الشارع المغاربي : تشهد الساحة المحلية والإقليمية تطورات سياسية و اجتماعية خطيرة وعميقة تنذر بنهاية مرحلة اتسمت بسيطرة قطب أحادي غربي تتزعمه الولايات المتحدة الامريكية بمساندة مطلقة من الاتحاد الأوروبي برز منذ أواسط الثمانينات وتعاظم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
هذا القطب اتخذ مما سمي بـ”الليبرالية الجديدة””Néolibéralisme “منوالا اقتصاديا أحاديا تم إقراره وفرضه على بقية بلدان العالم تحت مُسمى “العولمة” وجعل له من المنظمة العالمية للتجارة دستورا أملت الولايات المتحدة وبعض حلفائها قوانينه قياسا على مصالحها واستقطب الأغلبية العظمى من دول العالم طوعا أو كرها.
لقد أدت هذه السياسة “الليبرالية الجديدة” في تونس كما في كامل البلدان التي طبقتها إلى استفراد عائلات قليلة جدا (بين خمسين و 200 عائلة في أقصى تقدير في تونس) بأغلبية الثروات في البلاد حيث سيطرت على البنوك والمؤسسات المالية التابعة لها (التأجير-Leasing) وعلى شركات التأمين وعلى نيابات التوريد للسيارات وسائر وسائل النقل والفضاءات التجارية الكبرى فرنسية الأصل.
هذه السياسة التي اتخذت من اتفاق الشراكة الموقع في سنة 1995 مع الاتحاد الأوروبي إطارا اساسيا لتفكيك المعاليم الديوانية وتسهيل تسويق البضائع المستوردة أدت إلى تدمير النسيج الصناعي المحلي وتدمير كل النشاطات المنتجة في البلاد .مما تسبب في ارتفاع نسبة البطالة وتعميق العجز التجاري وانهيار قيمة الدينار التونسي.
فشل العولمة و فشل برامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي
بعد أكثر من ثلاثين سنة من سياسة “العولمة” تبدو النتائج كارثية على الشعوب و مخيبة للآمال حسب عديد الخبراء في العالم. نذكر من أهمهم جوزيف ستيغليتز المستشار السابق للرئيس بيل كلينتون وصاحب جائزة نوبل للاقتصاد والذي أكد في كتابه الشهير الصادر في سنة 2002 والذي انتقد فيه العولمة وتُرجم إلى اللغة العربية تحت عنوان ” الأكذوبة الكبرى” “La Grande Désillusion” والذي أكد فيه “أن صندوق النقد الدولي يُقدّم مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية بوصفه مُساهم أساسي على مصالح كل البلدان الضعيفة التي يدعي مساعدتها”. كما أكد في هذا الكتاب” أنه بالرجوع إلى الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في جنوب شرق آسيا في سنة 1997 تبين أن السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي أدت غالبا إلى تعميق الأزمات التي تعهدت بحلها والتي كانت تداعياتها الاجتماعية وخيمة و مدمرة للفئات الضعيفة و المتوسطة حيث أدت إلى ارتفاع نسبة الفقر في العالم”. مهما كانت الانتقادات التي تعرض لها هذا الكتاب يبدو اليوم بالكاشف أن كل ما تنبأ به جوزيف ستيغليتز قد تحقق على أرض الواقع.
كما يجب التذكير أيضا بتقارير ” مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” “CNUCED” المتعددة حول هذا الموضوع وخاصة التقرير الصادر في سنة 2004 بعنوان “التنمية الاقتصادية في إفريقيا: ضرورة مراجعة دور الاستثمار الخارجي”. حيث أكد فشل العولمة وفشل كل برامج الإصلاحات الهيكلية التي فرضها صندوق النقد الدولي على العديد من بلدان العالم. كما أكد على انتشار عديد المؤشرات السلبية التي تتقاسم بين كل البلدان التي انساقت في هذا المسار نذكر من أهمها:
– تدمير النسيج الصناعي المحلي في كل البلدان المعنية.
– تمحور نشاط لوبيات محلية حول التوريد المكثف والنيابات التجارية للعلامات الخارجية ” فرانشيز” مما سهل غزو الأسواق من طرف البلدان المصنعة وأدى إلى تعميق العجز التجاري في تلك البلدان بطريقة هيكلية ومرتفعة مما عمق المديونية وأدى إلى انهيار العملات المحلية.
– تنامي ظاهرة الفساد والسطو على المؤسسات والثروات الوطنية لتلك البلدان خاصة عبر الخصخصة وانتشار الاقتصاد الموازي والتهريب والتهرب الجبائي وتهرب رؤوس الأموال إلى الخارج.
– انتشار البطالة والهجرة السرية وانتشار ظاهرة الفقر وظاهرة الإجرام.
كل هذه الظواهر السلبية تتقاسم مع كل ما حصل في تونس منذ أواخر الثمانينات إلى اليوم. غير أن الذين تسببوا في هذه الكوارث الوطنية لا يريدون الاعتراف بهذا الفشل رغم ما بدأ يظهر من انتفاضات خطيرة داخل البلدان الغنية مثلما ما يجري حاليا في فرنسا.
من ذلك نلاحظ أن رئيس مجلس التحاليل الاقتصادية عفيف شلبي وهو بالمناسبة عضو مجلس إدارة بنك خاص تابع للوبيات التوريد والفضاءات التجارية الكبرى مصر على التمادي في نفس السياسة الليبرالية الجديدة في شبهة علاقة مصالح واضحة. وهو ما تبين من اقتراحاته المائة التي تقدم بها لإصلاح الوضع والتي تتلخص بكل أمانة في الإمعان في نفس السياسة المدمرة للبلاد.
ترابط المصالح بين دول الاتحاد الأوروبي و اللوبيات الداخلية و تسخير الأحزاب السياسية لخدمة هذه المصالح
هذا التقييم حول دور القوى الإقليمية وبالتالي دور الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتونس ولعديد البلدان العربية (المغرب و الجزائر و مصر و لبنان و الأردن) والبلدان الإفريقية خاصة في غرب القارة الإفريقية، ودور المؤسسات المالية الدولية التي تساهم فيها هذه البلدان بدرجة مهمة يبين بوضوح أن ما جرى في تونس وما يجري اليوم هو تغول لدور هذه الدول داخل بلادنا وتغول لوبيات الفساد الداخلية التي ربطت مصالحها بمصالح الشركات العالمية التابعة للبلدان الإقليمية : من ذلك نلاحظ تعدد العلامات التجارية الفرنسية في بلادنا من بينها الفضاءات التجارية والحال أن تونس كانت رائدة في هذا الميدان منذ أواخر الستينات و بدية السبعينات و الثمانينات وكان من المفروض أن تكون مصدرة لهذه الأنشطة. كذلك بالنسبة للنيابات الخاصة بتوريد السيارات وكل المواد الأخرى بما فيها الخدمات في قطاع الاتصالات والبنوك والتأمين وغيرها خاصة بعد موجة الخصخصة التي تداولت في البلاد قبل جانفي 2011 وبعده. حيث شهدت تونس خصخصة أكثر من 287 مؤسسة وطنية وما زالت الجهات المتنفذة تدفع نحو المزيد سوف يطال المؤسسات الإستراتيجية الوطنية مثل قطاع النقل الجوي وقطاع الطاقة و التبغ .
ققد تعاملت البلدان الأوروبية بطريقة براغماتية مع كل أنواع السلط التي تتواجد في بلدان المنطقة سواء كانت سلط دكتاتورية أحادية مثلما كان الأمر مع النظام السابق أو نظام ديمقراطيات الواجهة مثلما تشهد بلادنا منذ انتخابات 2011 و خاصة انتخابات 2014.
ما قامت به بلدان مجموعة السبعة في مدينة “دوفيل” الفرنسية في ماي 2011 كان نموذجا لما يمكن أن تقوم به البلدان الكبرى لتطويق الانتفاضات والثورات داخل بلدان المنطقة العربية وتسخير الوضع لفائدة تحقيق أهدافها الإستراتيجية المتعلقة بالسيطرة على بلدان المنطقة و على أسواقها سعيا لصد المد الدولي (الصين) و الإقليمي (تركيا). إنها تريد تنمية صادراتها إلى أسواقنا وتعطيل إنتاجنا المحلي لضمان تصدير أزماتها الاقتصادية الى بلداننا.
في هذا الباب لاشك أن دول الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع الولايات المتحدة وبعض البلدان الإقليمية (بلدان الخليج خاصة و الكيان الصهيوني) لعبت دورا هاما في إعادة أهم الوجوه السياسية التي كانت في الحكم في عهد الرئيس السابق. كما لعبت دورا أساسيا كذلك في فرض تقاسم السلطة بين حزب نداء تونس وحزب حركة النهضة كما أكدت ذلك جريدة “البيان ” الإماراتية في مقال صدر لها بتاريخ أوت 2012 أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من انبعاث حزب نداء تونس خدمة لتحقيق أهدافها وتمرير كل القوانين والاتفاقيات التي تسعى وتضغط للحصول عليها.
في هذا المضمار ما صدر عن الحكومة وعن كل الأحزاب التي تساندها من زيادات مفرطة في سعر الطاقة (كهرباء وغاز طبيعي) ناهز الخمسين بالمائة في ظرف وجيز يعتبر استخفافا بالمؤسسات الوطنية و بالمصالح العليا للبلاد وهو عمل لم تشهد له البلاد مثيلا. كذلك ما قامت به الحكومة بموافقة حزب حركة النهضة والكتلة التي تساند رئيس الحكومة (الائتلاف الوطني) من زيادات مفرطة في نسبة الفائدة الرئيسية بأكثر من 125 نقطة في سنة واحدة بدعوى مقاومة التضخم وهي دعوى باطلة تماما كما أكدت ذلك الوقائع حيث شهدت البلاد أعلى نسبة تضخم هذه السنة هو ضرب للاقتصاد الوطني وخدمة للوبيات الداخلية و الخارجية. كذلك عدم وجود أي ردة فعل من طرف الحكومة الحالية ومن كل الحكومات السابقة لايقاف انهيار قيمة الدينار التونسي الذي أدى إلى حالة إفلاس غير معلنة للبلاد يعتبر حقيقة إجراما في حق البلاد يدخل في نفس الخانة.
مع الملاحظ أن كل اللوبيات الداخلية المتنفذة لم تحرك ساكنا للتنديد بهذه الزيادات المشطة التي تضررت منها كل فئات الشعب بما فيها الطبقة المتوسطة والمهنيين وصغار الفلاحين والمؤسسات الصغرى والمتوسطة. هذا السكوت الذي طال منظمة الأعراف يعتبر حجة قائمة على ترابط المصالح بين الحكومة والأحزاب التي تساندها وبين هذه الأقلية من اللوبيات المتنفذة في البلاد والتي نهبت مؤسسات وثروات البلاد قبل الثورة وبعدها والتي تم تبييضها بقانون مصالحة جائر فتح الباب على مصراعيه لمزيد تغلغل و تفشي الفساد.
ما جرى في مجلس نواب الشعب من مناورات لتمرير مصالح أباطرة التوريد وصمة عار
اثر المناقشات الخاصة بقانون المالية لسنة 2019 وما لوحظ من إصرار للحكومة و للأحزاب المساندة لها لتمرير إملاءات أباطرة التوريد عبر اقتراحات قدمت بطريقة عبثية زعزعت أسس الدولة وألغت دورها في فرض العدالة الاجتماعية وذلك اثر تقديم مقترحات متعلقة بتأجيل تطبيق القانون الخاص بالزيادة في نسبة الأداء على أرباح الفضاءات التجارية من 25 بالمائة إلى 35 بالمائة وهو قرار تم اعتماده في قانون المالية للسنة الفارطة وتم تأجيل تطبيقه إلى بداية سنة 2019 ولا يمكن تبرير هذا التأخير إلا بتدخل من نفس الأطراف التي أصبحت تسيطر على قرارات الحكومة وعلى الأحزاب السياسية المساندة لها في علاقة مشبوهة بين المال الفاسد والسياسة. وهو أسوء سيناريو يحدث لتونس سوف يعرقل المسيرة الديمقراطية في بلادنا وسوف يؤجج الوضع الاجتماعي الذي يهدد بالانفجار نتيجة الضغط على الأجور وانهيار القدرة الشرائية وتدهور الوضع الاقتصادي العام.
تونس واللوبيات والانتفاضات الشعبية في البلدان الأوروبية ضد العولمة
ما يجري منذ خمسة أسابيع في فرنسا من مظاهرات انطلقت شرارتها منذ الإعلان على الزيادات في سعر النفط (الدييزل) في قانون المالية الفرنسية لسنة 2019 ليصبح سعر النفط أعلى من سعر البنزين وذلك بدعوى مقاومة التلوث، اتضح في الحقيقة أنها انتفاضة ضد الليبرالية المتوحشة التي تمثلها العولمة ومنظمة التجارة العالمية والتي أدت إلى تعميق الفوارق بين فئات الشعوب سواء في البلدان الغنية أو في البلدان الفقيرة. حيث أدت هذه السياسة إلى تمكين أقليات من الاستيلاء على الثروات البلدان. هذه الانتفاضات التي سرعان ما أصبحت تعتمد مطالب سياسية واضحة من بينها المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية الذي اتهم بأنه “رئيس الأغنياء”لانحيازه الواضح عبر إلغاء الضريبة على الثروات وتوظيف مزيد من الأداء على الطبقات الفقيرة والمتوسطة وكذلك المطالبة بضرورة اعتماد الاستفتاءات الشعبية لتمكين الشعب من المشاركة الفعلية في القرارات الوطنية نتيجة انعدام الثقة في الأحزاب السياسية وفي المنظمات الوطنية يعتبر تحولا تاريخيا وهاما ينذر بتغييرات جذرية.
المطلوب من كل الشعوب وخاصة منها النخب الوطنية في تونس وفي كل البلدان العربية والإفريقية المتضررة من هذه “الليبرالية الجديدة” المتوحشة أن تتفاعل بعمق وبجدية مع هذه التحولات العالمية الكبرى وأن تعمل على تقديم البدائل الكفيلة بإصلاح المسار التنموي في بلداننا.