الشارع المغاربي: اختفت هذا العام الاحتفالات الرسمية بعيد الاستقلال يوم 20 مارس، ولم نرَ مظاهر الاحتفاء في الشوارع الرئيسية والساحات العامة ما عدا بعض الأعلام الوطنية المعلّقة في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة. ولم يشذ رئيس الجمهورية قيس سعيّد هو الآخر عن القاعدة فغابت كلمته ومرّ اليوم في صمتٍ رسمي كئيب ومُهِين استفَزّ مشاعر «التوانسة» وأغاظهم.
عُدنا تقريبًا إلى مناخات حكم الترويكا البائس، زمن التجاهل الرسمي المتعمّد حينها للأعياد الوطنية، والتشكيك الممنهج في استقلال تونس وفي تهميش أدوار زعماء الحركة الوطنية وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لحقه حينها ما لحقه من تشويه ومغالطات تاريخية لسيرته ومسيرته النضالية. كُنّا حينها «نتفهّم» منطق الحقد الإيديولوجي لحركة النهضة على الزعيم الحبيب بورقيبة وعلى مشروعه التحديثي التنويري المضاد للمشروع الإخواني. كان «منطقي» إذن أن يغيب الاحتفال الرسمي بعيد الاستقلال مثلا في حكومة حمادي الجبالي أو في حكومة علي لعريّض، ويتصدّى في المقابل المجتمع المدني و»التوانسة» عموما لهذا الغياب الحكومي المتعَمّد فينزلوا إلى الشوارع للاحتفاء بذكرى استقلال دولتهم كردّ فعل مواطني ومقاوم ضدّ ما لحق تونس ورموزها من ترذيل وتبخيس.
هذا العام تفاجأ «التوانسة» بتجاهل الرئيس قيس سعيّد لعيد الاستقلال بحجّة أنّ الحدث ليس «بروتوكولا أو وثيقة» و الاحتفاء به لا يكون عبر»موكِبٍ يُنَظّم» بل إنّ «الاستقلال الحقيقي حين تكون سيّدا في الأرض» كما شرح و بيّن في جُمَلٍ غائمة بلا معنى وبلا مضمون دقيق خلال خطابه يوما بعد 20 مارس بمناسبة إطلاق القمر الاصطناعي التونسي.
لِمَ يتجاهل الرئيس عيد الاستقلال ؟
في تبرير غير مقنعٍ ومُضحِك، يُحَمّل رئيس الجمهورية غياب الاحتفال بذكرى الاستقلال «للأحوال الجوّية» !. فيقول في خطاب «القمر الاصطناعي» «شاءت الأحوال الجوية أن يكون الانطلاق يوم 21 مارس…وإلّا فإنّ الاحتفال كان احتفالين !». هكذا وبفِعل المناخ يختفي الخطاب الرئاسي ويغيب الموكب الاحتفالي بحدث مؤسّس ومفصلي في تاريخ تونس المعاصر. فأحوال الطقس هي التي فرضت على رئيس الجمهورية أن يكتفي بخطاب يجمع فيه سعيّد القمر الاصطناعي بالاستقلال، وهي أيضا (الأحوال الجوية) التي تتحمّل لوحدها مسؤولية غياب الموكب الاحتفائي، بعد أن تآمرت كما تتآمر بعض الأطراف على الرئاسة والرئيس في غرفها المظلمة !. ماهذا سيّدي الرئيس ؟ لقد فضحك خطابك نفسه مرّتين، ولا دخل للمناخ والجوّ في تجاهلك لعيد الاستقلال. مرّة حين أوضحت أنّ الاستقلال ليس وثيقة وليس موكبا يُنظّم بل إنّ الاستقلال الحقيقي حين تكون سيّدا في الأرض. وهذه تعابير فضفاضة لا معنى لها، لأنّ الاستقلال هو حدث مفصلي في تاريخ الدول يُخرِج شعوبها من زمن الاستعباد والاستعمار إلى زمن الحرية والكرامة، ولذلك يُحتفى به لِيصبح مناسبة تتربّى عليها الأجيال المتعاقبة لتستذكر بطولات شهدائها. عيد الاستقلال يُحتفى به سيّد الرئيس شرقا وغربا، في السّند والهند وفي بلاد الواقواق !وتُنَظّم خلاله المواكب وتُقام الحفلات والعروض الفنّية والثقافية وتُنتج لأجله الأفلام ( Independence Day يوم الاستقلال فيلم أمريكي). وهو (عيد الاستقلال) مناسبة يُعاد خلالها ترتيب ذاكرة الشعوب وإحيائها عبر طقوس الاحتفاء ومواكب الاستعراض…هكذا تلتحم الأمم بتاريخا وتنغرِس فيه ويشتد انتمائها وارتباطها الوجداني به، فلا معنى إذن للقول بأنّ «الاستقلال ليس وثيقة وليس موكبا ينظّم»…الاستقلال وثيقة معترف بها بمقتضى القانون الدولي، وهو موكب ورمزية واحتفاء ومشاعر فخر واعتزاز تتجدّد كلّ سنة. فالمناسبات والأعياد مهما تنوّعت جُعِلت لذلك قديما وحديثا فما بالك بحدث عظيم تخضّب بدماء أجيال من الشهداء.
فَضَحَكَ خطابك إذن سيّد الرئيس ،في كلمتك يوم 21 مارس رغم تخفّيك وراء «أطراف وجهات جوّية متآمرة» ! وأظهرت أنّك رافض للمواكب الاحتفائية ليس إلّا، ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يَفْضحُكَ فيها خطابك نفسه . لقد فَهمنا في أوّل ذكرى للاستقلال نعيشها في عهدك يوم 20 مارس 2020 أنّ لك إشكال مع الاستقلال نفسه، ولنذكّرك بذلك. اقتصرت كلمتك حينها أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي على تلبيس تاريخي للاستقلال دون ذكر لأهميته أو لقيمته كيوم نقل تونس من وضع استعماري إلى مرحلة استقلال وتحرّر وطني. أحدثت بتلبيسك تشويشا في مخيال «التوانسة» بين 20 مارس و25 مارس وربطت بطريقة لا منطقية بين انتخابات المجلس القومي التأسيسي والاستقلال، ثمّ أشرت إلى المنصف باي ورغبته في إعلان الاستقلال، ثم ختمت بحادثة اعتقال الطاهر بن عمّار والحكم عليه بتهمة زائفة وهي أنّ زوجته قد أخفت مصوغ الباي! …ذكرت كلّ شيء تقريبا يُمكن أن يُساعدك على إضفاء مسحة من الغموض والشكّ على تاريخ تونس …كلّ شيء إلّا بورقيبة، أليس هذا بمريب سيّدي الرئيس ؟ !. هكذا حوّلت الاحتفاء المفترض بحدث عظيم إلى درس رديء في التاريخ، ونصّبت نفسك مدرّس ومعلّم تُلقي دروسك علينا، محاولا في كلّ مرّة إعادة ترتيب ذاكرة «التوانسة» على نحو تشتهيه.
اعلم سيّد الرئيس أنّك رئيس كلّ التونسيين أوّلا وأخيرا، وأنّه منوط بك الالتزام بنواميس الدولة وضوابطها، وليس لك الحق أبدا في أن تفرض رؤيتك الفردية أو تأويلك الشخصي الخاصّ لحدث محوري في تاريخ دولتنا الحبيبة. ما قلته وشرحته وأفضت فيه مرّتين في 2020 و2021 فيما يتعلّق بالاستقلال لا يَهُمّنا وهو محض اجتهاد فردي خاصّ يُجانب الحقائق التاريخية، ويُخالفك فيه الرأي جملة وتفصيلا جلّ المختصّين في التاريخ المعاصر وجلّ العارفين بتاريخ الحركة الوطنية. اعلم سيّد الرئيس أنّ «التوانسة» مواطنون أحرار وليسوا عجينة تُشكّل مخيالها ورؤاها كما تُريد وتشتهي، تُلقي عليهم من عليائك بإنشائيات ولَغْو لا يُغني بؤسهم ولا يُسمنهم من جوع وفاقة يعانونها في أيّامهم هذه، من قبيل ما قلت أخيرا من جمل مبهمة وعبارات مُلْغَزة كالقول «هذا الغزو للفضاء سبقه غزو للأرض سبقه استقلال» أو القول «إذا كان هناك إرادة ثابتة لا تحقق الاستقلال في الأرض ولكن أيضا تسبح مستقلّة في السماء»… ما هذا سيّد الرئيس ؟؟ أرجوك عُدْ سريعا إلى الأرض… نحن في انتظارك دائما لنحتفل معا باستقلال تونس…»راهي عزيزة» سيّد الرئيس «ومناش باش نسلّموا فيها»…»هانا صابرين…».
*نُشر بصحيفة “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 23 مارس 2021