الشارع المغاربي: سيسجل التاريخ المؤشرات الثمانية السلبية لوكالات التصنيف الائتماني العالمية لتي انهالت على تونس منذ سنة 2011 إلى اليوم كعنوان للفشل الذريع للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لجميع الحكومات التي تداولت على السلطة منذ جانفي 2011 إلى اليوم. لأن دور هذه الوكالات يتمثل في تقليص ما يصطلح على تسميته «تباين المعلومات» بين المقترضين والمستثمرين، عبر تزويد الأسواق المالية بمعلومات عن جودة الديون التي يتم إصدارها ومخاطر عدم ايفاء المدينين بالتزاماتهم. لذلك سوف تتحمل كل الحكومات والأحزاب التي ساندتها المسؤولية التاريخية لهذا الإفلاس الرهيب.
التصنيف الأخير الذي أصدرته وكالة «موديز» بتاريخ 23 فيفري 2021 أشار بوضوح إلى اقتراب تونس من فرضية حالة إفلاس بمعنى عدم قدرتها على تسديد ديونها الخارجية في آجالها المحددة وهو ما مثل صدمة كبيرة للشعب حولت حلم ثورة شعارها «شغل، حرية، كرامة وطنية» إلى إفلاس للدولة وضرب السيادة الوطنية.
لقد جاء هذا الترقيم بالتزامن مع نشر البيان الصحفي رقم 21/52 FMI الصادر عن المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي اثر اختتام مشاورات المادة الرابعة لعام 2021 مع تونس يوم 26 فيفري حيث استهل بيانه الذي يحتمل العديد من التناقضات الصارخة باستعراض تداعيات جائحة كوفيد-19 على الاقتصاد الوطني معللا ذلك «بأن التوظيف الإضافي (ذكر بنفسه ان %40 منه في القطاع الصحي بالضرورة) أدى إلى رفع كتلة أجور القطاع العام إلى %17,6 من إجمالي الناتج المحلي لتصبح حسب زعمه» ضمن أعلى الكتل في العالم». والحال أن ارتفاع النسبة المائوية لكتلة الأجور هو ناتج في الحقيقة عن تقلص الناتج المحلي الإجمالي الذي انكمش بنسبة %8,8-. كما اضاف متوقعا» أن يتعافى نمو إجمالي الناتج المحلي ليسجل %3,8 في عام 2021 مع بدء انحسار آثار الجائحة» في بلد هو يعلم جيدا أنه لم يتلق إلى اليوم جرعة تلقيح ضد كوفيد-19 وفي بلد لا تتوفر فيه أية مقومات الإنتاج المحلي. وهذا يُعتبر استخفافا بالشعب التونسي.
في كل الأحوال لقد كنا نستشعر ونُنبّه من خطر الإفلاس الداهم على تونس حيث كانت كل المؤشرات والأرقام والمعطيات الموضوعية تؤكد منذ البداية أن البلاد دخلت في منزلق خطير قوامه النفاق السياسي واللهث وراء المنافع الذاتية آلياته الولاء للقوى الخارجية الدولية والإقليمية وأدواته أبواق دعاية منحازة إعلامية وأكاديمية سخرت قواها للتضليل والنفاق بلا هوادة.
لذلك من الواجب تحديد المسؤوليات ومحاسبة كل الأطراف الضالعة في هذا الخراب.
لقد تجلت السياسات الفاشلة من خلال محطات محورية شكلت قمة «دوفيل» للدول السبع الكبرى التي التأمت في فرنسا في ماي 2011 عنوانها الأساسي بعد أن سبقتها عدة زيارات لتونس قامت بها شخصيات فاعلة من القوى الدولية والإقليمية في إطار صفقة ولاء مقابل تمكين في السلطة حتى ولو استوجب الامر التنكر لاستحقاقات الشعب. لقد مثلت قمة «دوفيل» الحدث الهام الذي مكن صندوق النقد الدولي من تفويض للتدخل في تونس منذ توقيعه في سنة 2012 وإلى اليوم.
كما افضت هذه القمة إلى فرض خطوط حمراء على كل الأطراف التي حكمت تونس في هذه العشرية أهمها عدم القطع مع المنوال التنموي السائد قبل الثورة الذي يتمحور حول الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وفتح السوق الوطنية لمزيد التوريد بلا قيد ولا شرط والالتزام بتمرير كل القوانين ذات الصلة التي مكنت المؤسسات المالية الدولية والإقليمية من إحكام قبضتها على البلاد.
هذا التمشي أدى إلى تنامي الفساد السياسي والاستحواذ الحزبي والهيمنة الخارجية فكانت النتيجة حتمية إفلاس أخلاقي بالدرجة الأولى وإفلاس مالي واقتصادي سوف تدفع ثمنه غالبية الشعب التونسي مثلما كان الأمر بعد فرض معاهدة باردو المشؤومة التي كرست الاستعمار الفرنسي.
لقد تميزت هذه العشرية السوداء بمعدل نسبة نمو في حدود %1,7 بين سنة 2011 وسنة 2019 مقابل معدل نسبة نمو بـ %4,4 بين 1987 و 2010 وهو ما يعتبر بكل المقاييس حالة ركود خطيرة وغير مبررة.
في نفس الوقت ارتفع مجموع العجز التجاري في النظام العام المقيم إلى 218 مليار دينار بين سنة 2011 وسنة 2020 بمعدل سنوي يقدر بـ 21,8 مليار دينار يتم تغطيتها بقروض خارجية بالعملة الأجنبية مقابل مجموع عجز تجاري بلغ 81 مليار دينار فقط في العشرية بين سنة 2001 وسنة 2010 أي بمعدل8,1 مليار دينار سنويا.
هذا الانزلاق بالتزامن مع تحييد الدور الأساسي للبنك المركزي في الدفاع عن العملة الوطنية عبر قانون أفريل 2016 أدى إلى تدهور قيمة الدينار مما تسبب بطريقة آلية في تدمير الاقتصاد الوطني في القطاعين العمومي والخاص وتفاقم المديونية. هذا المعطى الهام تجاهلته عنوة كل الحكومات المتتالية وكل المؤسسات المالية الدولية.
من هذا المنطلق نعتقد أن البيان الأخير لصندوق النقد الدولي الذي يعتبره العديد من المعلقين في تونس مُنزّلا ولا غبار عليه يحمل في الحقيقة عديد التضارب. نؤكد على ذلك لأننا على علم بإخفاقاته السابقة التي اعترف بها رسميا حيث تعرضنا في مقال نشر بـ “الشارع المغاربي” يوم 5 أفريل 2018 إلى اعترافات خبراء من داخل صندوق النقد الدولي بفشل الإصلاحات الهيكلية التي يفرضها على عديد البلدان منذ أربعة عقود.
كما ذكرنا في مقال ثان في نفس السنة أن صندوق النقد الدولي قدم في الخامس من جوان 2013 اعتذارات رسمية فاجأت الجميع حول طريقة معالجته الأزمة اليونانية منذ سنة 2010. حيث ذكرت وثائق داخلية تم تسريبها أنه سجل إخفاقات كبرى على مستوى اختيار سياسة التقشف لمعالجة الأزمة عبر الضغط على الأجور والزيادة المشطة في نسبة الضرائب على اليونانيين مما عمق الازمة وأدخل البلاد في حالة ركود. وكذلك وهو الأغرب على مستوى «كفاءة ودور الفريق المكلف بمتابعة وتطبيق هذه السياسة الذي تم وصفه بانه «غير متمكن ولا يملك التجربة المطلوبة». وهو مع الأسف ما يجري في تونس منذ سنة 2013 إلى اليوم.
وتأكيدا على ما سبق نلاحظ أن كل الأطراف المعنية بالوضع التونسي تُمعن في التكتّم على مُعضلة العجز التجاري وتتجاهله بطريقة مريبة وتقوم بتحويل وجهة مصطلح الإصلاحات نحو خوصصة المؤسسات العمومية وشيطنة كتلة الأجور. وهي بذلك تُمهّد للتفويت في مقدرات البلاد بأثمان بخسة عبر الصناديق الكاسرة «les fonds vautours « التي حسب عدة مصادر بدأت تحوم حول الفريسة التونسية النازفة وسط صمت مريب من البنك المركزي الذي كان عليه أن يتخذ الاحتياطات الضرورية بالتعاون مع وزارة المالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
هذا الوضع يتعرض له لبنان اليوم وسبق أن تعرضت له عديد البلدان في العالم في شرق أوروبا وفي أمريكا اللاتينية وبلدان شرق آسيا. وهو استدراج نحو الإفلاس دأب عليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتواطئ مع أنظمة فاسدة وفاقدة للحس الوطني لتمكين قوى دولية وإٌقليمية من ممارسة ابتزازها السياسي والاقتصادي.
اليوم آن الأوان للدعوة بكل قوة إلى تكوين حكومة إنقاذ وطني لتضع حدا لهذا الدمار وتضع مخططا محكما للدخول في مفاوضات صعبة ومريرة بآليات جدية ومدروسة بحكمة لإخراج البلاد من هذا المستنقع وإعادة المسيرة التنموية الوطنية إلى دربها الصحيح. عاشت تونس حرة أبية منتصرة على كل الصعاب.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بيتارخ الثلاثاء 9مارس 2021