الشارع المغاربي: ينتابني شعور غريب بأنّني أضعت وقتا طويلا جدّا ودون فائدة في قراءة نظريّات الدولة ومحاولة فهمها وفكّ رموزها الفلسفيّة والقانونيّة والاجتماعيّة والسياسيّة المعقدّة والمتشابكة كلّما مررت مثلا أمام مركز البريد في الفترات الّتي تصرف فيها جرايات المتقاعدين بالخصوص، وأرى ازدحام المتقدّمين في السنّ وأغلبهم صرف سنين عمره في عمل ما حاول من خلاله، عن وعي أو عن غير وعي، المساهمة في بناء فكرة لم يرها يومًا وقد يكون لم يسمع بها مطلقا هي تلك الفكرة المجرّدة الّتي نطلق عليها اسم “الدولة”. والحقيقة أنّ المثال الّذي أشرت إليه، ويبدو بسيطا جدّا بالنسبة إلى الكثيرين، يمكن تعميمه على كافّة مناحي الحياة اليوميّة ممّا يؤدّي بشكل ما إلى حديث عن متكرّر عن “غياب الدولة”. إنّ هذا الغياب لا يستقيم منطقيّا، إذ الأفكار موجودة دائما بالقوّة ولكنّها تصبح في الأذهان غائبة أو غير موجودة إذا لم تتعدّ إلى مستوى الفعل الوظيفي، أي المهمّة الّتي تضطلع بها الفكرة في الوجود الاجتماعي. وبناء على ذلك فإنّ أيّ فكرة إذا لم تحقّق وجودها بين النّاس تكون في نهاية المطاف مجرّد إشاعة.
وبمناسبة “الإشاعة”، في هذا المقام تذكّرت نصّا قديما كتبه رشدي معلوف، وابنه أمين أشهر منه، سنة 1954 عنوانه “دولتنا إشاعة”، وطبعا كان يتحدّث عن لبنان في تلك الفترة فيقول في مطلع نصّه: “أنا ”أتحدّى“ من يستطيع أن يذكر لي شيئاً في لبنان يدل على وجود دولة ما عدا كثرة الموظّفين طبعًا”. وبعد أن عدّد مظاهر حضور الدولة في بلدان أخرى يقول ساخرا: “على أنّ هذا لا يعني أنّنا لا نتذكّرها كما تتذكر سائر الشعوب دولها! فنحن نتذكّرها في مناسبات عدّة: نتذكّرها كلّما وقعنا في حفرة، وكلّما وصلنا إلى مكان ليس فيه ماء، وكلّما رأينا كهرباء ليس فيها ضياء… ونتذكّرها كلّما دفعنا أقساط أولادنا المدرسيّة، وكلّما اشترينا دواء، وكلما هاجر فوج منّا، وكلّما رأينا جبلاً أقرع، وكلّما ركبنا تاكسي، وكلّما طلبنا مخابرة، وكلّما سمعنا إطلاق النار في حفلة… ولكنّنا نتذكرها لا لنشكر الله على كونها موجودة، بل لنرتكب أمام الله ”خطيئة جديدة“”. ويمكن تعديد الأمثلة على مناسبات “حضور الدولة” على هذه الشاكلة الأخيرة إلى كلّ ما يمكن تصوّره إلى الحدّ الّذي يتمنّى فيه المرء أن تمّحي معه “فكرة الدولة” أصلا وتكون نسيّا منسيّا.
ولكن لنتوقّف قليلا، هل الدولة فعلا هي على الشاكلة الّتي أصبحت عليها عندنا منذ عقود الآن؟ أم هي تشويه لفكرة إنسانيّة في التنظيم الاجتماعي حاكينا بها كلّ أشكال التشويه الّتي دأبنا عليها؟
لن أسعى إلى الإجابة المباشرة على الرغم من وضوحها، ولكن لننظر حولنا وبعيدا عمّا يُعتبر من “القضايا الكبرى” كالتخطيط الاستراتيجي والعلاقات الدوليّة والاقتصاد والانتخابات والنظام السياسي والقوانين والدساتير وغير ذلك من القضايا الّتي أصبحت محلّ تحليل ونقاش من أيّ كان وفي كلّ اتّجاه، لننظر مثلا في مجالات من قبيل الرياضة في تونس وما يرتبط بها من تغطية إعلاميّة وبرامج تلفزية وغيرها سنلاحظ بيسر أنّ ما نشاهده لا علاقة له بالرياضة إذ لا حديث إلاّ عن مشاكل التحكيم والقضايا المرفوعة أمام القضاء والخصومات بين المسؤولين في الجمعيّات الرياضيّة وهذا أمر نعيشه منذ سنوات طويلة. وكذا الأمر مع المجال الفنّي والثقافي الّذي احتكرته الشتائم التافهة بين أشخاص ينتجون الرداءة، وأخبار زواج وطلاق الفنّانين والفنّانات وصنّاع المحتوى الّذي لا قيمة له. ولننظر أيضا في البرامج الترفيهيّة والمنوّعات الّتي تبثّها القنوات التونسيّة الّتي أصبح شغلها الشاغل البحث المحموم عن الفضائحيّة وإشعال الخصومات بين هذا وذاك والقدرة العجيبة على لفّ أكبر المواضيع الاجتماعيّة أو غيرها بقماش السطحيّة والتفاهة والانغلاق أيضا. ويمكن أن نقيس العديد من المجالات الأخرى على ذلك، فما الدّاعي أن نستثني المجال السياسي ممّا تمّ الانحدار إليه؟ وهل يمكن أن تكون تلك المجالات الّتي أشرنا إلى بعضها في وضع أفضل إذا كانت السياسة والسياسيّون بمثل هذا المستوى الّذي نتابعه اليوم وأصبح بدوره فرجة فضائحيّة؟
بصورة عامّة فإنّ المواطنين والمواطنات لا يفكّرون في الدولة نظريّا بل بما تنجزه لهم مؤسّساتها وأجهزتها، وبمن يمثّلها من أصحاب القرار والمسؤولين. وبالتالي فإنّ الصورة الّتي ستنطبع في الأذهان عن الدولة ستكون على شاكلة من يمثّلها وعلى صورة المؤسّسات المنتسبة إليها. ولكن، وفي الآن نفسه، سيسقط المجتمع أشكال علاقاته وذهنيّته على الدولة أيضا، إذ العلاقة بين المجتمع والدولة طرديّة ومتداخلة في مستوى كلّ منهما للآخر إلى الحدّ الّذي يصعب معه تمييز المتسبّب في الانحدار والانحلال والتردّي. والأمر أشبه بذلك الجدل العقائدي المرتبط بحديث “خلق الله آدم على صورته”، وهو جدل دار حول الضمير على من يعود إلى الله أم إلى آدم. وبالمنطق نفسه نستمع أحيانا إلى من يلوم المتذمّرين من الساسة مستنكرًا فيقول: “ومن انتخبهم؟”، والبعض الآخر يستحضر تلك المقولة “كما تكونون يُولّى عليكم”. وفي المقابل نجد من ينصّب نفسه مدافعًا عن المجتمع معتبرًا أنّ سلوكه في وجه من وجوهه يمثّل انعكاسا طبيعيّا للسياسات، وأنّ المجتمع هو في النهاية ضحيّة من جعلتهم الصدفة أو الأقدار حكّاما “يسوسون الناس بغير عقل ويقولون ساسة”.
كلا التفسيرين للوضع الّذي نعيشه له وجاهته، ولكن النتيجة في كلّ حالات واحدة، إذ التفسير قد يعين على الفهم ولكنّه لا يمثّل حلاّ. ستكون النتيجة كارثيّة حين تصبح الدولة فرجة، وهو أمر لمسته فعلا في الأيّام الأخيرة بعد مسألة التسريبات الأخيرة المنسوبة إلى مديرة الديوان الرئاسي سابقا في انتظار استكمال التحقيقات المفتوحة الآن. والحقيقة لم تعنيني صحّة تلك التسريبات بقدر ما لفت انتباهي التفاعل معها لدى عموم النّاس. إنّ اللافت للنظر أنّنا منذ مدّة طويلة نسمع أخبارا خطيرة جدّا في مستوى شبح الإفلاس والتصنيفات الدولية والمؤسسات المانحة وغيرها، لم أر النّاس تلتفت إلى ذلك، ولكن ما أثار انتباههم هو مثل هذه التسريبات لا من جهة خطرها على الدولة بل رأيتهم يتعاملون معها تماما كما يعاملون خبر خصومة على انستغرام بين شخصين أثّث بهما مقدّم برامج الترفيه فقرة من فقرات برنامجه جلبا لنسب المشاهدة وبالتالي للمستشهرين، وهو أمر لم يأت من فراغ بل من أمرين متلازمين:
أوّلا: شكل التسريبات وطريقة إخراجها وقد غلبت عليها القهقهات وهي المنسوبة إلى امرأة شغلت منصبا كبيرا في رئاسة الجمهوريّة. لم تخل الساحة السياسيّة التونسيّة منذ عقود من تسريبات يعلمها القاصي والداني ولكنّها كانت بشكل يتّسم بـ “الجدّيّة” إن جاز القول، ولكنّها في هذه المرّة اقتربت من “برامج الفرقعة الإعلاميّة” المتداولة اليوم، ممّا يجعل السؤال حائرا: كيف يمكن لمن كان في ذلك المنصب أن يتحدّث بذلك الشكل ولو كان في مكالمة شخصيّة؟ الإجابة الوحيدة الممكنة هي أنّنا في مجتمع يحبّ مثل هذه الأجواء على الرغم ممّا يبديه أحيانا من تذمّر من الإسفاف، أو ليست برامج الرداءة هي الأعلى مشاهدة؟
ثانيا: إنّ الدولة وما يدور داخل مؤسّساتها ودواليبها منذ مدّة ليست بالقصيرة أصبح “على قارعة الطريق” وعلى صفحات التواصل الاجتماعي وفي المقاهي والمطاعم، وأصبحت فكرتها النظريّة الأولى المرتبطة بتسيير شؤون المجتمع وإدارة الشأن العام والتخطيط لمصلحتها ثانويّة جدّا بل مغيّبة تماما مع طبقة سياسيّة لم تنجح إلاّ في جعل أعمدة الدولة الضعيفة في مهبّ الرياح العاتية، ولا ندري حقّا هل ستنحني للريح انحاء القصبة أم ستنكسر.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 ماي 2022