الشارع المغاربي : ما يجري اليوم في تونس ليس وليد صدفة لأنه في الحقيقة مسار رسمته ضوابط خارجية جعلت له في الداخل أسسا داعمة ومتكاملة. منذ اتفاق روما المُوقّع في 25 مارس سنة 1957 والذي أسس للمجموعة الأوروبية، ألحت فرنسا بصفتها بلدا مؤسسا على التنصيص في الوثيقة الرسمية على فتح المجال للتوقيع على اتفاقيات شراكة بين المجموعة الأوروبية والبلدان الحديثة العهد بالاستقلال التابعة لمنطقة الفرنك في تلميح واضح للسعي لإعادة بسط النفوذ على البلدان التي كانت تابعة لها قبل الحرب العالمية الثانية.
هذه الخطوة أدت بالنسبة لتونس و المغرب الشقيق أيضا إلى التوقيع على ثلاث اتفاقيات متتالية الأولى في سنة 1969 والثانية في سنة 1976 والثالثة في سنة 1995 والرابعة تبدو على الأبواب.
الاتفاقية الأولى تم توقيعها بين تونس والمجموعة الأوربية بتاريخ 31 مارس 1969 وهو تاريخ تزامن مع بداية القطع مع تجربة الآفاق العشرية في الستينات وليس صدفة، وهي نفس الاتفاقية الموقعة مع المغرب كذلك. هذه الاتفاقية كانت تحتوي على نص واحد للبلدين يتكون من 19 فصلا. في مضمونها تؤكد هذه الاتفاقية على عدم التكافئ بين الطرفين وتنُصّ على “أن المنتوجات الصناعية التونسية وهي نادرة أو حتى غير موجودة آنذاك( باستثناء الحديد والفولاذ الذي تم استثناؤه من الاتفاقية )في علاقة بدخول مصنع الفولاذ في الإنتاج يمكن تصديرها إلى بلدان المجموعة الأوروبية بدون معاليم ديوانية بينما تُبقي تونس على توظيف المعاليم الديوانية قائمة الذات عند توريد المنتوجات الصناعية من المجموعة الأوروبية” كما تم تحديد كميات المنتوجات الفلاحية التي يمكن لتونس تصديرها خاصة في ما يتعلق بزيت الزيتون غير المصفى والقوارص.
أما الاتفاقية الثانية وهي كالعادة مماثلة مع المغرب، فقد تم توقيعها في 25 أفريل 1976 ودخلت حيز التنفيذ يوم غرة نوفمبر 1978 . هذا الاتفاق سمي ب”اتفاق التعاون الشامل للتنمية” في محاولة من طرف المجموعة الأوروبية لإيهام الأطراف الموقعة أنها مُتفهّمة لتطلع بلدان العالم الثالث لتحقيق التنمية الشاملة. غير أنه اتضح أنه اتفاق تجاري تفاضلي وضع نظام حصص ” quota ” على عديد المنتوجات خاصة منها النسيج والملابس. كما تم التنصيص على المحور الاجتماعي وهو يتعلق أساسا بمشاكل الهجرة حيث سعت المجموعة الأوروبية استباقيا إلى فرض تأشيرة دخول على مواطني شمال و جنوب الصحراء الإفريقية وعلى بلدان شرق المتوسط.
هذا المسار المُخطّط بطريقة مُحكمة من الطرف الأوروبي لم يُواجه بأي مشروع سياسي وطني واضح المعاليم. بل جُوبه بنظام ساده التصرف الأحادي بالاصطفاف وراء اقتصاد المناولة لصالح الشركات الأوروبية ثم انتقل إلى نظام دكتاتوري طغى عليه عامل الفساد و نهب الثروات والمؤسسات الوطنية. هذا النظام مكّن لوبيات مُعيّنة (في بعض التقارير العالمية يتم الحديث عن 200 عائلة تقريبا) من السيطرة على مفاصل الاقتصاد الوطني خاصة على مستوى
التوريد و النيابات الخارجية وعلى مستوى البنوك الخاصة وعلى قطاعات التوزيع والفضاءات التجارية. وهي قطاعات تتجاوب مع مُتطلّبات الرهانات الإستراتيجية للاتحاد الأوروبي وجعلت من هذه اللوبيات حليفا إستراتيجيا داخليا يمكن التعويل عليه للمسك بزمام الأمور في البلاد سواء قبل الثورة أو بعدها.
هذا المسار في الحقيقة يُفسّ التخبّط الذي يسود البلاد منذ 2011 حيث اعتقد الكثيرون أن العدل و الإنصاف سوف يسودان ويعمان الجميع عبر استرجاع الدولة دورها المحوري في التخطيط التنموي. غير أنه تبين أن كل ما مررت الأحزاب التي برزت اثر الثورة من برامج اقتصادية سواء خلال الانتخابات التأسيسية سنة 2011 أو الانتخابات التشريعية و الرئاسية في سنة 2014 كانت برامج سطحية ورنُانة لم يتم تنفيذ أي جزء منها. ويبدو جليّا أن هذه الأحزاب استوعبت اللعبة الخارجية والداخلية وعرضت خدماتها كأداة للبقاء على نفس الدرب المُخطّط له من طرف اللاعب الأساسي الأوروبي رغم بعض المحاولات من بعض الجهات لإدخال لاعب إقليمي جديد هو تركيا ولاعب دولي تمثله الصين.
حكومات لم تعد تسيطر على السياسات الاقتصادية في البلاد
لمزيد التوضيح حول هذا الموضوع المحوري لابد أن نتوقف عند ما جاء حرفيا في الندوة الصحفية التي نظّمتها بتونس “كريستين لاغارد” المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بتاريخ 12 فيفري 2012 بحضور محافظ البنك المركزي آنذاك مصطفى كمال النابلي وهي الزيارة الثانية التي قامت بها بعد زيارتها الأولى في سنة 2011 و التي جاءت اثر انعقاد قمة دوفيل لمجموعة الدول السبع في ماي 2011 . و قد كانت “لاغارد” تراود بمكر وحيلة غير عاديين حكومة الترويكا لتتحصّل على موافقتها لكي يتمكن الصندوق من فرض برامجه المعتادة في الخوصصة والتجارة الحرة. لقد أكدت “كريستين لاغارد” أنها في هذه الزيارة ” كان لديها ثلاث رسائل أساسية أرادت إبلاغها إلى الأطراف الحكومية التي تتحاور معها وهي الآتية:
• أولا “أن صندوق النقد الدولي هو شريك وسيبقى شريكا إذا أردتم ذلك و متى أردتم ذلك”.
• ثانيا “أن صندوق النقد الدولي في صيغته سنة 2012 هو مُخالف للصندوق الذي كان سائدا في الثمانينات” في محاولة لتضميد جراح ما خلّف الصندوق من آثار كارثية أدّت إلى تدمير الاقتصاد الوطني عبر فرض الخوصصة المُفرطة وفرض التخلي عن سياسة التخطيط التي دأبت عليها تونس منذ الاستقلال إلى بداية التسعينات وترك السوق يتحكم في تنظيم و تعديل الاقتصاد. وما نعيشه اليوم من انفلات في الأسعار ومن احتكار ومن تسيب وتهريب هو نتيجة
لهذا التوجه الذي فُرض منذ سنة 1986 .
• ثالثا تقول وهي ناصحة “بعد الثورة سنة 2011 ، على السلطة السياسية والأطراف الاقتصادية أن تُركّز على ضرورة تنمية النشاط الاقتصادي وخلق مواطن الشغل وإعادة الثقة لكل المستثمرين المحليين والأجانب” (وهي دعوة ضمنية لتمرير قانون المصالحة). ثم أضافت بعد ذلك اعترافا خطيرا جاء فيه “حتى نُبسّط الأمور، لقد أتينا السنة الفارطة لتونس (أي سنة 2011 مبعوثة من طرف أعضاء قمة دوفيل) واقترحنا على الحكومة التونسية المساعدة ولكنهارفضت (وهذا يُحسب لها) حيث أجابت الحكومة آنذاك أن رصيد الدولة يكفي لمجابهة الوضع في البلاد”. ثم أضافت “و لكن نحن دائما نُجدّد عرضنا وهذه مُهمّتنا. لذا نحن نبقى على استعداد لو تعتقدون أن الصندوق هذه السنة يمكن أن يتدخّل في شكل مساندة أو دعم (قروض مشروطة طبعا) في إطار برنامج نتفق عليه على مستوى عناصره الأساسية للسياسات الاقتصادية ونحن جاهزون” ثم أضافت “المسؤولين الذين تحاورنا معهم (حكومة الترويكا الأولى) كانوا إيجابيين وتقبلوا هذا العرض الجديد. لذلك سوف نستمر في التواصل”.
طبعا ما قدمناه هو مُسجّل بالصوت والصورة إذ نعتبره وثيقة تاريخية هامة. وهو بالمناسبة يُفنّد ما زعم العديد من السياسيين ومن “الخبراء” الموالين لهذه السياسة الاقتصادية بأن تونس هي التي طلبت المساعدة من صندوق النقد الدولي. لذلك يمكن اعتبار سقوط حكومات ما بعد الثورة في فخّ تدخّل
صندوق النقد الدولي بداية من سنة 2012 و 2013 وتجدّد الأمر بأكثر خطورة بداية من سنة 2016 هو إعادة المسار إلى طريقه الذي سُطّر له منذ 1957 .
لقد ثبّت صندوق النقد الدولي بتنسيق مباشر مع الاتحاد الأوروبي ومع اللوبيات المحلية التابعة لهما، في كل المراحل التي مرّت بها البلاد منذ 2012 إلى اليوم، عناصره الموالية له في مراكز حسّاسة و إستراتيجية في السلطة مثل تنصيب وزراء معينين في وزارة التجارة موالين لمجموعة كبرى داخلية (مهدي حواص بشير الزعفوري على سبيل المثال) ومنصب مستشار اقتصادي لدى رئاسة الحكومة عمّر فيه توفيق الراجحي منذ سنة 2012 إلى اليوم. مهمته الوحيدة “التفويت في المؤسسات الوطنية الإستراتيجية”.
كما تم تثبيت وزير الصناعة السابق عفيف شلبي على رأس لجنة التحاليل الاقتصادية برتبة وزير وهو معروف بتشجيعه الُمُستمر وغير المُنقطع للشركات الأوروبية غير المقيمة والمصدرة كليّا و الحال أنها لا تسترجع مداخيل التصدير .
قبضة حديدية مقابل فراغ سياسي وصراعات عقيمة
أمام هذا المسار المُمنهج و الذي تعزّز في ماي 2011 خلال قمّة “دوفيل” وحقّق أهدافه في جعل البلاد رهينة قراراته و شروطه، نلاحظ فراغا سياسيا خطيرا يمثّله تواجد حزبين أساسيين في البلاد ليس لديهما أية برامج اقتصادية و اجتماعية وطنية. لذلك اختارا التواصل مع ما كان سائدا في النظام السابق و التعامل مع القوى الخارجية و اللوبيات الداخلية سعيا لنيل المراكز الرمزية للسُلطة وليس السُلطة الحقيقيّة.
من ذلك تبين أن الحزب الأول ذا المرجعيّة الإسلامية الذي نجح في الانتخابات التأسيسية في سنة 2011 وأحرز على المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية لسنة 2014 لا يملك مع الأسف أي برنامج اقتصادي واجتماعي وطني بقدر ما اكتشفنا كم كان موغلا في تمشي ليبرالي لا يولي للاقتصاد المنتج أية أهميّة.
والدليل على ذلك أن الحزب وهو شريك في السلطة منذ 2012 إلى اليوم لم يتقدّم بالمرّة بخطّة عمليّة جديّة لمعالجة انهيار قيمة الدينار وتداعياته الكارثية على البلاد، كما أنه لم يتعرّض بالمرّة لمعضلة العجز التجاري وعجز ميزان الدفوعات و لم يطالب البتّة بضرورة وقف سيل التوريد المُكّثف و الفوضوي الذي جرّ البلاد لحالة الإفلاس.
إلى اليوم لم نر هذا الحزب يرتقي إلى مستوى التحدّيات التي تجابهها البلاد عبر التخطيط لمسيرة تنموية ترد الاعتبار للقطاعات المُنتجة في إطار السيادة الوطنية لتحصين الثروات الوطنيةواستغلالها لتحسين البنية التحتية ولبناء اقتصاد واعد يخلق الثروة و يُوفّر مواطن شغل مستدامة.
أما الحزب الثاني الذي كان في الحقيقة يحمل بذور انقساماته منذ نشأته بالنظر إلى الجهات المتناقضة فكريا واقتصاديا واجتماعيا التي التفّت حوله، فقد تبين كذلك أنه لا يملك أي برنامج اقتصادي واجتماعي يُذكر رغم التسويق الذي جرى أثناء الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 لمشاريع استثمار لم تر النور واتضح أنها مجرد سراب.
لا بد من مبادرة وطنية لإنقاذ البلاد
لذلك نعتقد أنه لا يُمكن الاستغراب ممّا وصلت إليه البلاد اليوم من تشرذم وصراعات هامشية وهو وضع أقل ما يقال فيه أنه غير قادر بل ولا يُفكّر حتى في ضرورة مجابهة الرهان الاستراتيجي الذي خطّط له الاتحاد الأوروبي منذ نشأته سنة 1957 .
كما نعتقد أن تحقيق الوحدة الوطنية ورد الاعتبار لسيادة البلاد واستقلالها وتكريس حق الشعب التونسي في تقرير مصيره وحقّه في مراجعة كل الاتفاقيّات غير المتكافئة التي أضرّت بالمسيرة التنموية للبلاد هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة العميقة. وهي أزمة تتشارك فيها كل المنطقة العربية شرقا وغربا نتيجة صراعات القوى العظمى للهيمنة عليها بكاملها و نتيجة غياب مشاريع وطنية جادة وتخطيط استراتيجي مُحكم لتنفيذها والمحافظة على تأمين سبل نجاحها.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 2 أكتوبر 2018.