الشارع المغاربي : إن خروج تونس للسوق المالية مؤخرا لتحصل على قرض رقاعي بقيمة 700 مليون أورو حسب بلاغ صادر عن وزارة المالية بشروط فاحشة لم تتضح كل جوانبها حتى الآن حيث تم الإعلام عن نسبة فائدة تناهز 6,375 بالمائة سوف يفوق مُعدّلها 7 بالمائة إذا أضفنا اليها مصاريف عمولات المتدخلين والسماسرة وفترة سداد تمتد على سبع سنوات لهو دليل على وضع الإفلاس الذي وصلت إليه البلاد خاصة إذا علمنا أن هذا القرض الرقاعي سوف يُستعمل مباشرة لتسديد خدمة دين بقيمة 500 مليون دولار بتاريخ 16 جويلية حسب بعض المصادر، بمعنى ان 63,4 بالمائة من هذا القرض الرقاعي سوف يتم تحويلها مباشرة للدائنين. والبقية ستدفع إما لتسديد قروض أخرى أو لتغطية العجز التجاري الذي وصل إلى رقم قياسي خطير جدا في حدود 15,9 مليار دينار في السداسي الاول لسنة 2019 مقابل 13,2 و 12,0 مليار دينار في نفس المدة من سنة 2018 وسنة 2017؟.
يعني بوضوح دولة تتداين لسداد الديون وللتوريد المكثف والفوضوي ولا تستعمل الديون كما يجب أن يكون في دفع الاستثمار المنتج لخلق القيمة المضافة الضرورية لضمان تسديد الديون بطريقة ذاتية مع توفير التشغيل وفرص التصدير التي تعزز رصيد البلاد من العملة الاجنبية. كل هذه الابجديات للتصرف الحكيم في دواليب الاقتصاد الوطني مجهولة تماما في قاموس كل الحكومات التي تداولت على السلطة منذ جانفي 2011. كل هذه السياسة التخريبية يتم تنفيذها لصالح أقليات جعلت من التوريد والتجارة والبنوك مصدر ثرائها الفاحش على حساب بلد وشعب منكوب.
ما يحزننا في هذا الوضع هو موقف العديد من المسؤولين الذين يروجون لهذا القرض المهلك بوصفه إنجازا عظيما للبلاد وما تروج له العديد من وسائل الإعلام التي تهلل بهتانا لبشائر تحسن الوضع الاقتصادي في البلاد على فرضية وجود من ساهم في تمويل هذا القرض الرقاعي الذي هو معلوم استفردت به ما يسمى بالصناديق الكواسر (les fonds vautours) التي تتربص بمثل هذه الفرص النادرة لفرض شروط ربويّة مُهلكة على المدى القصير.
ما يحزننا أيضا هو خروج وزير التجارة ليحدث الشعب عن تحسن في قيمة الدينار، تحسن طفيف بأدوات سياسية و ليس بوسائل اقتصادية ومالية موضوعية خاصة أمام تفاقم العجز التجاري. ولكن المصيبة أن السيد وزير التجارة ما زال ينكر حقيقة العجز التجاري الذي يجب اعتماده طبقا لتعليمات صندوق النقد الدولي الصادرة منذ سنة 2006 حول طريقة احتساب المبادلات التجارية للشركات غير المقيمة والمصدرة كليا في المحاسبة العمومية والتي تم تطبيقها منذ سنة 2010 في بلدان الاتحاد الاوروبي.
الأزمة الاقتصادية وتعريف مفهوم “إفلاس الدول”
قانونيا مفهوم “الإفلاس” بالنسبة للمؤسسات يعني الوصول إلى حالة عدم القدرة على تسديد الديون في آجالها المحددة مما ينتج عنه قيام الدائن بإجراء عقلة على ممتلكات المدين ليتمكن صاحب الدين من استخلاص مستحقاته. بهذا المعنى لا يمكن القول بأن بلدا وصل إلى حالة إفلاس، لأن الدولة الوطنية تبقى سيادية رغم كل ما يتعرض له مفهوم السيادة من ضغوطات في علاقة ببروز ظاهرة العولمة وفي ظل مدى تسلط الاتفاقيات مُتعددة الأطراف مثل اتفاقية المنظمة العالمية للتجارة والتي أدت إلى تحديد الدور السيادي للدولة –الوطنية. ولكن رغم كل ذلك ما زالت الدول تُعتبر ذات سيادة ومن هذا المنطلق فإن ممتلكاتها وثرواتها لا يمكن إحصاؤها أو تحديدها. كما أن الدولة الوطنية يبقى دائما لديها حق إصدار العملة وفرض الجباية بصفة عامة أو فرض جباية استثنائية في الحالات الاقتصادية الصعبة. كما أنه لا توجد إلى حد اليوم مؤسسة عالمية فوق الدول من شأنها أن تقوم بتحديد وضع دولة مُعيّنة بكونها في حالة إفلاس.
وذلك رغم محاولة صندوق النقد الدولي تقمّص هذا الدور منذ عشرين سنة تقريبا أي في أواخر سنوات الألفين في أوج استفحال أزمة المديونية التي طالت البلدان النامية حيث تم البحث في إمكانية وضع إطار قانوني لمفهوم “إفلاس الدول” وذلك حسب زعم صندوق النقد الدولي “لطمأنة الدائنين وتخفيف وضع المدين الذي دخل في أزمة سيولة مالية”.
وقد جاء هذا الاقتراح، الذي لم يتم اعتماده ودخل طي النسيان. قانونيا لا يوجد إفلاس الدول ولكن اقتصاديا خطر الإفلاس يُهدّد عديد البلدان من بينها تونس إذا كان إذا من الناحية القانونية لا توجد حالة إفلاس للدول فإن الأمر يختلف تماما من الناحية الاقتصادية. خاصة بعد الأزمة المالية العالمية التي هزت اقتصاد العالم في سنة 2008 وما نتج عنها من تطور “المخاطر السيادية” نتيجة التخوف من عدم تسديد الديون التي انتشرت بين دول العالم بما فيها الدول الصناعية المتقدمة مثل إسبانيا و إيطاليا علاوة على وضع اليونان رغم وجوده في حضانة الاتحاد الأوروبي.
هذا الوضع ازداد تأجيجا بفعل نشر الترقيمات السيادية التي تصدر عن المؤسسات المختصة. انطلاقا من ذلك يجب تحديد أهم المؤشرات التي تدل على وجود او تدحرج بلد ما نحو الإفلاس. وهي بالأساس مؤشرات موضوعية تتبين في حالات:
– عجز أو وجوب صعوبات لدى الدولة على تسديد ما عليها من واجب المعاشات مثل الأجور و جرايات المتقاعدين إضافة لحسن سير المرافق العمومية المناطة دستوريا وقانونيا بعهدتها مثل التعليم العمومي والصحة العمومية والنقل العمومي علاوة على صيانة وتوفير البنية التحتية الضرورية لضمان المسيرة التنموية.
– اتخاذ قرار أحادي من شأنه أن يخرق التعهدات الملتزم بها لفائدة الدائنين مثل قرار التقليص في نسبة الفائدة. وقد اتفق كلا من “كارمن راينهارت” «Carmen Reinhart » الخبيرة الاقتصادية الأمريكية و “كنيث روقوف”» « Kenneth Rogoff الأستاذ الجامعي الأمريكي و الذي اشتغل بخطة خبير اقتصادي لدى صندوق النقد الدولي ، على أن “مفهوم العجز السيادي هو ترجمة لعجز دولة ما على تسديد خدمة الدين جزئيا أو بالكامل (في الأصل و الفوائد) في آجالها المحددة “.
وبذلك يمكن التأكيد أن الإفلاس الاقتصادي للدول يعتبر واقعا ثابتا و بدون منازع. و الدليل ما تعرضت له دولة المكسيك من حالة إفلاس في سنة 1982 وكذلك دولة الأرجنتين في سنة 2001 وغيرها من البلدان الأخرى. حيث أصبحت اليوم بعض الدول الكبرى الصناعية تتعرض لمخاطر الإفلاس كما حصل ذلك لبنك الاستثمار الأمريكي العملاق “ليمان بروذرس” « Lehmann Brothers »الذي أعلن إفلاسه بتاريخ 15 سبتمبر 2008 وتم إنقاذه بالمال العمومي الأمريكي خشية انهيار اقتصاد الولايات المتحدة والعالم حتى إذا أضفنا الى هذه المفاهيم أن حالة الإفلاس يتم إقراراها حالما تظهر علامات ما يسمى بعدم “إمكانية تحمل عبء المديونية” تتبين بوضوح نذكر من أهمها:
– تحقيق نسبة نمو ضعيفة جدا أو حتى سلبية على مدى عدة سنوات متتالية بحيث لا تُمكّن من خلق القيمة المضافة الضرورية لتتمكن الدولة المعنية من تسديد الديون في آجالها المحددة إلا عبر المزيد من الديون مما يدخلها في ما يسمى “دوامة المديونية” وهي من اخطر الحالات التي تهدد البلدان بالإفلاس. – التوجه بالضرورة عبر المزيد من الضغط الجبائي الذي يطال كافة المواطنين وكافة المؤسسات المنتجة بطريقة تصبح اعتباطية وغير منطقية. هذا التوجه يؤدي حتما لمزيد من الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي خاصة إذا تزامن هذا الضغط الجبائي مع الزيادات المُشطّة في أسعار الطاقة والمحروقات وانهيار قيمة العملة المحلية.
-انتشار ظاهرة تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج بصفة تستنزف السيولة المحلية وتساهم بطريقة مباشرة في انهيار الاقتصاد الوطني.
– اعتماد برامج التفريط في الثروات والمؤسسات الوطنية بدعوى “إصلاحات هيكلية” باطلة طالت حتى الأصول العقارية. واحسن مثال لجوء الدولة اليونانية إلى التفريط في بعض جزرها الوطنية وخاصة منها السياحية وكذلك التفريط في أهم الموانئ وهي المشهورة بأسطولها البحري التجاري العالمي مما يستهدف القطاعات المحورية للبلاد.
بكل هذه المقاييس الموضوعية تونس تعتبر اقتصاديا في حالة إفلاس لا جدال فيه
إذا ما قارنا كل هذه المقاييس بما يجري في تونس يتبين لنا بوضوح أن :
– مستوى نسبة النمو تثعتبر ضئيلة جدا حيث لا يتعدى متوسطها نسبة 2 بالمائة بين سنة 2010 و 2018 بدون اعتبار نسبة التضخم. بالمقابل تضاعفت المديونية بأكثر من ثلاثة مرات في نفس المدة زيادة على انهيار قيمة العملة الوطنية بما يفوق 70 بالمائة وهو ما يغذي ارتفاع المديونية مباشرة ويقلص من القدرة الشرائية للمواطنين.
إذا ما أضفنا على ذلك نسبة التضخم المعلنة التي تفوق 7 بالمائة منذ سنتين ونسبة الضغط الجبائي الذي يعتبر من أعلى النسب في العالم حيث تخطى 23 بالمائة على مستوى الأداء الجبائي البحت ويصل إلى مستوى 33 بالمائة إذا أضفنا عليه الترفيع في نسبة الأداء الاجتماعي والمتعلق بالضمان الاجتماعي.
– كذلك على مستوى تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج تُعتبر تونس نسبيا من أكبر البلدان التي شهدت تهرب مرتفع جدا لرؤوس الأموال إلى الخارج قُدّر إلى موفى سنة 2015 في حدود 60 مليار دولار بعدما كان في حدود 38,9 مليار دولار إلى موفى سنة 2010 حسب تقرير قام به معهد الدراسات السياسية و الاقتصادية التابع لجامعة مساسوستش الأمريكية تحت عنوان Capital flight from North Africa . وهو مبلغ يفوق ضعف المديونية الحالية للبلاد؟
– كما أن ما نشهد من تمرير لقوانين مصادرة للثروات والمؤسسات العمومية سواء عبر قانون الاستثمار أو عبر رسالة النوايا التي التزمت بها الدولة التونسية للتفويت في عدة قطاعات إستراتيجية مثل شركة توزيع البترول والبنوك العمومية والشركة التونسية للكهرباء والغاز ووكالة التبغ وغيرها من الثروات المنجمية وقطاع الطاقات المتجددة هو خطوة واضحة نحو تحقيق ضمانات للدائنين على حساب التنمية الوطنية وعلى حساب حق الشعب التونسي في تقرير مصيره والاستفادة من ثرواته طبقا لما يضمن دستور البلاد.
كل هذه المؤشرات تدل بوضوح على أن تونس في وضع إفلاس لا جدال فيه. ما يمكن تأكيده هو أن هذه الحالة الرهيبة التي وصل إليها الاقتصاد الوطني تم التخطيط لها بطريقة ممنهجة في منتدى “دوفيل” للدول السبعة الكبرى اكما ذكرنا سابقا وذلك سعيا للالتفاف على المسار الإصلاحي الذي كان يمكن أن يتبلور في تونس اثر انهيار رأس السلطة يوم 14 جانفي 2011.
إن حرص الأحزاب السياسية التي حكمت تونس منذ 2011 إلى اليوم على التمسك بالسلطة دفعها إلى الانخراط في تطبيق مخطط “دوفيل” سعيا لإرضاء الأطراف الخارجية المعنية واختارت الوقوف ضد أي توجه إصلاحي عميق يقوم على أساس مراجعات هامة لعلاقات تونس خاصة مع الاتحاد الأوروبي ومراجعات هامة لرد الاعتبار للاقتصاد المنتج خاصة في القطاع الفلاحي والصناعي.
في ظل تورط كل الأطراف السياسية التي حكمت البلاد منذ جانفي 2011 لإيصال البلاد إلى هذا الوضع يحق لنا اليوم أن نقول و بكل قوة أن غياب برنامج إنقاذ وطني من الإفلاس يعتبر بكل المقاييس “جريمة” نكراء في حق البلاد سوف تطول كل من خطط و نفذ لهذا التوجه الشنيع الذي سيُسجله التاريخ خاصة إذا لم تتراجع هذه الاطراف عن هذه السياسة المُدمّرة في حق الشعب التونسي و في حق أجيالنا.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير.