الشارع المغاربي: شنّ الغنوشي مؤخّرا حملة شعواء على رئيس الجمهورية متهما إياه بالتشيع. قال بالحرف الواحد في تصريح له: “الحملة التفسيرية تذكرنا بالتشيع… “في الحقيقة عندهم الدعاة يربوا جماعتهم ويقروهم في السرّ وينطلقوا إلى الآفاق يتكلمون بلغة واحدة حتى كلمة دعاة هي أصلها شيعي” وكلامه هذا موجّه إلى القوى الخارجية محذّرا من أنه يمكن أن يكون لإيران مستقبلا موقع قدم في تونس إن لم يسارعوا إلى مواجهة رئيس الجمهورية وإلغاء ما اتخذ من قرارات يوم 25 جويلية الماضي وما بعده. ولي على ما ذكر جملة من الملاحظات والتصحيحات التاريخية:
1) قبل الحديث عن الشيعة وجب الفصل بين التشيّع في مفهومه العام أي المذهب الفقهي والعقدي المصنّف إسلاميا وبين التشيّع السياسي ممثّلا في نظام الحكم القائم على ولاية الفقيه في إيران لأن الخلط بينهما يفسد الرؤية ويخلط المسائل ببعضها. فالتشيع مدارس واتجاهات منها ما يتوقف عند الفروع ويسمّى الأتباع في هذه الحالة المقلّدون أي الذين يتبعون المجتهد أو المرجع فيما انتهى إليه رأيه ومنهم من يتجاوز ذلك إلى العمل السياسي المباشر الذي هو محلّ خلاف. ففي مسألة ولاية الفقيه مثلا نجد من بين آيات الله في إيران ذاتها من كان معارضا لها كآية الله شريعة مداري الذي سُجن وهو في خريف العمر ودفن في مقبرة بجانب المراحيض فضلا عن إهانته وإحراق مكتبته رغم أنه من أكثر المراجع تقليدا وكذلك الامر بالنسبة لآية الله حسين منتظري الذي عُزل بعد أن كان الرجل الثاني في النظام بعد الخميني لانتقاده الإعدامات التي حصلت سنة 1988 والأمثلة على ذلك كثيرة تندّ عن الحصر. فالشيعة شِيع كما هم أهل السنة والخوارج وغيرهما.
2) التشيّع في شكله السياسي المعاصر لم يظهر لدينا إلا بظهور حركة الاتجاه الإسلامي. فدعاة التشيّع في بلادنا جميعهم مرّوا بالحركة وبزعيمها الذي عرفوه ولكنهم فرّوا بجلودهم منه طلبا للنجاة، يقول مبارك بعداش أحد دعاتهم الأوائل إن علاقة قوية كانت تربطه بالغنوشي وأنه كان الشاهد على زواجه مضيفا: “ومن ألطاف الله أنه لم يتشيّع وإلا لدخل شيعة تونس في مواجهة دموية مع الدولة ومع قطر ومع السعودية والولايات المتحدة الأمريكية”(1) ورغم ذلك فقد صوّت الشيعة في انتخابات 2011 للنهضة وفق ما جاء على لسان بعداش في نفس التصريح(2). فالوشائج والارتباطات موجودة ووثيقة تظهر وقت الحاجة.
3) لعبت حركة الاتجاه الإسلامي دورا كبيرا في نشر المذهب الشيعي في نسخته الإيرانية من خلال:
* مجلة “المعرفة” التي خصّصت أعدادا كاملة للاحتفاء بالثورة الإيرانية وبالخميني بالذات حيث أفردت له غلافات ثلاثة أعداد واحد منها اعتبرته من ضمن قادة الحركة الإسلامية بعد حسن البنا والمودودي. كما رشحته لجائزة الملك فيصل الإسلامية. وفي عدد آخر عنونت غلافها بما يلي: “الرسول ينتخب إيران للقيادة” فضلا عن المقالات الموزّعة في ثنايا المجلة ومن بينها مقالات كركر عن رحلته لإيران والتعريف ببعض الكتب الشيعية السياسية.
* قامت دار نشر “الراية” التابعة للحركة ودارا “الجديد” و”البراق” التابعتان لِما يسمّى اليسار الإسلامي بنشر الكتيبات الإيرانية لعلي شريعتي وباقر الصدر ومنتظري ومجاهدي خلق وغيرهم وقد وصل الأمر إلى حدود توفير الكتب التي تصدر في إيران وتروّج للخميني وولاية الفقيه مصوّرة لبيعها في مكتباتهم.
* أما اليسار الإسلامي الذي يرأسه احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي فقد لعب دورا أساسيا في الترويج لولاية الفقيه وللفكر السياسي للخميني خصوصا عبر مجلتهم 15/21 التي لا يخلو عدد منها من نص للتعريف بهذه الشخصية أو تلك من ذلك إجراء الجورشي حديثا مع زوجة علي شريعتي وتخصيص ملفات كاملة للمسألة.
4) الوحيد الذي تصحّ تسميته بالشيعي الخميني في تونس هو في تقديرنا الغنوشي لأنه يؤمن ويطبّق ويلتزم بأهم أساسين من أسس العقيدة الشيعية في صورتها الخمينية بتوسّع منه يلائم عقيدته الوهابية وهما:
* ولاية الفقيه التي تعني ولاية ينوب فيها الولي الفقيه الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة الحكم الإسلامي وهي ولاية عامة والناظر في المثال الإيراني يلحظ أن الولي الفقيه هو الحاكم الفعلي للدولة وأنه صاحب القرار فيها ولكنه لا يُسأل عن نتائج قراراته ولا يُحاسب عليها. فلو عدنا إلى تونس للاحظنا أن الغنوشي يمارس نفس الدور. فهو الذي يرأس الحركة منذ نصف قرن ورغم طول المدة ورغم الخيبات والهزائم فإنه لا يتحمل أية مسؤولية ولم يحاسب على ذلك تماما كأنه خميني حركة الاتجاه الإسلامي. ويكفي أن تقارنوا بين القانون الأساسي للحركة المنشور في كتابه عن الحريات في الدولة الإسلامية والدستور الإيراني.
* التقية وهي أن يُظهر الإنسان غير ما يُبطن وهو ما اصطلح عليه لدينا بالازدواجية في الخطاب وقد حاز فيها الفرع المحلي للتنظيم الدولي للخوانجية قصب السبق فلا تكاد تعثر لدى المنتمين لهذه النِحلة وقادتها على ثبات في موقف أو قول واحد في أية مسألة من المسائل. والذي يجب أن نضعه في الاعتبار أنه يُقصد بالتقية لدى الشيعة حفظ النفس ودفع الضرّ بإخفاء الإيمان وإظهار الكفر ولا يُلجأ إليها إلا وقت الاضطهاد الديني. أما الجماعة لدينا فإنهم توسّعوا في استعمال التقية التي أصبحت مساوية للنفاق لأن القصد منها لديهم ليس دفع الضرّ بل جلب المصالح بالكذب على الآخرين والتحيل عليهم.
5) أما خامسة الأثافي فقول الغنوشي إن لفظ “دعاة” لفظ شيعي والحال أنه أشاع خلال المؤتمر العاشر لحركته فرية الفصل بين الدعوي والسياسي. فهل كان قبل ذلك شيعيا لأنه يستعمل مصطلح الدعاة؟ هذه الأولى… اما الثانية فقد ورد فعل “دعا” بمشتقاته في القرآن في 210 آية فهو إذن لفظ قرآني بحيث يصبح إسناده إلى التشيّع مندرجا ضمن المناكفة السياسية لا غير. ثم هل كان الهضيبي المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين شيعيا لمّا كتب كتابه “دعاة لا قضاة”؟.
والذي نخلص إليه أن الغنوشي بعد أن فشل في مخطّطه الرامي إلى إحداث فتنة داخلية مفتعلة بين الكفار والمؤمنين انتقل إلى الخطة البديلة وهي إيجاد صراع مذهبي بين السنّة والشيعة والمسألة على غاية من الخطورة لأن الغنوشي الى حدّ اليوم يتصرّف في المؤسّسات الدينية للدولة التي تدين له بالولاء والطاعة وهي مستعدّة إلى إشعال نار هذه الحرب تحت ستار الدفاع عن إسلام مالك والأشعري مصحوبين بالجنيد السالك كوزارة الشؤون الدينية وجامعة الزيتونة وبؤرة القرضاوي التي شنّ صاحبها حملة على الشيعة وعلى مفهوم التقارب بين المذاهب. بالإضافة إلى الجمعيات المشبوهة تمويلا ونشاطا، لم تكن كلمات الغنوشي القليلة موجّهة إلى الخارج فحسب بل هي موجّهة أساسا إلى الداخل لحشد الأنصار تحت شعار مقاومة التشيّع. فالحذر كل الحذر واجب لأن الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة تقتضي إخراج الدين المسيّس من الفضاء العام المشترك خصوصا منه السني ممثلا في حركات الإخوان المسلمين وما تناسل منه والشيعي ممثلا في ولاية الفقيه وامتداداتها التي هي النسخة الفارسية من الإسلام.
الهوامش
1) جريدة “حقائق” العدد 185 بتاريخ 2 مارس 2012 ص6.
2) نفس الجريدة ص7.
نُشر بصحيفة “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 22 فيفري 2022