الشارع المغاربي : لم تكن بداية 2019 أفضل حالا من نهاية 2018 بالنسبة إلى رئيس الجمهوريّة، فقد بُشّر بمناسبة الذكرى الثامنة للثورة بقضيّة ترميه بتكريس ثقافة الإفلات من العقاب وخدمة مصالح حزبيّة على حساب المصلحة العامة واحترام القانون ومكافحة الفساد. العفو الخاص الذي منحه قايد السبسي لبرهان بسيّس لم يمرّ بصمت، بل شكّل له إحراجا ربّما لم يتصوّر شدّة وقعه…
أقدمت جمعيّتا”بوصلة” و”أنا يقظ” ورئيس تحرير موقع “نواة” على رفعدعوى قضائيّة لدى المحكمة الإداريّة ضدّ رئيس الجمهوريّة في تجاوز السلطة بسبب إصراره على منح عفو خاص لبرهان بسيّس، فضلا عن التقدّم بـ”مطلب تأجيل وتوقيف تنفيذ” القرار الرئاسي المذكور. ولئن سارع قايد السبسي بتفعيل إحدى صلاحيّاته الدستوريّة المتمثلة في “العفو الخاص” وفق النقطة الأخيرة من الفصل 78 من الدستور وتمتّعه بالحصانة حسب الفصل 87، فإنّ الدعوى المرفوعة ضدّه قد استندت إلى “مطعن متعلق بالانحراف بالسلطة والإجراءات، أي استخدام صلاحيات السلطة العموميّة من أجل خدمة مصالح غريبة عن المصلحة العامة”، وفق نصّ البلاغ الصادر بهذا الشأن.
خروقات غير مسبوقة
تُفصّل العريضة المقدّمة ضدّ رئيس الدولة تفصيلا مسهبا ما أقدم عليه من تجاوز للسلطة، ولاسيما بالنظر إلى ما اكتنف قرار العفو الخاص من خروقات إجرائيّة ومساس بالقوانين الوطنيّة والمعاهدات التي صادقت عليها تونس ذات الصلة بمكافحة الفساد وتضارب المصالح ومبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون وإعلاء قيم العدالة والإنصاف…
وبالعودة إلىنصّ العريضة،الذي يمتدّ على 14 صفحة، يتبيّن أنّ المحامي لدى التعقيبوالقاضيالسابق بالمحكمة الإداريّةأحمد الصوابهو من صاغها، باعتباره محامي أصحاب الدعوى. وقدانعكس ذلك على حياكة دقيقة للعريضة،إذ توقّفت عند فقه القضاء والقانون المقارن سعيًا إلى عدم ترك أيّ مجال للأخطاء الإجرائية شكلا ومضمونا.
وللإشارة، فقد أدرج العارضون النصّ الحرفي الذي اعتمدته “اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد” (ترأسها أستاذ القانون الدستوري الراحل عبد الفتّاح عمر) في مقاضاة برهان بسيّس. ولأهميّة التذكير فإنّ أصل وقائع القضيّة يقوم على أساس أنّ “وكالة الاتّصال الخارجي” المنحلّة كانت قد تعاملت مع بسيّس منذ عام 2001، نال خلالها منافع ماليّة تُقدّر قيمتها 300 ألف دينار دون اعتبار الامتيازات العينيّة، وذلك بعد إلحاقه بالشركة التونسيّة للمقاولات السلكيّة واللاسلكيّة (SOTUTEL) من غير أن يُمارس مهام فعليّة بها. وأشارت إلى أنّ المعني بالأمر كان قد أقرّ لأعضاء اللجنة خلال جلسه استماع بالمعطيات التفصيليّة حول ما حصّله من منافع من ماليّة وعينيّة. وتوصّلت اللجنة إلى أنّ تلك الامتيازات تُغني عن كلّ تعليق من حيث “خرقها الواضح لأبسط القواعد التي تحكم الوظيفة العموميّة والمرافق والماليّة العموميّة”. وبمقتضى هذه الملف المحال إلى النيابة العموميّة، فقد أصدرت الدائرة الجنائيّة بمحكمة الاستئناف بتونس يوم 2 أكتوبر 2018 حكما يؤيّد الحكم الابتدائي ضدّ بسيّس بسجنه لمدّة عامين مع النفاذ العاجل وخطيّة ماليّة قدرها 300 ألف دينار.
والحقيقة أنّ بسيّس قد تقاضى تلك الأموال والامتيازات لقاء خدمات فعليّة كان يقوم بها تحديدا لتلميع صورة بن عليّ ونظامه في وسائل الإعلام الأجنبيّة خصوصا، لا للعمل بالشركة التونسيّة المذكورة، لاسيما أنّه أستاذ تعليم ثانوي لا يُجيد المقاولات السلكيّة واللاسلكيّة التي تقاضى منها ما تقاضى دون أن يُقدّم إليها أيّ خدمات ليست من اختصاصه. وعموما فإنّ هذه القضيّة وتفاصيلها تلك ما كانت لتطفو على الساحة مجدّدا لولا توقيع رئيس الجمهوريّة على أمر منح عفو خاص عن برهان بسيّس القيادي بحركة نداء تونس.
انحراف وهيبة مفقودة!
المثير للغرابة أيضا أنّ رئيس الجمهوريّة كان قد أقدم على اتّخاذ قراره المذكور يوم 10 ديسمبر 2008 الموافق للذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهو تزامن يبدو أنّه يُعمّق حدّة الحرج السياسي الذي وقع فيه قائد السبسي. فخلال هذه المناسبة الكونيّة يُفترض أن تكون الكلمة الأولى لإعلاء دولة القانون، ذلك أنّ محاكمة برهان بسيّس قد استجابت لكلّ مقتضيات الإعلان العالمي الأكثر شهرة، من حيث تمتع المتهّم بحقوقه الأساسيّة أمام المحكمة، وعدم حجزه تعسفيا واحترام قرينة البراءة بشأنه إلى غاية إدانته في الدرجة الثانية من التقاضي(من المادّة السابعة إلى المادة الحادية عشرة).
وحتّى إذا افترضنا أنّ إيقاف بسيّس قد جاء بسرعة متناهية بعد صدور الحكم القضائي ضدّه، فإنّ صفته القياديّة بحركة نداء تونس لا تُبرّر تأخير عمليّة إيقافه أو التغاضي عن تطبيق القانون عليه.فالإشكال العام إنّما يكمن في الإبطاء في تنفيذ أحكام قضائيّة أخرى، لا في التسريع المطلوب في إنزال تلك القرارات حيّز التنفيذ. كما أنّ رئيس الجمهوريّة هو من يُفترضُ أن “يسهر على احترام القانون”، وفق الفصل 72 من الدستور. وهي عبارة لم يتضمّنها الدستور حرفيًا بمثل هذا الوضوح في أيّ موضع آخر بما في ذلك في بابه الخامس المتعلّق بالسلطة القضائيّة.
يبدو كذلك أنّ رئيس الجمهوريّة قد سارع بمعالجة هذا الملفّ سياسيّا لاعتبارات حزبيّة معلومة تتناقض مع الفصل 76 من الدستور الذي يُلزمه ضمنيّا بالحياد إزاء كلّ الأحزاب. وفي المقابل فإنّه وقع بذلك في خروقات قانونيّة. وهو ما يدفع إلى الفهم إذن أنّه اعتبر إيقاف بسيّس إجراءً يستهدفه ويستهدف حزبه ونجله حافظ شخصيًا، فتصرّف لا من باب رئيس الجميع وإنّما بمنطق “بابا الحنين”. ومن ثمّة عجّل بإصدار عفو خاص،فاختزل السنتين سجنا في شهرين ونيف، أيّفي أقلّ من عُشر المدّة السجنيّة المحكوم بها مريده المذكور.وهذا ما يُفسّر أنّ “القرار الرئاسي موضوع النزاعتحرّكه المصالح الحزبية”، وفق ما جاء في البلاغ الصادر بشأن الدعوى القضائيّة أو كذلكانطلاقا من تصريحات أهل القضاء أنفسهم.
الجدير بالذكر أيضا رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمايديسبق له أن كشف أنّ لجنة العفو بوزارة العدل رفضت تمتيع بسيس بعفو خاص عند النظر في المطلب الذي وجّهته إليها رئاسة الجمهوريّة، وفق ما نقله عن وزير العدل نفسه. رئيس جمعيّة القضاة اعتبر بدوره أنّ موقف رئيس الجمهوريّة “كان مخالفا للإجراءات القانونية ومخالفا لرأي لجنة العفو”، بل وأكّد أنّ موقف قايد السبسي “فيه مساس بالقضاء والأحكام القضائية وفيه لامبالاة كاملة بالمصلحة الوطنية العليا للبلاد وبالدور الذي يلعبه القضاء في مقاومة جرائم الفساد”، علاوة على أنّه”خيّر تقديم العلاقات الشخصيّة والصفة الحزبيّة لبسيّس على حساب المصلحة الوطنية العليا للبلاد”.
وفي المحصّلة، فإنّ “تحصين قرار العفو من شأنه أن يُشجع على مزيد ارتكاب الفساد وعلى نشر ثقافة الإفلات من العقاب والقصاص الذي قد يُمارسه الأشخاص من باب فقدان الثقة في مؤسّسات الدولة”، حسب ما ورد في نصّ العريضة حرفيّا.
ليس من دورنا طبعا أن نتدخّل في الشأن القضائي، فالمحكمة الإداريّة هي الأقدر من غيرها على التعاطي القانوني مع هذه القضيّة. ومع ذلك يبدو جليّاأنّ الأزمة السياسيّة الراهنة قد جعلت رئيس الجمهوريّة يفشل مرّة أخرى علنا في إدارة ملفّ في غاية الدقّة بالنظر إلى اشتراطاته القانونيّة. كما أنّ من شأنه أن يفقد ثقة المواطنين في إمساك الرئيس بملف العفو الخاص. وليس غريبا في هذا المضمار أن تُنبّه الدعوى القضائيّة المقدّمة ضدّ رئيس الدولة إلى مسألة في غاية الخطورة، وهي أنّ “الانحراف المتعدّد بإجراءات العفو الخاص وسوء استخدام السلطة البيّن، من شأنهما مجتمعين ومتضافرين أن يضعا هيبة الدولة على المحكّ”، الشيء الذي لم يعد سرّا على أيّ كان…