الشارع المغاربي : أبى مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي، المنتهية أعماله منذ نحو خمسة أعوام، إلّا أن يعود إلى واجهة المشهد السياسي عبر خطاب ديماغوجي يضرّ ولا ينفع. فقد زعم أنّ عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحرّ تقود البلاد إلى “حرب أهليّة”. تهويل لا يعدّ زلّة لسان بقدر ما أضمر من رسائل، دون أدنى اعتبار لدلالاتها الخطيرة…
شكّلت انتخابات 2014، بشقّيها التشريعي والرئاسي، ضربة قاصمة لمصطفى بن جعفر وحزبه، لا مجرّد خيبة أمل وهزيمة عابرة. فقد أدّى تعثّره الانتخابي المدوّي إلى غياب طويل متوقّع عن المشهد السياسي ومنابره خلال الأعوام الأخيرة. ومع اقتراب التونسيّين من انتخابات أواخر 2019 حاول مؤسّس “التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات” ألّا يكون مروره بإحدى الإذاعات عابرا وبلا أثر، غير أنّ مساعيه إلى الفوز بدعم قيادة أحد الأحزاب جعله يخطئ المرمى مجدّدا ويُثبت أنّه يفتقد للاتزان والرصانة السياسيّين، على خلاف الصورة التي أرادها لنفسه طويلا…
تناقض وسموم!
بدا بن جعفر متذبذبا ومتناقضا في حديثه المثير مؤخرا بإذاعة “إ.آف.آم”، فقد اعتبر من ناحية أنّ عبير موسي خارجة عن الموضوع ولا حظوظ لها تمامًا، مُردّدا حرفيّا العبارة الفرنسيّة القائلة: (Elle est à côté de la plaque). ومن ناحية أخرى قال: “أخشى ما أخشاه أنّ النّاس الذين يتّبعون تمشيها ربّما يقودوننا إلى حرب أهليّة، إن شاء الله تكون باردة لا ساخنة”. والحال أنّ من هو قادر على إطلاق “حرب أهليّة” في البلاد يصعب أن يكون معزولا تماما، مثلما يُروّج. كما أنّه لا وجود لـ”حرب أهليّة باردة” في قواميس السياسة، على خلاف استدراكه المسترسل والمقصود.
لا ريب أنّ من حقّ بن جعفر أن يوجّه ما يشاء من نقد وانتقاد شديدين إلى الأجندة والأداء السياسيّين لرئيسة الحزب الدستوري الحرّ واتّهامه إيّاها بالسعي إلى “إعادة التونسيين إلى الوراء”. فليس جديدا أنّ إشادة عبير موسي بمنوال حزب “التجمّع” المنحلّ يعكس امتهانا للثورة وشهدائها وتلميعًا للنظام الاستبدادي السابق. ومع ذلك يبدو من الخطأ والخطر أن يتعمّد بن جعفر عدم وزن كلامه والتنظير لاحتمال السقوط في “حرب أهليّة” لم يسبق أن شهدتها البلاد حتّى في أحلك ظروفها على امتداد أكثر من ستّة عقود من الزمن منذ الاستقلال إلى اليوم. والمقصود هنا أنّ التنبيه من خطر مدمّر للأمن القومي للبلاد دون وجود مبرّرات موضوعيّة له يُعدّ بمثابة خنجر مسموم يُعدّ الأذهان للإقبال على الأشدّ سوءا.
من ثمّة يتّضح أنّ ما تلفّظ بن جعفر يندرج ضمن أبجديّات الخطاب الديماغوجي، أي الخطاب غير العقلاني الذي لا يبحث إلّا عن الإثارة المؤقّتة، دون أن يأخذ بمقتضيات المصلحة العامّة وما يمكن أن يتسبّب فيه من أضرار. وهو بذلك لا يمكن وصفه بـ”الشعبوي”، باعتبار أنّ الوزن السياسي لمصطفى بن جعفر لا يمنحه القدرة على الحديث باسم الشعب، على خلاف الخطاب الذي تعتمده عبير موسي عن وعي. فهي دائما ما تُقدّم نفسها وحزبها على أنّها البديل لنخب سياسيّة أثبتت فشلها. كما أنّ الخطاب الشعبوي لا ينتعشُ إلاّ عند فشل النخب في تقديم بدائل تستجيب لانتظارات الشعب وعند حدوث شرخ محسوس بين الطبقات الشعبيّة ونُخبها…
مغالطات تاريخيّة
بالعودة إلى تحذير بن جعفر من انجرار البلاد إلى حرب أهليّة بسبب عبير موسي وحزبها، لنا أن نتساءل: إن كانت فترة رئاسة بن جعفر للمجلس التأسيسي أفضل أمنيّا ومجتمعيّا ممّا هي عليه اليوم؟!. فلا خلاف في أنّ المدّ السلفي قد بلغ آنذاك منتهاه، غير أنّ “الحرب الأهليّة” لم تحصل آنذاك، فهل ستحدث اليوم؟!. ألم تتمكّن عناصر تنظيم “أنصار الشريعة” الإرهابي، زمن حكم الترويكا، من السيطرة على معظم مساجد البلاد وأسواقها؟!. كيف ننسى أنّ هؤلاء قد حاولوا فرض أحكامهم البدائيّة في بعض مناطق البلاد؟!، ومع ذلك لم تحصل “الحرب الأهليّة” المزعومة.
وإذا تحدّثنا عن الاعتداء على الاجتماع الشعبي الذي نظّمه حزب عبير موسي منذ أسابيع في سيدي بوزيد بسبب عودة “التجمّعيّين” بشكل معلن وما يُشكّله ذلك من استفزاز مهين، ألا ينبغي أن نستذكر أيضا أنّ مصطفى بن جعفر نفسه كان قد طُرد بمعيّة الرئيس السابق المنصف المرزوقي من سيدي بوزيد نفسها خلال الاحتفال بذكرى انطلاق القادح الأوّل للثورة؟!. وهل ننسى سريعا كيف نزل بن جعفر والمرزوقي آنذاك مُهرولين من خشبة منبر الخطابة، ليعتليه بعدهما فورا أصحاب الأعلام السود؟!…
الواضح أنّ أجندة مؤسّس حزب “التكتّل” قد جعلت خطابه الديماغوجي يُسهم، عن وعي أو غير وعي، في خدمة الطاقة الشعبويّة لعبير موسي وحزبها، وذلك على شاكلة الهديّة الدعائيّة التي جاد عليها بها المعتدون على اجتماعها الشعبي المجهض مؤخرا. فهي لا تدّعي عكس ما تُتّهم به، بل إنّ رميها بمعاداة الثورة إنّما ينزل عليها بردا وسلاما، ناهيك وأنّها ما فتئت تُعلن صراحة فخرها بانتمائها التجمّعي والنوفمبريّ.
رسالة إلى النهضة
لم يُردّد بن جعفر إذن عبارته تلك بشكل عفوي عابر، لاسيما أنّه استخدم العبارة ذاتها التي هدّد بها رئيس حركة النهضة التونسيّين قبل عام ونيف. فقد وصف راشد الغنوشي، خلال المؤتمر الاستثنائي للمكتب الجهوي للحركة بباجة يوم 11 فيفري 2018، خصومه حرفيًا بأنّهم “دعاة إقصاء -بما- يوصل إلى الحرب الأهليّة”. ومن البساطة طبعا أن نتصوّر أنّ مؤسّس حزب التكتّل قد استخدم تلك العبارة نفسها دون أن يستحضر ما ردّده حليفه السابق زمن حكم الترويكا. والواضح أنّ الهدف من وراء ذلك هو محاولة استمالة قيادة حركة النهضة وأنصارها عبر استهداف أحد ألدّ خصومها.
ومن المؤكّد أنّ رسالة بن جعفر قد بلغت وِجهتها، بالنظر إلى الضغط المتصاعد الذي أضحى يُشكّله حراك “الحزب الدستوري الحرّ” على حركة النهضة. فمن المعلوم أنّ عبير موسي لا تُفرّط في أيّة مناسبة لتأكيد عزمها، في حال وصلت إلى السلطة، على منع الأحزاب ذات الأسس الدينيّة والمرتبطة بتنظيمات دوليّة وتحديدا حركة النهضة وحزب التحرير، مُستعيدة بذلك أهمّ العناوين السياسيّة لنظام بن علي. كما يبدو رئيس المجلس الوطني التأسيسي وكأنّه بصدد تقديم نصيحة ضمنيّة إلى قيادة حركة النهضة بالتصدّي لعبير موسي وحزبها عبر تصويرها بأنّها تُشكّل خطرا على حليفه السابق واللاحق المشتهى.
هكذا يبدو أنّ النخب الحزبيّة، حتى المنتهية أدوارها، تعشق تنشيط السيرك السياسي السائد في تونس اليوم. كما تتوهّم أنّها تحوز قوّة لم تعد تمتلكها، باستثناء ما تختزنه من إفرازات ديماغوجيّة. وهو ما قد يؤدّي في أجل انتخابي غير بعيد إلى إفراز نتائج كارثيّة بدأت تبرز ملامحها غير المفاجأة…