الشارع المغاربي : انعقدت خلال الأسبوع المنقضي ببروكسال جولة جديدة من المفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي حول اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق التي انطلقت منذ أكتوبر 2015 بناء على وثيقة العمل الأوروبية المثيرة للجدل والمخاوف من حيث طابعها التجاري المختل ومضامينها وأهدافها التي تتجاوز توسيع التبادل التجاري لكافة المنتجات الصناعية والفلاحية والخدمية بل تشمل أيضا فتح سوق الشغل التونسية على مصراعيها وبكافة قطاعاتها أمام المؤسسات والأفراد الأوروبيين فضلا عن تبني تونس القوانين والمعايير الأوروبية في تنازل واضح عن السيادة التشريعية التونسية.
ومثلما حصل من فبل تم التعتيم شبه الكلي على مضمون المفاوضات واكتفت الدوائر الرسمية بنشر تصريحات مقتضبة لوزير النقل التونسي هشام بن احمد بوصفه رئيس الوفد المفاوض ومفادها “اهتمام تونس المتزايد بتقدم المفاوضات التي سجلت خطوات جيدة باتجاه انجاز الدراسات الفنية لمختلف محاور المشروع” مشددا على “ضرورة مرافقة الجانب الأوروبي لمسار الانتقال الاقتصادي من خلال تدابير استثنائية لفائدة القطاعات الإستراتيجية مثل الفلاحة والتبادل التكنولوجي وتيسير إسناد التأشيرة إلى المهنيين”.
المفاوضات مجرد غطاء لتنفيذ بنود أليكا
وفي حقيقة الأمر فإن الطابع شبه السري للمفاوضات يعزى لكونها كانت منذ البداية مجرد غطاء لتوفير الاطار التشريعي الملائم لتنفيذ بنود الاتفاق على مراحل باعتبار أن الجانب الحكومي التونسي لم يجادل في جدواها بل انه التزم مسبقا بتبنيها تدريجيا ضمن “الإصلاحات” المتفق عليها مع مجموعة السبع أثناء قمة دوفيل والمنضوية في إطار إدماج تونس في الفضاء الاقتصادي الأوروبي من خلال الشروع الفعلي في اعتماد القوانين الأوروبية في عديد المجالات ومنها الصفقات العمومية وسياسة المنافسة والحواجز الفنية للتجارة والاستثمار وحقوق الملكية الفكرية وغيرها.
والملاحظ أن مثل هذه الاتفاقيات المتعددة الأطراف مع المجموعات الإقليمية الكبرى، تشكل، كما هو الشأن بالنسبة لبرامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي، مجموعة من القواعد والقيود الجامدة و غير القابلة للنقاش أو التفاوض أو التعديل وفقا لحاجات الدول التنموية الخاصة وهي مفروضة، خارج إطار الأمم المتحدة، من البلدان الصناعية الكبرى المهيمنة الحريصة على بسط وصايتها الاقتصادية والسياسية على العالم من خلال فرض منظومة اقتصاد السوق الخاضعة لها كأسلوب وحيد لإدارة العلاقات الاقتصادية و التجارية على الصعيد الدولي.
و رغم الخطوات العملية التي اتخذتها تونس باتجاه تبني أليكا في إطار برامج التمويل المشروطة المبرمة مع المؤسسات المالية الدولية ، فإن الجانب الأوروبي كان منزعجا مما اعتبره تباطئا في نسق المفاوضات وظل يضغط باستمرار للتسريع بها خاصة في ظل ما تثير من جدل وتحفظات متصاعدة في أوساط عديدة بتونس.
لكن العنصر الجديد بالنسبة لهذه الجولة هو ارتباطها بالدعم المقدم من مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي إلى رئيس الحكومة في الصراع الداخلي على السلطة. ويجدر التذكير في هذا الصدد ببرنامج العمل المشترك 2018 – 2020 المعتمد أثناء مجلس الشراكة التونسي الأوروبي المنعقد في شهر ماي الماضي الذي تبنى اتفاق “أليكا” والاتفاق حول الهجرة السرية كأولويات “إستراتيجية” بالنسبة للجانبين يتعين توقيعها “في اقرب الآجال”.
والجدير بالذكر أن رئيس الحكومة تعهد بنفس المناسبة بالتوقيع على الاتفاق في غضون 2019 تماشيا مع المساعي الحثيثة للمفوضية الأوروبية الحريصة على إنهاء التفاوض قبل الانتخابات البرلمانية الأوروبية لشهر ماي القادم وأيضا قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية لشهر نوفمبر 2019 وذلك تفاديا لتحول الملف إلى موضوع انتخابي وهو ما قد يؤدي إلى مطالبة القوى المعارضة بإعادة النظر كليا في الأسس التنظيمية للعلاقات المختلة بين تونس والاتحاد الأوروبي.
كما يخشى الجانب الأوروبي من احتمال انتخاب أغلبية برلمانية أوروبية ممثلة للتيارات السياسية اليمينية الموصوفة بالشعبوية والمعروفة بنزعتها الوطنية وبمناهضتها المشروع الأوروبي والهجرة السرية الوافدة من البلدان الإفريقية مما سينعكس حتما على سياسة الجوار الأوروبية إزاء جنوب المتوسط، وقد يؤدي ذلك إلى تحولات جذرية يمكن إن تطال مصير الكيان الأوروبي وطبيعة علاقاته المستقبلية بمحيطه المتوسطي.
و لكل هذه الاعتبارات كان من المفترض منطقيا أن تسعى الحكومة لتعليق التفاوض حتى تتضح الصورة بعد الانتخابات خاصة ان تونس في موقف تفاوضي شديد الضعف والهشاشة بحكم الانقسام الداخلي الذي يثيره هذا الملف فضلا عن الأزمة السياسية الحادة في اعلي هرم السلطة و أوضاعنا الاقتصادية والمالية المنهارة وكذلك تبعيتنا الخانقة إزاء التمويلات الغربية مما يجعل تونس غير قادرة على الدفاع عن مصالحها أو مقاومة الضغوط الأوروبية.
وفي حقيقة الأمر لم تتقدم تونس بعد أكثر من ثلاث سنوات من انطلاق التفاوض بأية ورقة عمل بديلة عن الوثيقة الأوروبية مما يؤكد أن الحكومة ليست بصدد التفاوض الجدي حول أليكا بل التباحث حول سبل تمريرها بهدوء بقطع النظر عن تبعاتها الخطيرة التي سبق بيانها خاصة أنها أضحت ورقة انتخابية رابحة مرتبطة بالدعم المقدم من قبل مجموعة السبع لريس الحكومة في أفق الانتخابات المقبلة التي يخشى الجانب الأوروبي أن تؤدي إلى صعود أغلبية حكومية جديدة مناهضة للهيمنة الغربية على تونس.
هل توجد خيارات بديلة عن أليكا؟
يجدر التذكير بأن الجانب الأوروبي كان حريصا غداة الثورة على ضمان استمرارية السياسات الاقتصادية والخيارات الدبلوماسية التي تبناها النظام السابق كإطار للعلاقات مع الضفة الشمالية والقائمة على اتفاق الشراكة والتجارة الحرة للسلع الصناعية لسنة 1995 ومشروع التبادل الحر الموسع لكافة السلع والخدمات باعتباره السبيل الأمثل للحفاظ على المصالح الغربية الأوروبية بتونس والمنطقة.
وفي هذا الإطار جاءت الإغراءات المقدمة لتونس من خلال قمة مجموعة السبع المنعقدة بدوفيل في ماي 2011 بهدف التسريع بإبرام الاتفاق مع الحكومات الأولى التي تولت السلطة بتونس وذلك للحيلولة دون تحول هذا الملف إلى قضية رأي عام مع إبقائها خارج دائرة الحوار الوطني أثناء المواعيد الانتخابية الرئيسية.
إلا أن يقظة المجتمع المدني التونسي وبعض الحركات السياسية والنقابية المعروفة بتحفظها إزاء هذه السياسات، حال دون تمريرها بصمت وبعيدا عن الأضواء الكاشفة لمخاطرها على تونس ومساسها بسيادتها واستقلالية قرارها فضلا عن إضرارها بمصالحنا الوطنية العليا وعدم مراعاتها لواقعنا الاقتصادي المتأزم ولمتطلباتنا التنموية.
غير أن الحكومة تظل مع ذلك تحت الضغط المتواصل والمزدوج للمنظومة المتعددة الأطراف ممثلة في مجموعة السبع وما يتفرع عنها من مؤسسات نقدية دولية من ناحية، ومن ناحية أخرى اللوبيات المحلية الممثلة للشركات المتعددة الأطراف العاملة بتونس في مجالات الطاقة وتوزيع السيارات والمساحات التجارية الكبرى وغيرها. وقد أثبتت هذه الأطراف مدى خطورتها على المجموعة الوطنية وعلى الدولة التونسية بما اكتسبت من نفوذ وقوة تأثير على السلطة الحاكمة بتونس إلى درجة إرغامها على التراجع عن رفع نسبة الضرائب المقررة عليها بقانون المالية لسنة 2019.
و هكذا أثبتت هذه السلطات عجزها عن التصدي للتدخلات الأجنبية المفضوحة في شؤوننا الداخلية وعدم قدرتها على تغليب المصلحة الوطنية و مصلحة الفئآت الواسعة الضعيفة في مواجهة قوى المال والأعمال الخارجية والمحلية المتغولة على تونس بل لعلها أضحت متواطئة معها على حساب الشعب التونسي طمعا في الحصول على دعمها في أفق الانتخابات القادمة.
وإذا كانت الأحزاب المتحكمة في مصير تونس منذ الثورة والساعية للاستمرار في السلطة واحتكارها في المستقبل، تدعي انه لا توجد بدائل عن الاستمرار في مزيد إغراق تونس في التبعية والمديونية القذرة وسياسة الانفتاح الاقتصادي والتجاري غير المتكافئ، فان مسيرة التعاون التونسية الأوروبية في المراحل الأولى للاستقلال، تثبت انه، رغم التفاوت في موازين القوة، أمكن لتونس في تلك المرحلة التوصل إلى صيغ واتفاقيات للتعاون مع المجموعة الأوروبية تراعي، ولو نسبيا، مصالحنا وحاجاتنا التنموية وكذلك التفاوت في مستويات التنمية بين الجانبين.
ولعل اتفاق التعاون المبرم مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية سنة 1976 هو أفضل تجسيد لقدرة تونس على تحسين شروط التفاوض وتوظيف الظرفية الجغراسياسية لصالحها و تطوير رؤية تونسية متكاملة لعلاقاتها المستقبلية مع شركائها الاستراتيجيين تراعي المصلحة الوطنية وتلزم الطرف الأوروبي بإدراج تعامله مع تونس في إطار مساعدتها على بناء اقتصاد إنتاجي وفقا للأولويات والتوجهات والخيارات الواردة في المخططات التنموية التونسية.
صحيح إن هذا الاتفاق لم يكن مثاليا ولم يحد عن إطار التبادل الحر المفروض على تونس منذ اتفاق 1969، ولكنه كان يستند إلى مبادئ وقيم كونية فرضتها دول العالم الثالث ومجموعة عدم الانحياز في تنظيم العلاقات الدولية و منها ضرورة قيام التعاون شمال جنوب على أسس عادلة ومنصفة تأخذ بعين الاعتبار التفاوت التكنولوجي والفوارق الاقتصادية والتنموية وذلك بهدف بناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدلا وتوازنا وإنصافا.
وقد تضمن اتفاق 1976 خطوات والتزامات فعلية وعملية باتجاه تجسيد هذه المبادئ وكان بإمكانه أن يشكل نقلة نوعية في مسيرة تونس التنموية و في علاقاتها مع المجموعة الأوروبية لو توفرت الإرادة السياسية من الجانبين لترجمته على ارض الواقع. لكن الجانب الأوروبي الغربي سرعان ما تنكر لتعهداته – مثلما حصل بعد الثورة-مغتنما الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعرضت تونس منتصف الثمانينات لإقحامها في منظومة البرامج المشروطة لصندوق النقد الولي ومصادرة استقلالية قرارها في رسم خياراتها الاقتصادية والتنموية.
وعلى صعيد متصل تجدر الإشارة إلى كلمة رئيس الحكومة يوسف الشاهد بمناسبة إحياء الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث طالب المجموعة الدولية بتحمل مسؤولياتها إزاء تونس تنفيذا للإعلان الدولي حول الحق في التنمية الصادر في ديسمبر 1986 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما تعهد بتنفيذ تونس ما يضع هذا القرار من التزامات على عاتق الدولة داخليا وخارجيا لضمان حقوق المواطنين التونسيين في التنمية وتكييف العلاقات الدولية لتونس بما يضمن حماية سيادة الشعب التونسي وحقوقه وثرواته وتوظيفها في خدمة مصالحه العليا.
ولكن السياسات الرسمية المتبعة منذ ثلاثة عقود وبعد الثورة على الصعيدين الداخلي والخارجي بعيدة كل البعد عن هذه التعهدات بل هي متناقضة نصا وروحا معها ومع الدستور التونسي الذي يلتقي في العديد من بنوده مع القرار المذكور والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وهكذا يتضح انه بإمكان الدولة التونسية بل من واجبها القيام، استنادا إلى الوثائق المرجعية المشار إليها، بإعادة النظر جذريا في سياساتها الداخلية علاقاتها الخارجية وخاصة في ما يتصل بعلاقات تونس الثنائية والمتعددة الأطراف مع شركائها الرئيسيين الأعضاء بمجموعة السبع والاتحاد الأوروبي.
*احمد بن مصطفى: سفير سابق باحث في القضايا الدبلوماسية والإستراتيجية