الشارع المغاربي: لقد أجمعت العديد من الدراسات المختصة حول دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي تحول بالتوازي مع منظمات أخرى مثل المنظمة العالمية للتجارة إلى أداة لخدمة “النظام العالمي الجديد” و”الشركات العالمية” العابرة للقارات التابعة للقطب الغربي الأمريكي – الأوروبي – الآسيوي” لفرض توجه اقتصادي أحادي “نيو ليبرالي” يعتمد تفكيك الدول الوطنية سعيا للتدخل الاقتصادي المباشر في الدول النامية والفقيرة عبر استثمارات تؤدي إلى التبعية.
ومن علامات هيمنة “النظام العالمي الجديد” على المؤسسات المالية الدولية استفراد الولايات المتحدة الامريكية بتعيين شخصية أمريكية على رأس البنك الدولي والتوافق على تعيين شخصية أوروبية غالبا ما تكون فرنسية على رأس صندوق النقد الدولي.
حيث اعتبر المفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” أن “الشركات العالمية هي أحد أبرز دوائر النفوذ التي تتحكم في هذا النظام العالمي وتعمل عليه”. بما في ذلك داخل المؤسسات المالية بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
وهو ما تجلى عبر دور الشركات العالمية الأمريكية المُصنعة للأسلحة في اتخاذ قرار احتلال العراق بتعلة “أسلحة الدمار الشامل” التي أطلقها “كولين بأول” وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في الأمم المتحدة والذي اعترف بنفسه انها تعلة باطلة. بعد تدمير العراق ونهب ثرواته وقتل ما يفوق المليون عراقي حسب عديد التقديرات.
كما أن الانقلاب العسكري الدرامي الذي حدث في الشيلي سنة 1973 بقيادة الجنرال “أوغستو بينوشي” الذي أطاح وأعدم الرئيس المنتخب ديمقراطيا “سالفادور ألاندي” حيث ثبت وجود تواطئ مباشر بين الاستخبارات الأمريكية والمؤسسات المالية ومجموعة “شبان شيغاقو” “Les Chicago Boys” وهم خبراء اقتصاديين تتلمذوا في جامعة “شيغاقو” على يد “ميلتون فريدمان” “Milton Friedman” بوصفه الآب الروحي للنيوليبرالية. شباب تم توظيفهم في خدمة الدكتاتورية العسكرية الشيلية لاستغلال الثروات المنجمية للشيلي حكرا للشركات الكبرى الأمريكية حيث يعتبر هذا البلد رائدا من حيث احتياطاته الكبيرة من المواد المنجمية الثمينة مثل “النحاس” و”الليثيوم” و”المولبيدينوم” و”المنغنيز” وغيرها من الموارد مثل “اليود” و”الرينيوم” أو “السيلينيوم”.
وقد بشر “ميلتون فريدمان” بالمعجزة النيوليبرالية التشيلية التي تحولت في الحقيقة إلى انتصاب دكتاتورية عسكرية قامعة للحريات والديمقراطية وأدت إلى تعميق التفاوت الاجتماعي حيث حاليا واحد بالمائة من الشعب الشيلي يمتلك ربع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. كما تحولت المرافق العمومية في الصحة والتعليم تقريبا بأكملها إلى القطاع الخاص. وهي ظاهرة مماثلة لما يجري حثيثا في تونس منذ سنة 1987 إلى اليوم.
هذه الأمثلة تبين مدى العلاقة الجدلية بين ما يجري داخل المؤسسات المالية الدولية وكيفية توظيفها من طرف “النظام العالمي الجديد” على مستوى العلاقات الدولية عبر ضغوطات وتداخلات ظاهرها شعارات براقة مثل التنمية الدولية ومقاومة الفقر والبطالة في العالم وتكريس العدالة والحفاظ على البيئة وباطنها الصراع للهيمنة على الأسواق الدولية مما يستوجب تفكيك الدول الوطنية لفسح المجال للنفاذ والسطو على القطاعات العمومية الاستراتيجية والثروات الداخلية.
هذا الأمثلة تبين أن اتخاذ القرارات داخل المؤسسات المالية الدولية أفرز عدة شرائح أغلبها من اصطف قلبا وقالبا حول برنامج هذه المؤسسات من خلال النشاط الدائب لتطبيقه وترسيخه في العالم “بطريقة تعتمد خليطا عجيبا من الإيديولوجيا والنظرية الاقتصادية غير الصائبة ودغمائية تكاد تخفي الحرص على تحقيق المصالح الذاتية”. كما تجرأ على التصريح بذلك “جوزيف ستيغليتز” صاحب جائزة نوبل للاقتصاد.
”جوزيف ستيغليتز الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك، وحامل جائزة نوبل للاقتصاد سنة 2001، شغل بين 1993 و1995 رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة الرئيس الأمريكي كلينتون. ثم عُيّن كبير الاقتصاديين ونائب رئيس البنك الدولي بين 1997 و2000. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية في سنة ،2009 التي تنبأ بها قبل ثماني سنوات على الأقل، تمّ تعيينه رئيسا للجنة خبراء إصلاح النظام النقدي والمالي الدولي. يعد ستيغليتز الاقتصادي الرابع الأكثر تأثيرا في العالم اليوم، كما تم تعيينه من قبل مجلة التايم واحدا من بين 100 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم سنة 2011”.
”جوزيف ستيغليتز” صيحة الضمير وصيحة غضب نقدية ضد العولمة والمؤسسات المالية الدولية
من أشهر مؤلفاته كتابه الصادر سنة 2002 تحت عنوان “الخيبة الكبرى” “La Grande désillusion” الذي اعتبره البعض صيحة “ضمير” وصيحة غضب” نقدية ضد العولمة في الصيغة التي يتم تطبيقها في العالم من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو العليم بأسرارها، حيث اعتبرها سببا في تفقير العديد من البلدان النامية وفي تعميق الفوارق الاجتماعية في البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي.
لقد نبه من التعصب لما يسمى “بتوافق واشنطن” “Le Consensus de Washington” الداعي إلى ليبرالية مفرطة والنافي لأي دور للدولة الوطنية. كما أكد عبر تحاليله أن تحرير الأسواق المالية المتسرع والدفع لوضع اقتصاد الدول تحت سيطرة البنوك مثلما يجري اليوم في تونس وفي العديد من البلدان المتأزمة تحت ضغط صندوق النقد الدولي أدى إلى اندلاع أزمات مالية واجتماعية خطيرة مثلما يجري اليوم في مصر ولبنان والأردن والسودان وغيرها. مما يدل أن نفس الوصفة تؤدي إلى نفس النتائج الكارثية.
كما بين أن الصين وماليزيا تمكنتا من تفادي هذه الازمة في أواخر التسعينات لأنها رفضت الانصياع وقررت سياديا الإبقاء على مراقبة صرف العملة ورؤوس الأموال في خطوة مخالفة لإرادة الخزينة الأمريكية ولمناصريها في سوق “وول ستريت”.
كما أكد أن التركيز على ضرورة تشديد الرقابة على البنوك لتحصينها لم يشفع للأرجنتين التي انهارت مصارفها لأنها لم تكن تساهم في نشاط القطاعات الاقتصادية المحلية. وهو الخطر الذي يحدق بالبنوك التونسية حاليا.
”رافائيل وكوريا” اختار الانحياز للوطن) الأكوادور) ومجابهة البنك الدولي
”رافائيل كوريا” رجل اقتصاد انتُخب رئيسا للجمهورية في الاكوادور بين سنة 2007-2017. اعتُبرت حكومته مثالا يحتذى به عندما اتخذ قرارا سياديا بفتح تحقيق حول المديونية لكشف الحقائق حول الديون غير القانونية. حيث قرر بعد التحقيق وقف خلاص جزءا كبيرا من الديون التجارية وعكف على شراء هذه الديون بمبلغ زهيد. وقام في سنة 2009 بإعادة هيكلة جزء يعد %40 من الدين الخارجي بطريقة أحادية مكنته من الانتصار على الدائنين الخواص أغلبيتهم من البنوك ومن صناديق الاستثمار الأمريكية.
كما حقق ارتفاعا هاما في المداخيل الجبائية من 3,5 مليار دولار سنة 2006 إلى 13,5 مليار دولار سنة 2014. كما شهدت البلاد تراجعا هاما لنسبة الفقر من %36,7 سنة 2007 إلى %22,5 سنة 2014 حسب تقرير للبنك الدولي بالتوازي مع تراجع لنسبة البطالة إلى أدنى مستوى في حدود %4,1.
عندما سُئل كيف نجح في تحقيق كل هذه الإنجازات في وقت وجيز أجاب ببساطة “لم أطبق إملاءات صندوق النقد الدولي” كان ذلك اثناء ندوة ألقاها في جامعة “السوربون” بباريس سنة 2012.
كيف يمكن أن نقيم موقف نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط في تونس
في ضوء ما سبق تقديمه حول دور المؤسسات المالية في البلدان النامية يحق لنا أن نقيم مواقف نائب رئيس البنك الدولي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط الحالي الذي تميز باندفاع غير محدود إلى تطبيق شروط المؤسسات المالية الدولية التي تتلخص في فرض:
- سياسة تقشف عبر رفع الدعم ووقف الانتداب والضغط على الأجور في بلاد لا يتجاوز الأجر الأدنى فيها 500 دينار بدون اعتبار انهيار الدينار من 1,119 لليورو الواحد سنة 2002 إلى 3,3 دينار مقال اليورو حاليا؟
- عدم اعتماد المقارنة الموضوعية التي يطبقها الينك الدولي عبر مقارنة تكافئ القدرة الشرائية “Parité au Pouvoir d’Achat PPA” حسب الأجور والأسعار وسعر صرف العملة؟
- على هذا الأساس اعتبار كتلة الأجور مفرطة في تونس هو تصريح مجانب للحقيقة خاصة إذا ما علمنا أنه في تونس عدد الوظائف العمومية لكل ألف ساكن لا يتعدى 56 موظف مقابل 89 موظف في فرنسا مثلا حسب دراسة لوكالة التعاون والتنمية الاقتصادية “OCDE”.
- ان لتأكيده الملح على ضرورة تشجيع القطاع الخاص حصريا في غير محله لأن تقارير البنك المركزي السنوية تبين أن القطاع الخاص في تونس يتحصل على %90 تقريبا من القروض البنكية الجارية المسندة للقطاعات الاقتصادية من بينها 53 تستفرد بها المجموعات الكبرى وهي بضعة عائلات. غير أن مردود القطاع الخاص لا يوفر مواطن شغل كافية (بين 12 ألف و20 ألف موطن سنويا في أحسن الأحوال) ولا يصدر لتغطية العجز التجاري الكارثي. حيث ينشط بالأساس في التوريد (عبر انتشار النيابات الخارجية في جميع القطاعات) وهو نشاط يعرض البلاد إلى تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج عبر الترفيع في فواتير التوريد كما تبين من عديد الدراسات الجدية (PERI معهد الدراسات التابع لجامعة ماساتشوستس الأمريكية)
- مع التذكير ان القطاع العمومي لا يتحصل إلا على 8 مليار دينار من مجموع 88 مليار دينار من بين القروض الجارية. مقابل 80 مليار دينار للقطاع الخاص.
- لذلك نعتبر أن السيد فريد بالحاج يتغافل تماما عن التعرض إلى النزيف الذي يعاني منه الاقتصاد التونسي من عجز تجاري مفرط ومهلك وصل إلى حدود 38,7 مليار دينار سنة 2022 ما يعادل 12 مليار دولار أمريكي. بمعنى 57,2 مليار دينار توريد مقابل 18,5 مليار تصدير أي تغطية بنسبة %32 تقريبا.
- خاصة وأنه يعلم جيدا، كما نعلم نحن، أن الميزان التجاري وميزان الدفوعات تشوبها عملية تزوير للتقليص من حدة العجز التجاري خاصة مع بلدان التحاد الأوروبي لأنه لا يعتمد النشرية السادسة لدليل ميزان الدفوعات “La 6ème Edition de la Balance de Paiement BPM 6” الصادرة عن صندوق النقد الدولي سنة 2009 والمصادق عليها من طرف البنك الدولي والأمم المتحدة ومن طرف كل بلدان العالم بما فيها تونس. والتي تم اعتمادها رسميا منذ سنة 2010 في تحديد إحصائيات التجارة العالمية وتحديد نتائج المحاسبة العمومية. وهو دليل ينص على عدم احتساب المبادلات الخاصة بالمناولة في حالة عدم تغيير ملكية البضاعة وهو حال الواقع في تونس.
- هذا الموضع الهام تم طرحه مباشرة امام ممثل صندوق النقد الدولي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط واعترف بواقع الحال في تونس وما زلنا نترقب الرد؟
- عدم الاعتراف بوجود تهريب لرؤوس الأموال من خلال البنك الدولي حسب ما صرحتم به على قناة تلفزية خاصة هو تصريح يتنافى مع الحقيقة بالرجوع إلى التقرير الصادر عن البنك الدولي في فيفري 2020 بعنوان “هل تستحوذ النخب على المساعدات الخارجية؟ الدليل من خلال المصارف غير المقيمة ” “Capture d’élite de l’aide étrangère : preuves provenant de comptes bancaires offshore” Jorgen Juel Andersen, Niels Johannesen et Bob Rijker.
هو تقرير بين ان هناك ما بين %5 إلى % 15 بالمائة من الهبات التي تسلم من طرف البنك الدولي للبلدان الأشد احتياج يعثر عليها بعد وقت وجيز مودعة في بنوك خارجية في بلدان تعتبر ملاذ تهريب. لا يخفى عليكم أن هذا التقرير قد اسال ه الكثير من الحبر داخل ابنك الدولي.
- في خضم كل هذه المآخذ لابد من ذكر المبالغ التي يتكرم بها البنك الدولي من قبيل 120 ألف الدولار التي أعلن عنها نائب رئيس البنك الدولي اثناء زيارته الأخيرة وهو حسبما يبدو في الحقيقة قرض في شكل خط تمويل للمؤسسات الخاصة يمر عبر البنوك المحلية التي تتكفل بتوزيعه حسب الشروط والضمانات المطلوبة. إذا ما علمنا أن الغالبية العظمى من المؤسسات الصغرى والمتوسطة مصنفة درجة رابعة لدى البنوك فإن هذه القرض سوف يتحول كسابقيه حتما للمجموعات الكبرى. وهكذا يتبين خطر القيود والشروط المفروضة على المصارف لاستبعاد المؤسسات الصغرى من استعادة نشاطها في البلاد.
مآخذ عديدة من المفروض أن تكون محل نقاش راق وحر وديمقراطي وموضوعي يقدم الرأي والرأي المخالف من طرف وسائل الإعلام التونسية التي مع الأسف تخير الحوار الفردي الأحادي الذي يكرس الرأي الأحادي من قبيل “لا أريكم إلا ما أرى”.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي”الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 فيفري 2023