الشارع المغاربي: حالما استلمت حركة النهضة الحكم عملت على تمكين التيارات والجمعيات التي تشترك معها في فضاء الخلط بين الدين والسياسة من الرخص القانونية التي تفتح لها الأبواب مشرّعة للعمل داخل المجتمع بلا قيد أو شرط. فبعد أن أسندت لنفسها التأشيرة في تجاوز صارخ للقانون خلال فترة الفوضى العارمة سنة 2011 مكنت الأحزاب الإسلامية التالية من الصفة القانونية وهي تيار المحبة وحزب الزيتونة وحزب العدل والتنمية وحزب الإصلاح الديمقراطي والحزب الإسلامي التونسي وحزب الوحدة وجبهة الإصلاح وحزب الأصالة وحزب الرحمة وحزب التحرير الى جانب العشرات من الجمعيات الإسلامية تحت مسميات مختلفة.
غير أن تأثير هذه الأحزاب رغم كثرتها العددية في الساحة الإسلامية محدود وغير ملحوظ لأن حضور حركة النهضة كان طاغيا. إلا أننا لاحظنا بعد 25 جويلية 2021 أن رابطة تونس للثقافة والتعدّد وحزب التحرير ظهرا على سطح الأحداث وأصبحا محلّ متابعة لصيقة من قبل متعاطيي الشأن السياسي والثقافي نظرا لعلاقتهما الوطيدة برئيس الدولة. فبالنسبة للرابطة لعب شقيق الرئيس دورا محوريا في تأكيد هذه الحقيقة. أما بالنسبة لحزب التحرير فشاهدنا صورة قيس سعيد قبل الحملة الانتخابية لسنة 2019 صحبة أحد قادة حزب التحرير الذي لم يتوقف عن الدفاع عن السياسات التي انتهجها جليسه في ما بعد، وهو أمر ما كنّا لنعيره اهتماما لولا الحماية السياسية والإعلامية والأمنية التي أحيط بها مؤتمر هذا الحزب مؤخرا. فأمنيا مُنع الحزب الدستوري الحر المعترض على عقد المؤتمر من الاقتراب من مكان انعقاده كما رُفضت قضية رفعها في هذا الشأن. وإعلاميا أصيبت كل الإذاعات والقنوات التلفزية بالخرس ولم تجرأ أية واحدة منها إلا من رحم ربك بتخف واحتشام على إثارة الموضوع رغم أنه مَثّل الحدث الأهمّ والأبرز خلال الأسبوع الماضي ممّا ستنجر عنه تبعات خطيرة على الوطن وعلى مستقبله. أما الحماية السياسية فهي ظاهرة للعيان عبر الارتباط الوثيق بين ما يروّج له حزب التحرير وسياسات رئيس الدولة التي تكشف لنا حقيقة قناعاته. فقد أثبتنا في مقالات سابقة أن رئيس الدولة ينتمي عقَديا إلى فضاء الإسلام السياسي دون أن يكون منضمّا الى حزب أو حركة ولكنه يلتقي معها وتراه مرة مع هذا الطرف وأخرى مع الطرف الآخر. فبالنسبة للنهضة يلتقي معها في حماية بؤرة القرضاوي والجمعيات المتناسلة منها. أما بالنسبة لحزب التحرير الذي خصصناه بهذا المقال فلن نتعرض لأرائه المعادية للديمقراطية ولدولة الاستقلال والحداثة ممّا يضعه في خانة التنظيمات التي تمثل تهديدا للسلم الأهلي لأن مواقفه أصبحت معلومة ومتاحة للجميع ولن تمثل إضافة في ما نحن فيه. فالأهم بالنسبة لنا في هذه المرحلة كشف حقيقة العلاقة بين قيس سعيد وحزب التحرير بما توفر من معطيات:
1) حزب التحرير حزب انقلابي يستهدف إقامة دولة الخلافة بأسرع وقت ممكن وبأية طريقة كانت. فهو لا يؤمن بالعمل الحزبي ولا بالمؤسّسات والنقابات والجمعيات الوسيطة ويعتبرها مضيعة للوقت ولا تؤدي إلى أية نتيجة سوى إطالة عمر النظام. ولهذا السبب لا نجد في دستورهم أي فصل يتعلق بالعمل النقابي أو بالجمعيات المدنية اللتين يعتبرهما أداة لكشف الناشطين ممّا يعرقل الوصول إلى هدفهم الاستراتيجي. والناظر في تجربة هذا الحزب بتونس يلحظ ذلك مليا إذ أستطيع من خلال تجربتي الشخصية أن أؤكد هذا المعنى. ففي أواخر سبعينات القرن الماضي كنت أدرس في كلية الشريعة وأصول الدين. أيامها تعرفت على زميل هو في الأصل أستاذ تربية بدنية قدم من ألمانيا اسمه الفاضل شطارة، لم يظهر منه أيامها أي انتماء سياسي محدّد. ففي أحاديثنا معه لم يكن يتجاوز ما درجنا على سماعه من شيوخنا مع إلحاح بسيط على الجانب السياسي. إلا أنني في سنة 1983 وبعد مغادرة الكلية علمت بمحاكمة الفاضل ودوره المحوري في الاندساس في الجيش الوطني وتجنيد عناصر منه لصالح حزب التحرير. قال الجورشي: “معظم الذين تم اكتسابهم من هذا التنظيم أكدوا أن التحاقهم به حصل بعد سنة 1981 وأن ما اعتبرته السلطة اجتماعا تأسيسيا للجنة المحلية للحزب بتونس قد حصل في شهر جانفي 1983 وأنه باستثناء الملازم أوّل محمد علي بوعزيزي الذي تمّ الاتصال به باليونان سنة 1980 من طرف اللجنة المحلية هناك فإن بقية العسكريين انخرطوا بعد ذلك بعام في هذه التشكيلة”(1). وقد مثّل الاندساس في المؤسّسة العسكريّة أحد أهمّ أسباب محاصرة هذا الحزب بمنعه من التأشيرة القانونية ومحاكمته في مختلف البلاد العربية إذ حوكم في تونس سنوات 1983 و1986 و1990 و2006 وفي مصر سنة 2002 وفي الأردن سنة 2014 وفي المغرب سنة 2012 وفي السعودية سنة 1995 وفي ليبيا سنة 1973. وحدها تونس من بين الدول العربية هي من مكّنت هذا الحزب خلال حكم النهضة من الرخصة في مخالفة صريحة للقانون وتهديد مباشر لسلامة جيشنا الوطني من أن يقع الانحراف به لا قدر الله عن مهامه الأساسية ممثلة في الحفاظ على وحدة الوطن وحماية حدوده. يقول رضا بلحاج: “لكننا لم نُسأل عن أفكارنا وقناعاتنا… والتقينا يوم أمس السيد لطفي زيتون وسلمونا الترخيص القانوني”(2)، وقد أثبتت التجربة السياسية لحزب التحرير أنه الى جانب استهدافه المؤسّسة العسكرية يرفض التعامل مع كافة تشكيلات وتنظيمات المجتمع المدني لأنه يعتبر أن التغيير يكون من أعلى بعد استلام السلطة عبر انقلاب عسكري أو عبر مساندة من “يمثل فرصة متاحة لإعلان دولة الخلافة انطلاقا من رئاسة الجمهورية”(3) كما ذكر ذلك المنشق عن النهضة محمد الحبيب الأسود في مقال له. حول هذه النقطة بالذات يلتقي قيس سعيد بحزب التحرير حيث نلاحظ من خلال سياسات رئيس الدولة أنه هو الآخر يرفض التعامل مع الوسائط إذ لم يتوقف عن اتهام الأحزاب التي عارضته بالعمالة واللاوطنية وبخدمة أجندات أجنبية وحتى الأحزاب التي ساندته في 25 جويلية 2021 أهملها وطرحها جانبا فضلا عن إغفاله التعامل مع المنظمات المهنية التي ناصبها العداوة كما هو حاصل مع اتحاد الشغل الذي لم يتوقف عن مغازلة الرئاسة ومحاولة فتح أبواب الحوار معها إلا أن ردّ الرئيس كان دائما وأبدا زيارة ليلية إلى وزارة الداخلية أو الى ثكنة الحرس الوطني وهي المؤسّسات التي تمسّ الحكم مباشرة وتحفظ أمنه. ومن خلالها وعبر المراسيم يمكن التسريع في أسلمة الدولة والمجتمع دون حاجة إلى أحزاب واتحادات وما شابهها وفي ذلك يلتقي الرئيس بحزب التحرير.
2) يسعى حزب التحرير إلى استعادة الخلافة ويبدو أنه يشترك في هذا المطلب مع رئيس الدولة الذي أظهر ما يفيد بذلك في لقاء له برئيسة الحكومة حيث استشهد بمقال نشر سنة 1955 للشيخ محمد البشير النيفر عنوانه “فصل الدين عن الحكومة” ردّا على الوثيقة السياسيّة التي صدرت عن مؤتمر عقده شباب الجامعة الدستورية في الحي الزيتوني طالبوا فيه بأن ينصّ الدستور على نظام لائكي للحكم(4). ومن بين ما جاء في الجزء الثاني من هذا المقال: “حكومة ترتبط بالدين كمال الارتباط والتلازم بينهما كالتلازم بين الصورة وظلّها ولا يحاول أن يفرق بينهما إلا الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض”(5). أما الجزء الأوّل فقد خصّصه النيفر لشتم كمال أتاتورك وكل إصلاحاته بما لا يختلف في شيء عمّا صدر في السنوات الماضية ليوسف القرضاوي في كتابه “التطرف العلماني في مواجهة الإسلام، نموذجَا تركيا وتونس”. والذي نخلص إليه أن الخلافة مطلب أساسي لكلّ دعاة الإسلام السياسي. فالغنوشي يقول: “إن الخلافة أي الإطار السياسي الموحّد الذي يلتقي فيه مفهوم الأمة مع مفهوم الدولة والسياسي بالديني وهو الثمرة الطبيعية لعقيدة التوحيد الإسلامية تبقى هدفا لجهاد الأمة لا يحلّ ولا يصلح لها التنازل عنه بل ينبغي السعي إليه بتدرّج عبر أشكال مرنة من الوحدة”(6) الأمر الذي يعني أن مطلب إقامة الخلافة مطلب مشترك بين حزب التحرير والنهضة وقيس سعيد. وممّا يؤكد أن رئيس الدولة مشمول بهذا التوصيف إدراجه في الفصل الخامس من الدستور الذي كتبه أنه على الدولة تحقيق مقاصد الشريعة وهو قيد نلحظه في دستور حزب التحرير الذي ينصّ في فصله الأوّل على أن: “العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة بحيث لا يتأتى وجود شيء في كيانها أو أجهزتها أو محاسبتها أو كل ما يتعلق بها إلا بجعل العقيدة الإسلامية أساسا له وهي في الوقت نفسه أساس الدستور والقوانين الشرعية بحيث لا يسمح بوجود شيء ممّا له علاقة بأي منهما إلا إذا كان منبثقا عن العقيدة الإسلامية”. بجانب هذا نجد أن الرئيس لم يذكر في دستوره الذي نشره سنة 2022 مصطلح مدنيّة الدولة التي تقوم على أساس المواطنة واحترام القانون بصرف النظر عن بقية المحدّدات الأخرى كالدين والعرق واللون وغيرها. هذا المعنى كان موجودا في الفصل الثاني من دستور 2014، وفي تقديرنا أن هذا الإلغاء مقصود حتى يترك الباب مفتوحا للأسلمة. كما يوحي بأننا مقدمون على تغييرات قد تطال طبيعة المهام التي تقوم بها الدولة والبنية المجتمعية من ناحية العلاقات بين أفرادها وموقع المرأة وغير ذلك مما لا يتلاءم مع المقاصد الشرعية الواردة في الفصل الخامس.
فالحذر كل الحذر.
———————
الهوامش
1) “ملف حزب التحرير لم يغلق، لينته الحوار المكبوت” صلاح الدين الجورشي، جريدة “الرأي” العدد 222 بتاريخ 2 سبتمبر 1983 ص4.
2) جريدة “المغرب” بتاريخ 18 جويلية 2012 ص8.
3) جريدة “الصباح” بتاريخ 11 أوت 2011، مقال “حزب التحرير… إلى أين؟”
4) “المجلة الزيتونية” المجلد التاسع العدد الرابع سنة 1955 ص220 وما بعدها.
5) “المجلة الزيتونية” المجلد التاسع العدد السادس سنة 1955 ص300.
6) “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص364.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 مارس 2023