الشارع المغاربي: يوم 25 جويلية الماضي خرج الشعب مناديا بإنهاء وجود حزب حركة النهضة الذي حكم البلاد طوال عشرية كاملة انتهت بإفلاس اقتصادي وبغلاء في المعيشة ومزيد من البطالة. كل ذلك بجانب هوان على المستوى الدولي بحيث أصبحت تونس مصنّفة على رأس قائمة البلدان المصدّرة للإرهابيين. يومها أصدر الرئيس قراراته التي رحّب بها الجميع معتقدين أن مرحلة جديدة بدأت بالتخلص من أسّ البلاء ممثلا في الفرع المحلي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ومن ثم الانتقال إلى البناء. غير أن الرئيس وقف “محلّك سِر” ولم يتقدم خطوة في الاتجاه الصحيح بل اكتفى بتجميع كل السلطات في يديه دون أن يستعملها لِما توهّم الشعب أن الرئيس قرّ قراره على القيام به واكتفى ببعض التصرّفات التي لا تغيّر من المعادلات القائمة قيد أنملة كالاكتفاء بتجميد البرلمان مع إبقاء الحماية والمرافقة الأمنية لرئيسه المجمّد والسماح له بالحركة وبعقد الاجتماعات. ووصل الأمر إلى حد عقد جلسة بما تيسّر له من نواب البرلمان المجمّد شارك فيها حتى المطلوبون للعدالة والمفتش عنهم وأذيعت على الهواء مباشرة في “قناة الجزيرة”. الى جانب كل هذا ما زال الرئيس مصرّا على حماية بؤرة القرضاوي أحد ألدّ أعداء تونس ونظامها الجمهوري وحماية “حزب التحرير”. ولأنه شعر بأن الذين ساندوه تململوا من هذا التباطؤ والتلكؤ في إنهاء ملف الإخوانجية اللذين قاربا أن يكونا تواطؤا اتجه الرئيس إلى إلهاء الناس بوضع نور الدين البحيري رهن الاقامة الجبرية مع توصية منه بحسن قبوله ورعايته وفق ما جاء في خطاب له من ناحية. ومن ناحية أخرى حاول ترضية مسانديه الذين لم تعد لهم ثقة في القضاء خصوصا بعد الفضيحة الكبرى بين أعلى رتبتين قضائيتين في البلاد باتهام أحدهما بالرشوة والآخر بالتستر على الإرهاب وهو ما جعل الناس يصفون القضاء بقضاء البحيري. وبعد حديثه المتكرّر عن إصلاح المجلس الأعلى للقضاء اتجه الرئيس إلى إلغاء المنح والامتيازات المخولة لأعضائه وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. وفي تقديري أنه بعد مرور ستة أشهر كاملة على انطلاق مسار 25 جويلية أستطيع القول إن الرئيس قيس سعيد ينتمي إلى الفضاء الديني السياسي الذي نجد فيه حركة النهضة وحزب التحرير وجماعة احميدة النيفر وكل الذين يخلطون الدين بالسياسة وأن ذلك هو السبب الذي جعله يمتنع عن تجسيد قرارات 25 جويلية. ما يجمع قيس بالجماعات الدينية هو اشتراكهما في القول بأسبقية النص على الواقع وبأنه لا يجوز أن نتعامل مع النص إلا في حدود الضوابط التي وضعها الفقهاء. فهما بذلك يمنعان كل محاولة للتعامل معه ويتعسفان على الوقائع فيثبّتان المتغير في نصوص جامدة وهذا المعنى صاغه عبد المجيد النجار في الرؤية الفكرية لحركته عندما قال: “وللمصلحة ضوابط في كشفها وتحديدها وهي:
*اندراجها في مقاصد الشريعة.
*عدم معارضتها الكتاب العزيز.
*عدم معارضتها السنة الشريفة.
*عدم معارضتها القياس.
*عدم تفويتها مصلحة أهم منها”(1) . هذا المعنى نجده حاضرا لدى قيس سعيد في موقفه من المساواة في الإرث التي رفضها بحجة أن النص القرآني واضح وانه لا مجال لتغييره. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال إشرافه على موكب بقصر قرطاج للاحتفال بالعيد الوطني للمرأة وهو في قوله هذا يلتقي مع أشد المتطرفين تكلسا لأنه يصدر عن خلط شنيع بين ما لا يجوز المساس به من النصوص وبين ما يجوز التعامل معه بالإغفال والمنع وغيره حسب ما تقتضي المصلحة. وبيان ذلك أن المجال الوحيد الذي لا يجوز إعمال العقل فيه في الدين هو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالسمعيات أي التي يتوقف العلم فيها على السمع كالعقيدة والعبادات وكيفية أدائها. أما ما تبقى من معاملات وكل ما ارتبط بالمصالح الإنسانية المتغيرة زمانا ومكانا فيمكن تغييرها حسب ما تقتضي الأحوال ولو كان النص القرآني ثابت الدلالة ولا يقبل تأويلا ولنا في مبحث النسخ خير دليل حيث نسخ المشرّع أحكاما وأتى بخلافها مُشعرا بأن الأحكام يجب أن تكون متلائمة مع الوقائع. كما أن الصحابة تجاوزوا أحكاما في القرآن وعطلوا العمل بها واليوم لمّا نعود إلى المدونة الفقهية الإسلامية نلحظ أنه تم تجاوز جميعها إلا النزر اليسير منها وإبطال التعامل به بحكم التطوّر التي عرفته البشرية فعُطّلت أحكام الحدود وكذلك الجزية بالنسبة لغير المسلمين والمعاملات الاقتصادية بما فيها الربا حيث تحايل الإسلاميون ببدعة البنوك غير الربوية والأمثلة على ذلك تندّ عن الحصر. نأتي الآن إلى مسألة الميراث فنقول إن أنصبة الورثاء وأحكامها لا يُتعبّد بها فلا هي صلاة ولا هي زكاة ولا هي أي نوع من أنواع العبادة ولا هي من السمعيات التي لا يجوز المساس بها، حكمها الإباحة فهي من النوع الذي لا يتم الالتجاء إليه إلا عند حصول الخلاف بين أفراد العائلة الواحدة عند اقتسام التركة. فأنصبة الورثاء من هذه الناحية وسيلة للاحتكام ولا تحمل أي إلزام ودليلنا على ذلك أنه إذا ارتضى الورثاء تنفيل أحدهم أو التسوية بين الذكور والإناث أو تمييز أحدهم بنصيب أكبر فإنه لا اعتراض للشرع على ذلك لأن الأصل في الأحكام الشرعية جميعها تحقيق المصلحة. قال الفقيه نجم الدين الطوفي: “فالمصلحة وبقية أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا فبها ونعمت… وإن تعذّر الجمع بينهما قُدِّمت المصلحة على غيرها”(2). وقد ذهب بعض الفقهاء إلى ما هو أكثر استنارة والتقاء العصر وضروراته. يقول ابن عابدين في ردّ المحتار: “قوله لتقدم حق العبد أي على حقّ الشرع لا تهاونا بحقّ الشرع بل لحاجة العبد وعدم حاجة الشرع. ألا ترى أنه إذا اجتمعت الحدود وفيها حقّ للعبد يبدأ بحقّ العبد لِما قلنا ولأنه ما من شيء إلا ولله تعالى فيه حقّ فلو قدّم حقّ الشرع عند الاجتماع بطلت حقوق العباد”(3). والمستفاد مما ذكر أن قيس سعيّد يلتقي في هذه المسألة مع الإخوانجية ويردّد ترهاتهم التي تستهدف رفع شعار التكفير في وجه كل محاولة للإصلاح بتحريم الاجتهاد إن وجد نص. والذي نخلص إليه هو أن قيس سعيد ورّط نفسه بالإعلان عن قرارات 25 جويلية لأنه إن واصل في نفس الاتجاه ارتدّ عن المنظومة الدينية التي يعتقد أنه إذا تراجع عنها خسر الشعبية التي حازها ذاك المساء في شهر جويلية الماضي. لذا وجد أن ربح الوقت أفضل حلّ مع بعض المسكنات التي لم تغيّر من المعادلات القائمة شيئا لأن الفرع المحلي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ما زال لحدّ الآن يصول ويجول ويعقد التحالفات وتصله الأموال عن طريق جمعياته المنتشرة في طول البلاد وعرضها. ومما يثبت أن قيس يتحرك ضمن مربع الإسلام السياسي ولن يخرج عنه أبدا ما يلي:
1)) وزارة الشؤون الدينية وزارة أفردها الفرع المحلي للإخوانجية بالاهتمام حتى قبل وصوله إلى الحكم. قال الغنوشي: “إذا كتب لنا أن نكون في السلطة سنسعى لتغيير هذه الوزارة حتى تمثل الدين بحق… وسيكون على رأسها إنسان مسلم جاد وتقي”(4) وحال وصوله إلى الحكم عيّن الغنوشي المدعو نور الدين بن حسن الخادمي المعروف بشيخ التسفير الذي جعل من الوزارة هيكلا ضخما به 24 إدارة جهوية ومئات الموظفين الذين وقع اختيارهم من المتمتعين بالعفو التشريعي الى جانب الترفيع في ميزانيتها سنويا. ومن المعلوم أن عضو مجلس شورى الحركة لطفي العمدوني الذي قضى 15 سنة في السجن هو صاحب الرأي النافذ فيها منذ سنوات. ورغم أن هذه الوزارة تدار من مونبليزير فإن الرئيس عيّن في أوّل وزارة له للشؤون الدينية بعد قرارات 25 جويلية نهضويا هو إبراهيم الشايبي الذي شارك في مناقشة رسالة عن الفكر التجديدي للغنوشي. كما أنه لم يتخلف عن إمضاء كل البيانات التي أعدّها عتاة التطرف كهشام قريسة ونور الدين بن حسن الخادمي والمختار الجبالي خطيب “تنظيم أنصار الشريعة” وغيرهم. هكذا يترك الرئيس وزارة كاملة بموظفيها ومساجدها وجوامعها التي يصل عددها إلى حوالي 5000 وتغطي أرجاء الوطن جميعها في أيدي الغنوشي. ألا يعدّ ذلك تواطؤا؟
2) ) في حديثه لجريدة “الشارع المغاربي” قال قيس: “طلبت أن يتم التنصيص على أن تعمل الدولة وحدها على تحقيق مقاصد الشريعة وهي خمس: النفس والعرض والمال والدين والحرية”(5) وهو ما يعني أن قيس يرفع نفس الشعار الذي ترفعه الجماعات المتطرفة أي تطبيق الشريعة رغم أن الشريعة التي يدعو إليها هو ومن شابهه لم تعد اليوم بعد التطور التي عرفته البشرية في مختلف المجالات إلا شعارا يستهدف دغدغة عواطف العامة والتحيّل عليهم باسم الدين تمهيدا للتمكين وافتكاك السلطة. فعن أية شريعة تتحدث يا سي قيس؟ هل هي شريعة قطع الأطراف أو رجم الزاني أو دفع اللواطي من شاهق…..؟
3) ) في ما يتعلق برمضان يقول قيس: “ليس الإفطار هو المشكل… المشكل هو الاستفزاز… لا يحال المفطر على المحكمة إلا إن كان يسعى من خلال إفطاره إلى استفزاز الآخرين”(6) وهي نفس الحجة التي يستعملها المتطرفون لفرض سلوكهم على بقية المواطنين. فصوم رمضان فعل تعبدي مثله مثل بقية العبادات يؤديها الفرد طاعة لربّه وليس تظاهرا ورياء ولا علاقة له بالآخرين إن أدوها أو امتنعوا عنها.
4) ) عن الفحص الشرجي يقول سعيّد: “القضية أعمق من الشرج … لماذا يحصل الشواذ على الدعم من الخارج ؟ لضرب الأمة وضرب الدولة”(7) هكذا بكامل البساطة ينتقل قيس سعيد من ممارسة جنسية قد نرتضيها أو نرفضها إلى الحديث عن مؤامرة صنعها الغرب لضرب الأمة وهو كلام متطرفي هذا الزمن البائس. فلا يخلو مجتمع قديما كان ام حديثا من الممارسات الجنسية ولعل سي سعيّد لم يطلع على كتاب التيفاشي ابن بلده في الموضوع هذه الأولى. أما الثانية فإن الدعم من الخارج يحصل عليه الإخوانجية وعملاء السفارات الذين تحمي بعضهم وتتستر على جرائمهم.
5) ) في موقفه من حكم الإعدام قال سعيّد: “نعم أنا مع الحكم بالإعدام”(😎 وهو موقف مغرق في الالتصاق بالنص ملغيا كل النقاشات التي دارت حول المسألة ورافضا التعامل مع موضوع خلافي بحكم بات. فعلى الذي يترشح لأعلى منصب في الدولة ألا يقطع برأي جازم في أية مسألة خلافية مطروحة للنقاش و ألا يحوّل عقيدته إلى قرارات وأوامر.
6) ) أما سادسة الأثافي فهي العودة إلى القرعة واعتمادها في تصعيد النواب من العمادة إلى مجلس النواب والقول بأن القرعة هي أرقى أشكال الديمقراطية في اختيار النواب وهو ما جاء على لسان مفسري حملة المدعو شفتر(8)، وقد ذكرني هذا بالقرعة في الإسلام وهو أسلوب معتمد في التشريع من ذلك أن النبي كان يقرع بين نسائه عند السفر كما أن القرعة يثبت بها نسب اللقيط إن ادعاه اثنان ممّن وطئا الأم.
7) ) أما عن الإرهاب فحدث ولا حرج لأن قيس سعيد من أبرز المدافعين عن رموزه. من ذلك مثلا أنه لمّا سئل عن تصنيف “أنصار الشريعة” تنظيما إرهابيا أبدى اعتراضه قائلا: “نعم … لأن من يصنف ؟ وماذا يعني هذا التصنيف؟ هذا يعود إلى القضاء”(9) وهو في هذه الحالة لا يُقدّر الأمور حق قدرها لأن تصنيف الإرهاب يجب أن يسبق العمليات الإرهابية توقيا وحفظا لأرواح الناس. فالسياسي هو الذي لا ينتظر القضاء ليبدأ في مواجهة الجريمة وأحكام القضاء تأتي بعد ارتكاب الجريمة وبعد خراب مالطة مثلما يقال بل عليه أن يتلمس ذلك من خلال المؤشرات كالخطاب الرائج ونوعية اللقاءات واتجاهات الرأي العام واستدعاء الأجانب وغيرها من المحددات. وأذكر أن جمال عبد الناصر لما أبلغ بأن كتاب سيد قطب “معالم في الطريق” طبع طبعات كثيرة في فترة وجيزة قال لهم : “وراء الكتاب تنظيم” وهو ما حصل فعلا. أما لدينا فإن قيس سعيد لا يتوقف عن الدفاع عن جماعة أبو عياض بل يتجاوز ذلك إلى الالتقاء بجماعة “حزب التحرير” التي تعادي النظام الجمهوري وحماية بؤرة القرضاوي ويذهب به الخيال إلى اعتبار الإرهاب صناعة أجنبية. حيث قال: “يجب التساؤل عمن يقف وراء الإرهاب في تونس؟ هناك جهات أجنبية تقف وراء الإرهاب في تونس”(10) وهو بما ذكر ينفي التهمة عن الفرع المحلي للتنظيم الدولي للإخوانجية الذي لم نعرف الإرهاب إلا في حكمه. والغريب في الأمر أن قيس سعيد يحوّل في حديثه عن شهداء الوطن من أمنيين وعسكريين ممن اغتالهم الإرهاب الأمر إلى عائلات من يسميهم شهداء الثورة ولا يتجرأ على ذكر الإرهاب في حبسة كلامية لم تخرج عن الفأفأة والتأتأة الملحوظة(11) وهو ما يعبر عنه بالدارجة بـ “إتْـلَـكْوِنْ”. ومن حقنا أن نسأل لماذا يتحاشى قيس سعيد ذكر الإرهاب في خطبه رغم أنه يذكر ويشنّع على من هم أدنى منه خطرا على أمن الدولة ؟.
بعد كل ما ذكر لا يبقى مجال للشك في أن قيس سعيد يتحرك ضمن إطار الإسلام السياسي في أوسع معانيه الذي يشمل احميدة النيفر والغنوشي وطالبان وبوكو حرام وأبو عياض والدواعش الذين لدينا ناطقهم الرسمي الذي أعلن بيعته لأبي بكر البغدادي وهو يدرس التلامذة حاليا بعد حصوله على الشهائد اللازمة من جامعة القيروان والبؤر المسماة جمعيات مخصصة للتمويل ولدمغجة الشباب وغيرها بحيث لا يمكن أن ننتظر من قيس سعيد أن يغيّر قناعاته التي تعمد إخفاءها طوال الفترة الماضية وهو ما يحتاج إلى إعادة نظر في مواقفنا من قرارات 25 جويلية الماضي.
———————–
الهوامش
1) “من تجربة الحركة الإسلامية في تونس” راشد الغنوشي، دار المجتهد الطبعة التونسية 2011 ص309 و310.
2) “المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي” مصطفى زيد، دار الفكر العربي 1954، ص46 من الرسالة.
3) “ردّ المحتار على الدرّ المختار” 2/144.
4) جريدة 14 جانفي بتاريخ 19 جويلية 2011 .
5) جريدة الشارع المغاربي بتاريخ 11 جوان 2019.
6) نفسه.
7) نفسه.
😎 رابطه كالتالي:
https://www.facebook.com/anas.chebbi.9/posts/4358186597570626
9) جريدة الشارع المغاربي المذكورة.
10) نفسه.
11) رابطه كالتالي:
https://www.facebook.com/marzouguiS/posts/2721557404656498
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 فيفري 2022