الشارع المغاربي -معز العاشوري (كاتب ومخرج مسرحي): تحيلنا قراءة مسرحية “الوحش” للمؤلفة المجرّية الأصل أكوتا كريستوف على ظاهرة أسطورية تشابهت إلى حدّ كبير مع ظاهرة فيروس كورونا وما فرض من مفاهيم جديدة في إطار المقاومة والحدّ من تضخّمه وانتشاره. وقد يدفعنا المنهج المقارن إلى البحث عن عناصر التشابه بين ظاهرتين مختلفتين باعتبار الأولى ظاهرة خرافية تمثلت في ظهور وحش أسطوري يزيد نموّ ه وضخامته من نهمه للحم البشري والثانية ظاهرة علمية تمثّلت في ظهور فيروس ناتج عن سلالات الفيروسات التاجية وله القدرة على الإنتشار بسرعة وتمرير العدوى داخل المجموعات البشرية.
سحر الكائنين ومكرهما
تظهر علامات التميّز لدى الكائنين من حيث الشكل ، وهي علامات تبعث على الاطمئنان لسحرها وجمالها، ولكنها تلعب دورا ماكرا ومخادعا من أجل الفتك بالجسد البشري، حيث نلاحظ وحش أكوتا كريستوف وقد اكتسى ظهره بالزهور تفوح منه رائحة زكيّة تجعل سكان القرية يدمنون على رائحة زهوره فيسقطون مغشيا عليهم أمام فمه، أمّا كائن كورونا فقد تميّز بحجمه الدائري الضئيل و بتاجه المكسوّ بأشواك تتخفّى داخلها مادّة خاصة يتمكّن من خلالها الولوج إلى داخل الخلية التي تقبله صديقا وتنخدع به فتتحوّل إلى مصنع لإنتاج الفيروس . كما تميّز الكائنان بالغموض لدى المتابعين، فلئن مثّل فيروس كورونا عدوّا لا يزال مجهولا لدى
المختصّين في علم الفيروسات والأطباء لسرعة انتشاره وحنكة خدعته وقدرته على الاختفاء والظهور فإن وحش أكوتا كريستوف المرئي يظلّ غرائبيا لدى سكان القرية حيث يعتبره نوب “حيوانا غريبا ولم
يسبق أن رأى حيوانا أكبر وأفظع منه”، يصدر صوتا مفزعا وتخرج النبال والسهام من لحمه دون دم ممّا يجعل نساء القرية يستشعرن المصيبة ويردّدن “عهد السلام انتهى.. أي خطر يهدّدنا…” ويدعو سيد
القرية الجميع للصلاة إلى الإله الواحد رب هذا الكون المحدث .
سرعة التضخّم والانتشار
يتشابه الكائنان في سرعة التضخم والإنتشار بين المجموعات البشرية ، ويمثّل الجسد البشري المادّة المستهدفة التي تعزّز قدرتهما على النموّ والإستمرار في النشاط ممّا يجعلهما يراهنان على الإقتراب
من التجمّعات البشرية حيث يكتشف “نوب” في المسرحية أن الوحش يكبر دون توقّف نتيجة التهامه من يتواجدون أمام فمه، ويرى أن الحلّ الوحيد ااختفاءه ومنعه من التضخّم هو حرمانه من أكلته المفضّلة اللحم البشري. كذلك يكتسب فيروس كورونا قدرة على التضخّم و النمو بفضل التقارب الاجتماعي ممّا يمكّنه من سرعة نقل العدوى بين البشر وممارسة نشاطه المتمثّل في الفتك بجهاز التنفس البشري.
آليات المقاومة :العزل أو الموت لعلّ آلية العزل تظلّ أهم وسيلة لمنع أهالي القرية من الاقتراب من الوحش الخرافي والساحر بأزهار ظهره التي تفوح منها رائحة زكيّة تجعل سيد القرية “الرجل المبجّل” يخيّر الأهالي بين الموت أو اختفاء الوحش ، ويدعو إلى بناء سور من الحجر لعزله ويأمر السكان بأن يقتلوا كلّ من يحاول الإقتراب من السور حتى لا يكونوا “طعاما للوحش وحتّى يختفى شيئا فشيئا”، مثلما تمّ اعتماد آلية العزل للتصدّي لفيروس كورونا الذي فرض على الأمن القومي والجيش الأبيض للدول الموبوءة إتباع سياسة الحجر الصحي مما يعني عزل السكان في منازلهم أو في فضاءات محدّدة ومنعهم من التنقّل بين المدن والقرى
والتجمّعات بهدف إحباط انتشار العدوى بين البشر والتحكّم في توسّع حجم الفيروس وبالتالي يصبح خيار العزل استراتيجية المقاومة ضدّ جرائم الكائنين.
التباعد الإجتماعي (التباعد الرغبوي)
تأتي آلية التباعد الإجتماعي في التصدّي لفيروس كورونا نتيجة غموض الفيروس غير المرئي وتغيّر علاماته أو أعراضه من جسد إلى آخر واستغلاله التقارب الاجتماعي التلقائي لتعزيز توسّعه وانتشاره بين البشر ممّا يجعل آلية التباعد ترتكز على المسلّمات التالية:
ـ الآخر حامل للفيروس
ـ الأنا حامل للفيروس
ـ الفضاء بؤرة انتشار العدوى
وهو ما يفضي إلى القطع مع عادات التقارب الإجتماعي ليصبح التواصل بين البشر عن بعد، لكن الإنسان غالبا ما يرفض أن يكون عقلانيا منضبطا لإجراءات التباعد الإجتماعي حيث يستسلم لرغباته الذاتية
التي تشتاق إلى لذّة التقارب الإجتماعي المتمثلة في العادات والطقوس اليومية والدينية والحميمية والمهنية… ممّا يجعل البشر كائنا رغبويّا ينحاز في تفكيره الرغبوي إلى كلّ الملذّات التي تحقق متعته وتوازنه
واطمئنانه مثلما يستسلم أهالي القرية في مسرحية أكوتا كريستوف إلى لذّة رائحة الزهور النابتة على ظهر الوحش والتي تحقق لهم المتعة والاطمئنان دون التفكير في المسافة بين العقل الذي يمثل الوعي
والرغبة التي تمثل اللذّة الحسيّة والروحية.
ويحيلنا مفهوم التباعد الإجتماعي الوقائي الى ضرورة على التباعد الرغبوي بين العقل) الوعي الوقائي(والرغبة) اللذّة الحسية ،الروحية (وهو ما يكشف تشابه آليات مقاومة الظاهرتين، ظاهرة الوحش
الأسطوري وظاهرة الفيروس التاجي كورونا واللذين فرضا على البشر وضع مسافة أمان بين أنا الرغبة والعقل الوقائي.