الشارع المغاربي : رحم الله “عصافير الجنّة” وألهم أمّهاتهم وآبائهم صبرا عظيما على ما أصابهم من فقدان موجع وصادم ل”كبدتهم”. مصابهم جلل تضيق به العبارة لتصبح الكلمات المحبّرة والبيانات الموقّعة والندوات الصحفية وفتح التحقيقات وتحميل المسؤوليات لغوا تافها وتفاصيل عابرة لا قيمة لها، تذهب كالزبد جفاء أمام هول ما حدث وأمام حجم فاجعة الأمّهات والآباء…هي مأساة أسر ومن ورائها تراجيديا وطن وخيبة دولة. أصبحت “تونسنا” للأسف محاصرة بالوجع والفجع والموت والخيبة. والترفّع الأخلاقي والإنساني عن وجع الناس لا يلغي قول الحقّ والإصداع به وبالصوت العالي: تونس تتصدّع وانهياراتها صارت متواترة ومتواصلة وشاملة، والسّلطة السّياسية القائمة هي المسؤولة على ما نحن فيه من خراب تجاوز “الدربالة” هذه المرّة ووصل إلى “كبدة التوانسة”.
والقول الحق المترفّع فوق الألم الإنساني العميق يفيد أنّ المأساة كانت نتيجة لتقاطعات خطوط ثلاث، انعدم خلالها وغاب: الضمير المهني، الإمكانيات والكفاءات، ليحضر الموت.
إنّ عامل أو “خطّ” الضمير المهني المنعدم تقريبا لا تنفرّد به حصرا وزارة الصحّة، كما لا ينفرد به الإطار الطبّي أو شبه الطبّي في “فاجعة الرابطة” بل ينسحب هذا العامل على مجمل الوزارات والقطاعات ومناشط حياة التونسيين. “ضمير مهني” منعدم أو يكاد، معمّم وموزّع ب”العدل” حيث ما ولّيت وجهك، في المصنع والإدارة والشارع والحي والملعب الرياضي والسّوق والمخبر والمستشفى والمؤسّسة التربوية… تقاعس وإهمال وتقصير بلغ أحيانا كثيرة إجراما قاتلا وتمظهر غشّا في المأكل وفي الدواء وفي المعمار وإهدارا للمال العام واعتداءا وتخريبا للملك العمومي طال الأرض والبحر والهواء …إفسادا وفسادا يستوي فيه الجميع من “رأس” الجسد الاجتماعي إلى أطرافه وأخمص أقدامه.
إلى جانب “الضمير المهني” المغيّب، ينضاف عامل انعدام الإمكانيات بسبب تبديد موارد الدولة وإهدارها والعجز عن توفير شروط الإنتاج القادرة على تحريك دواليب الاقتصاد أو حتى إعادته إلى مستوياته السّابقة كما هو حادث مع “مشكلة الفسفاط”. لقد فشلت السّلطة القائمة مثلا في حلحلة أزمة شركة فسفاط قفصة وإيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ هذه المؤسّسة الوطنية من خطر الإفلاس المحدق بها وإعادتها إلى مكانتها المحورية على مستوى مساهمتها في الإنتاج المحلي لمّا كانت في حدود 7 بالمائة ب8 مليون طنّ من الفسفاط التجاري. واليوم لا تنتج الشركة أكثر من 3 مليون طن سنويا وهو مستوى كارثي يؤثّر سلبا على توازنات الدولة المالية ويجعلها على مرمى حجر من الإفلاس.
إنّ انعدام الإمكانيات والموارد المالية الضرورية حاصل وهو نتيجة لتخبّط السلطة السياسية التي عجزت عن مقاومة المفسدين والمهربين ومحاصرة “الحيتان الكبيرة” والمتهرّبين من الجباية من رؤوس المافيات التي توغّلت في الإدارة وتمكّنت من القرار الرسمي.
ثالث أعراض الانهيار المتواصل لتونس هو انعدام الكفاءات، وهو عرض صار بيّنا وجليّا بعد الهجرة المتسارعة للعقول والكوادر إلى الخارج، وبعد الإفراغ الممنهج للإدارة من الكفاءات وشيوع الولاء الحزبي والسياسي وغلبة “التمكين” والمحاصصة على حساب المعرفة والعلم والخبرة.
كل هذه الخطوط المتقاطعة تتحمّل وزرها السّلطة السياسية التي لم تنفذ القانون وتغافلت عن الإهمال والتقاعس المنتشر بشكل مخيف، والتي عجزت عن توفير الإمكانيات المطلوبة في الصحة والتعليم والبنية التحتية خاصّة، وأوصلت البلاد إلى عتبة الإفلاس وهجّرت “العقول” والكوادر وأشاعت ثقافة الولاء والانتهازية…
نسير بخطى ثابتة نحو انهيار شامل والارتطام والتشظي آتيان لا قدّر اللّه لو تواصل “الحال”…في الأثناء تدسّ الحكومة رأسها في الرمال كالنّعامة وتغمض عينيها عن حجم الأهوال والفظائع التي تنتظرنا جميعا… إنّها الخيبة و العبث…لك الله يا تونس…