الشارع المغاربي: لسنا من الذين يصدّقون دوما نتائج سبر الآراء. لكننا نقف دوما على أسباب التّصديق لعمليات سبر الآراء التي تُجمع على أن راشد الغنوشي هو في صدارة من يمقتهم الشعب التونسي. ففي كل مناسبة يكشف الغنوشي عن الوجه الذي جلب له مقتَ أغلب شعب تونس. ومن هذه المناسبات خطبتُه الأخيرة بمناسبة الوقفة الإحتجاجية الفاشلة التي نظمتها “جبهة الخلاص” ورديفها “مواطنون ضد الإنقلاب”.جلس الغنوشي خطيبا. وفي خطبته تزييف ومراوغة وتلفيق. وبقدر من التفاؤل الوهمي، رسم خريطة طريق ينوي الإهتداء بها في الأفق القريب.
1/ في مناسبة الخطبة
ليست تلك الوقفة الإحتجاجية بالوقفة الاستثنائية. هي تكرار لسوابق لها وإن كانت دونها حضورا. لكن الغنوشي أقام على تلك الوقفة خطبة كثيفة الألغام، فيها ما يوحي باستعادة الروح بعد انكسار، سواء من حيث ما جاء فيها أو من حيث نبرة الصوت. رأى الغنوشي في ما شاع عن”مرض” قيس سعيد و”وضعه الحرج” فرصة انقضاض على اللحظة. وقد صرفَه هاجس الإتقضاض عن وجوب التريث والتيقن من الإشاعة أو من طبيعة المرض إن صحّ. فهذا الشأن من اختصاص الجهة الرسمية. وفوق ذلك ، ليس من الأخلاق استباق ما لم يحدث ، لا سيما في مثل هذه الأحوال، وليس منها الإحتفاء الضمني به. فسعيد الذي لم ننقطع عن نقد مساره، ليس وجيها أن يجعل الغنوشي من مرضه المفترض مطية سياسية رخيصة استبق بها ، بانتهاز بائس، إلى ما بعد هذه مرحلة. فقد رسم في خطبته خطة متكاملة من جهة خطابها القادم ومن جهة علاقاتها السياسية المقبلة.
/2 الحرية”و”الديقراطية”
في تلك الخطبة رأى الغنوشي نفسه، مرة أخرى، مركز المشهد السياسي ومهندس مساره القريب المباشر. رأى نفسه مستأنفا”للديمقراطية”و”الحرية” بعد مرحلة”الإنقلاب المعزول” بعبارته، وبعد مرحلة ” نزول” عنها مَثّلها الخامس والعشرون من جويلية الذي صارت به تونس تحت “حكم الدكتاتور”. وعلى ذلك أنشأ غزلا بثالوث” الحرية والديمقراطية والثورة”. فقد كرر هذه المصطلحات في خطبته التي دامت دقائق معدودات 39 مرة. فهذه المصطلحات هي مرجعه الزائف الوحيد الذي به ينوي رسم ما بعد” انتكاسة 25 حولية “بعبارته.
فقد قال إنه فخور” بالفعاليات الثورية” التي تقوم بها” الجبهة” و” مواطنون”. وهي استئناف “للثورة “و لمزايا “العشرية” التي استقبح أن توسم بغير أنها عشرية “الحرية والديمقراطية والثورية”، وليست عشرية الدمار والخراب والنهب. فلئن قفز سعيد بالثورية من 17 ديسمبر 2011 إلى 25 حولية 2021، فقد قفز بها الغنوشي في خطبته مِمّا بين 14 جانفي 2011 و24جويلية 2021 إلى موفى مارس 2023,، وهذه هي عنده لحظة دفن الرئيس حيا والإتجاه إلى المستقبل القريب الذي يليه، والذي سماه “تاريخا جديدا” من ناحية وإحياءً لعشرية حكمه الزاهية “بالديمقراطية والحرية” من ناحية أخرى. ويكون هذا الإحياء حسب زعمه بمشاركة “شعب تونس الذكي”.
وإلى”المحتجين” في تلك الوقفة بالذات، توجه الغنوسي في خطته قائلا:” إنكم رفعتم رؤوسكم في زمن طأطأت فيه الرؤوس” وإنكم “مستقبل الديمقراطية والثورة” وإنكم ” باكورات ” ذلك المستقبل بعد “الانتكاسة” التي اقتضتها المرحلة الإنتقالية المُعرّضة كما في كل الثورات للنزول.
بهذا القول يُمنّي الغنوسي النفسَ بالانقضاض على اللحظة بكل انتهازية وبؤس أخلاقي. فهو بصدد الإشهار للوحة “بطولات”و رسمٍ لوجوه “أبطال”ينوي استعمالهم في الأفق القريب وإنفاقهم على “الشعب الذكي”، لا باعتبارهم نباتا قميئا ساما عقيما، وإنما باعتبارهم “باكورات”غضة مخصبة. وهو يعد العُدة ليكون قولُه في خطبته محاورَ الخطاب السياسي الذي ينوي ترويجه بعد هذه المرحلة، والذي سيكون مداره على تزيين عشرية الإخوان ليكون منها استئنافُها.
وذهبت وقاحة الغنوشي إلى الأقاصي بأن سمّى عشرية حكمه “مسار انتقال ديمقراطي ناجح”، قياسا على ما يجري في سوريا ومصر وليبيا الخ…لقد تجاهل أن ما يجري هناك من دمار وما جرى و ما كان سيجري إنما هو من تدبير تنظيمه الأم ورعاته الإقليميين والدوليين. وإنّ ذاك “النجاح” المزعوم ينوي الغنوشي، بعد انقطاع فاصل الخامس والعشربن، أن يبعثه وهو رميم. وفي هذا الإتجاه وضع في خطبته تفصيلا لخريطة الطريق.
/3 خريطة طريق الغنوشي
هاهنا اتضحت نوايا الغنوشي بالتفصيل القائمة على وهم الفراغ في رأس الدولة. وأقام ذاك التفصيل على محاور ثلاثة لا جديد فيها إلا سياقها الوهمي. أما المحور الأول فهو تجديده عبثا الثأر من دولة الإستقلال ومن”الدكتاتورية التي بنتها”. وربط تلك الدكتاتورية المنقضية، في رأيه، بالدكتاتورية التي”تحكم تونس” اليوم. وبسفسطة ساذجة مقيتة أقام وصلا بين لحظة الإنعتاق “الثوري”من الدكتاتورية السابقة في جانفي2011 ولحظة استئناف ذلك الإنعتاق من” الدكتاتور الذي يحكم تونس اليوم”. ومثلما نسب عهد ما بعد 2011 إلى”ديمقراطية” تنظيمه طيلة عشرية حكمه، نسب اليوم حرية ما بعد”الإنقلاب المعزول” إلى”الفعاليات الثورية”، تلك التي يعمل على أن يُنفِذ فيها عبثا روحَ تنظيمه مجددا، بواسطة الأغلفة المتهالكة التي تمثّلها الجبهةُ ورديفُها. وإنّ له في ذلك سوابق معلومة.
وأما المحور الثاني فمفاده أن زمن”الدكتاتور وتمركز السلطة” هو بصدد الإنغلاق بعد أن قاومه”الثوريون ودعاة الحرية”مقاومةً تترجم إرادة الشعب واستعار من”ماركس” دون تصريح فكرةَ أن”الشعوب لا تطرح على نفسها إلا القضايا القادرة على حلها”. فالرجل ثوري يستدعي مراجع الثورية!. وبهذا الربط السفسطائي بين إرادة الشعب التي في ذهنه وأصحاب “الفعاليات الثورية” حاول الغنوشي عبثا أن يزين هؤلاء وإن يلمّع الموقوفين الذين هم على الجملة منهم، على أساس أنهم جميعا طليعة مناضلة باسم “الشعب الذكي” الذي سيزكيهم بعد هذه المرحلة تزكية يستعيد بها الغنوشي، كما يتوهم، صدارته في الحياة السياسية.
وأما المحور الثالث فهو إخواني الروح نهضاوي المعنى. قال في شأنه الغنوشي إن هذه المرحلة الموالية لسعيد هي إيذان ” بالاجتماع على الحرية” وعلى” كيف تكون تونس لكل التونسيين” ، بعيدا عن ” الروح الإقصائية”. فبهذا الرسم للخريطة الوهمية، يستعد الغنوشي ليجد لتنظيمه محلا بعد أن لفظه التونسيون ، وسبيله إلى ذلك هو التنكر في جملة من الكيانات التي يُموّه بها قبل أن ينسفها كما نسف الذين من قبلها.
وفي هذا المحور، فصّل الغنوشي القول متوهما أن تونس آذان له صاغية. فقد ادّعى أن تنظيمه منفتح لكل التيارات ، بخلاف من”يفكر في تونس (…) بدون اسلاميين”. وهو ها هنا يومئ على وجه التحديد ، بقدر من التأكيد والتمرار، إلى الحزب الدستوري الحر الذي الذي يجاهر وحده بحياة سياسية لا إخوان فيها ولا أشقاء لهم.
إننا ممّن نرى سعيد أبعد ما يكون عن النهوض بتونس. لكننا نرفض إلى حد الإشمئزاز تفاعل الغنوشي مع خبر المرض أو إشاعته. ذلك أن الأصل هو العمل على ما بعد سعيد بالفعل السياسي الذي يصل إلى إرادة الشعب الناخب وليس بدفن الرجل حيا.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 افريل 2023