التنفيذي، على إثر المؤتمر العاشر لحركة النهضة، مازال لديهم وقعهم القويّ داخل التنظيم.
ومن ثمّة يبدو أنّ الفوز المنتظر في الانتخابات البلديّة، حتّى وإن كان نسبيا، من شأنه أن يُغذّي طموحات الغنّوشي في “رئاسيات” 2019. كما أنّ القيادات الغاضبة قد تكون في مقدّمة من سيُناصر ترشيح الغنّوشي، لأنّها بذلك ستضمن انزياحه عن الحزب، على الأقلّ هيكليّا. وحتّى في حال فشله في الفوز بالرئاسة، ستكون قد تخيّرت أفضل فرصة للمطالبة بإحداث تغيير في أعلى هرم الحزب.
وممّا يُلاحظ أيضا أنّ الغنوشي قد لا يكون في أفضل أحواله الصحيّة، وهذا لا ينبع من معرفة بملفّه الصحّي وإنّما من خلال مجرّد تأمّله في بعض خطبه حين تراه يُمسك يده اليسرى باليمنى لمحاولة تجنّب إظهار مدى ارتعاشها. والمقصود هنا، بعيدا عن علم الغيب، أنّ أفضل السيناريوهات بالنسبة إلى صاحب “برج السرطان” هي الوصول إلى قصر قرطاج في سنّ تُناهز الثمانية والسبعين عاما، إذ أنّ الفشل في 2019 يعني انتظار خمسة أعوام بعدها، بما قد يُعسّر الأمر أكثر.
المرزوقي الخاسر الأكبر
من الواضح أنّ الاحتمال الوحيد الذي قد يفرض على زعيم حركة النهضة التراجع عن ترشيح نفسه إلى رئاسيّات 2019 هو تمسّك الرئيس الباجي قايد السبسي بالبقاء في قصر قرطاج وإعادة ترشيح نفسه لهذا المنصب. وهنا يمكن أن نفهم تأكيد الغنوشي على مسألة التشاور مع الأصدقاء قبل اتّخاذ هياكل حركته لقرارها بهذا الشأن.
وفي حال لم يُجدّد قايد السبسي ترشيحه، قد يكون الرئيس السابق المنصف المرزوقي الخاسر الأكبر إذا ما تقدّم الغنوشي إلى الاستحقاق الرئاسي. فمن المفارقات أنّ حظوظ المرزوقي في العودة إلى القصر تبدو عمليّا أوفر في حال ترشّح رئيس الجمهوريّة الحالي، لأنّه عندها سيستفيد من أصوات أنصار حركة النهضة غير المنضبطين ومن خزّانها الانتخابي.
وعلى هذا الأساس فإنّ عدم ترشّح قايد السبسي يعني أنّ راشد الغنوشي لن يضطرّ لـ“كظم” طموحاته، وعندها ستتضاءل حظوظ المرزوقي بشكل كبير جدّا لأنّ الإسلاميين في غالبيّتهم لن يلتفتوا إلى رئيس حزب الحراك إطلاقا حين يُوضعون أمام محكّ الاختيار وعندها سيفعل الانضباط الحركي مفاعيله. كما أنّه من طبيعة الأمور أنّ المرزوقي قد لا يفوز آنذاك بصوت واحد من جماعة نداء تونس وسائر الأحزاب التي تسير في فلكه. كما لن يبقى له آنذاك سوى أنصار الأحزاب المتناسلة عن حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة. وهو ما لن يُتيح له جمع أكثر من عدد أصواتها في الانتخابات التشريعيّة، وفي المحصّلة يعني ذلك أنّ أكبر عدوّ لترشّح راشد الغنوشي سيكون المرزوقي نفسه.
ومن المستبعد أيضا أن يُقدّم الغنوشي وحزبه هديّة مجّانية بمثل هذا الحجم إلى المرزوقي، حتّى وإن كان سيضمن لحركة النهضة وزعيمها الإمساك بتلابيبه، كما كان الحال زمن حكم الترويكا أو أكثر. فالموضوع يتعلّق بمن يُمسك بدفّة البرلمان، ولاسيما في حال لم يُعدّل الدستور في اتّجاه توسيع صلاحيّات رئيس الجمهوريّة.
غموض وآمال…
عموما يبدو من السابق للأوان أن نجزم بسيناريو الاستحقاق الرئاسي المنتظر، قبل أن تُفصح الانتخابات البلديّة عن أسرارها. ومع ذلك يظهر أنّ مفاتيح لغز 2019 لا تزال إلى حدّ الآن في أيدي الشيخين الغنوشي وقايد السبسي في حال لم تحدث مفاجآت غير منتظرة، وخاصّة بعد أن كُبحت طموحات رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد. فلا ننسى أنّه في لحظة من اللحظات أبدى الغنوشي خشيته من ارتفاع شعبيّة الشاهد بعد إعلانه خوض “الحرب على الفساد” والزجّ برجل الأعمال المثير شفيق الجراية في السجن. وهو ما دفع رئيس حركة النهضة إلى مفاجأة الرأي العام عبر مطالبة رئيس الحكومة علنا بالإعلان عن أنّه “غير معني بانتخابات 2019” وأنه “ليس معنيا إلا بإدارة الشأن العام في تونس“.
اليوم تغيّرت المعادلات، ويبدو زعيم النهضة في وضع أفضل ومبتهجًا بما قد يجنيه قريبا من مكاسب. وهو ما جعله حريصا، أكثر من أيّ وقت مضى، على تأكيد تمسّكه بمناورة “التوافق” السياسي، ولاسيما بعد أن تخلخلت أسسه تحت قبّة البرلمان مؤخرا بسبب الموقف من تمديد فترة عمل هيئة سهام بن سدرين. لتلك الحادثة دلالاتها ورسائلها لدى الأنصار قبل المنافسين، غير أنّها لن تُجفّف اللُعاب الذي أخذ يسيل…