الشارع المغاربي: قد لا يذكر شعب زعيما مثلما يذكر التونسيون الزعيم بورقيبة الذي تُوافِقُ هذه الأيامُ ذكرى وفاته في 6 أفريل 2000 وصارت هذه الذكرى مناسبة دورية يُطل علينا بها الزعيم إطلالة تشحذ ذكراه فينا وتجدّد ما يشبه الإعتذار منه لدى من فاتهم حسنُ الظن به في حياته، فتداركوا على أنفسهم لا سيما حين هبّت على تونس، بعد 2011، رياح السّموم، وحين رام مُطلِقُوها أن يذرُوَ غبارها ذكراه فَيَطمُسَها بإعماءِ الأبصار والعقول.
لكن ذلك الغبارَ الكريهَ، على كثافته، لم يطمس حضور الزعيم ،و إنما حفّز عموم التونسيين على أن يستحضروه استحضارا أضاء الكثير ممّا كانت تخفيه عنهم في حياته، ولا سيما قبل امتِقَاع وجهِ البلاد، ألفَةُ المعايشة، وغشاوةُ المعاصرة، وحُجُبُ النّزق العقائدي.
1/ استحضار الزعيم الحي
طيلة سنوات الغبار هذه، أبى الزعيم بورقيبة إلا أن يطل علينا من وراء الرؤوس الغازية الخاوية، والأفئدة الخاقدة، وأبت ذاكرتُنا الجماعية المصدومة إلا أن تستتهض صورته. فكلما رأينا في رئاسة الدولة أشباحا شاءت منعرجات التاريخ أن تلتصق بهم، تذكرنا الزعيم الرئيس الذي أعلى من شأن تونس فوق ما لها، واستصفى لها من الصور ما يَزِينَ، ومن المستقبل ما يرسم الآمالَ عِراضا باسمات. وكلما أخطأ الخطى أولئك الرؤساءُ الأشباحُ، فوضعوا البلاد في غير مواضع النّفع، أو أقاموا حولها جدرانا من العزلة، أو توهّموا أنهم رسّامُو تونس في غير لوحها المحفوظ، أو صيروها رقعة مستباحة تتنازع فيها الإرادات من وراء خطاب سيادة لا سيادة فيه، تذكّرنا واقعية الزعيم، ونفعيته، وشجاعته، وصراخَه مَتَى وجب الصراخُ، وبكاءَه متى وجب البكاءُ. وتذكرنا أنه تعالي بتونس عن الإصطفافات التي قد تحشرها في هذه أو تلك من الزوايا التي لا تملؤها إلا الأجسام الكبرى، وتذكرنا كيف كانت تونس على أيامه حِبالا من الوصل النفعي بينها وبين شتى دول العالم.
تذكرنا كيف كان عتاد جيشنا الثقيل من أمريكا، والخفيف من النمسا، وأزياءه من كوريا الشمالية، وكيف كانت عرباتنا المدنية من فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية وقتئذ،و قطاراتنا من ألمانيا الشرقية، وتعاوننا المدرسي البشري مع فرنسا، والمالي مع العراق، والغذائي مع أمريكا. وتذكرنا المساعدات الطارئة من يوغسلافيا ” تيتو” ومن أوروبا الغربية، وتذكرنا أن النّواة الأولى في بنيتنا السياحية ونواة صناعتنا الآلية كانت من الدول الإسكندنافية، ووجهة صادراتنا من الفسطاط كانت دول آسيا. كانت تونس على أيام الزعيم لا شرقية ولا غربية. كانت بورقيبية تُولّي الوجه حيثما تلوح المصلحة المحفوفة بالاحترام، وبمراسم الإستقبال التي لم يكن يُحظى بها في كبريات العواصم سواه من رؤساء الدول التي من طبقة تونس أو التي فوقها.
وحين هبت علينا أغبرةُ الشرق الخرافي والغازي، ورياحُ التّتريك”، واستفحلت في هوامشنا عللُ المحافظة والرجعية والسلفية المنسوجة من أوهام الصفاء المطلق، وحين طفَت على سطحَنا قوالبُ البلاغة الواحلة رَميمًا في مقابر الماضي، وحين جاءنا من هناك دعاةُ ختان البنات، وجهاد النكاح، ومضاجعة الميتة، استحضرنا استنارة الزعيم، وثقافته، وحداثته، وولعه بالشعر والمسرح والفكر، واستحضرنا طائرة “الهيليكبتر” التي كانت تحط في كلية 9 أفريل بالأستاذ “أندري ميكال”من مطار تونس، قادما من باريس من أجل درس. واستحضرنا “ميشال فوكو” أستاذا في دار المعلمين العليا، وباكالوريا تونسية أشاد بتفوقها على نظيرتها الفرنسية رئيس فرنسا نفسه”ميتيران”. واستحضرنا قاعات السنما بحصص بثّها الثلاث، وسهرات المسرح البلدي أيام كان قبلة المشاهير، نحو أم كلثوم، وعبد الحليم، وصباح فخري، وفهد بلان، وصباح، ومحمد رشدي،و العزبي، ووديع الصافي، وكارم محمود الخ…
حين نستحضر كل ذلك وغيره، يقبض علينا الألم ونحن نعايش مشايخ التبشير بحور الجنان اللواتي تكون كل مضاجعة لإحداهن بمقدار سبعين سنة، ولا تساؤلَ هل هذه متعة أو أشغال شاقة، وحين تسود الرداءة والسماجة وضحالة الذوق، وحين تنغلق فضاءات الفن والمعرفة وينتفي من السياسة الرسمية الإنشغال الجدي بالثقافة والعناية بأهلها. وحين يتيه التفكير الرسمي عن شؤون الإقتصاد والمالية، نستحضر الزعيم الذي حكم تونس بوطنية خالصة طيلة ما يفوق العقود الثلاثة، ولم يملك فيها جدار واحدا أو مترا مربعا، نستحضره ونحن نعايش طيلة سنوات الغبار حكامَ الغنيمة والنهب واللصوصية والقصور والتفاهة والسقط الأخلاقي. لعل زمن بورقيبة، بأفضاله الكثيرة وعيوبه القليلة، كان سقفا سياسيا وثقافيا ومعرفيا قد بلغت به تونس أقصاها وفق شروط تلك المرحلة و مفاهيمها، مما آذن بالإنحدار الذي علامتُه الظاهرة سنوات ما بعد 2011. ولعل السبب يكمن في أن تونس لمّا تبتدع، بعد السقف ذاك، بناء جديدا ينهض عليه وفق شروط الحاضر ومفاهيمه، حتى أن “البناء الشاهق” الذي بشرنا به بَنّاؤُهُ لا نرى له صرخا يذكر. ولعل التحدي السياسي اليوم، بعد اثنتي عشرة سنة من التِّيه، هو كيف نبني على السقف البورقيبي صرحا مجتمعيا جديدا يُماشي هذا الزمان. فقد تأكد أن بورقيبة هو المبتدأ وفاتحة الخبر.
2/ الزعيم رمزا تاريخيا وثقافيا
تدخل الرموز التاريخية في دائرة الرموز الثقافية. فهي تنخرط في المحمول الثقافي والذاكرة الجماعِيَين. ومن خصائص الرموز الثقافية، كما يرى الأنتروبولوجيون، أنها “تذكّر أفراد المجتمعات بانتماءاتها إلى كيان واحد وبمصالحها المشتركة فيه”. وفي سياقة الحال، يضطلع بورقيبة، رمزا ثقافيا، بهذا الدور. فهو اسم علَم يحمل راية وطن، أو هو دالٌّ مدلولُه تونس. فبينه وبينها تماه تبادليّ استقر في التاريخ القريب، واستوى في الوعي الجماعي باعثا على أن مصالح التونسيين هي في حسن انتمائهم إلى تونس التي صاغ الزعيم كيانها المعاصر. وكلّما هَمَّ نسيجها المجتمعي بالإنحلال والإنقسام المدبّرَين، ذكّرتنا رمزية بورقيبة بأننا كيان وطني واحد يحمل في جوهره البورقيبي قوةَ الدفاع الذاتي؛ تلك القوة التي لم تكُفّ، رغم الوهن، عن مقاومة الغبار القادم من حواشي الأزمنة الغابرة، وعن تذكير أهل تونس بأن علية مصالحهم هي في أنهم أهل تونس المشدودة بروح” الوحدة القومية”بعبارة الزعيم.
وليس أدل على ذلك أولا من أن الحاملين في خواطرهم وعقولهم لتونس، أرضا وشعبا وجغرافيا وانتماءا، لا يُنكرون على بورقيبة رمزيته التي ألّفت فكرتُها كيانَ تونس، وصاغته دولةً حديثة “راسخة”بعبارته، وشعبا استوى أمّة بعد أن كان “ذرات تراب” بعبارته أيضا.
وليس أدل على ذلك ثانيا من أن أعداء الأمة التونسية هم أعداء بورقيبة حيا وميتا، ومن أن الدعاة إلى نسفها هم، على وجه التحديد، الدعاة إلى محو رمزية بورقيبة، وإلى التشكيك في كل ما يصونها، وإلى توجيه البوصلة التونسية إلى خلاف ما وجّه الزعيمُ. لا بل إن جوهر الصراع السياسي والثقافي في تونس اليوم هو بين رمزية بوقيبة الجمهورية الحداثية ورمزيات أخرى تَمتَحُ من راية الخلافة وسيرة السلف، وأمومة عائشة، وبغلة العراق، وصحيح البخاري، والبناء القاعدي القَبَلي، وجحور الضباء.
وليس أدل على ذلك ثالثا من أن متاريس الدفاع عن كيان تونس، وعن هويتها، وعن منوال معاشها، وعن قيمها الكبرى، وعن تقاليدها الجمهورية، وعن ثوابت دولتها الحرِيّة بالصَّون، إنما يمثّلها الحافظون لرمزية بورقيبة ومرجعياتها الكبرى. وليس ذلك متاجرة به سياسية. فهذه التهمة من سطحي الأفكار، لأن استثمار الرموز الثقافية في بناء الفكر السياسي الجامع ليس معيبا. إنه مستوجب.
إن بورقيبة هو اليوم رمز ثقافي ضروري. لقد أثبتت سنوات الغبار أنه كذلك. فكلما أُرِيدَ لنا أن نتوه، ردتنا رمزيته إلى تونسيتنا. فبورقيبة الحاكم قد ولّى زمانه. لكن البورقيبية التي كان لنا سبق إشهارها بُعَيد 14 حانفي 2011، هي حية لا تموت. فهي رمز خالد لأنها من”جينات” تونس الخالدة. لقد قال الزعيم هذه الحقيقة حين سأله صحفي فرنسي عن تونس ما بعد البورقيبية. قال حرفيا: “سيكون لتونس ما بعد بورقيبة. لكن ما بعد البورقيبية لن يكون”. لقد أدرك أنه صمام أمان لتونس حيا وميتا، مثلما أدرك أعداء تونس ألا فصل بين عدائهم لتونس وعدائهم لبورقيبة حيا وميتا.
وليس من المجازفة القول إن انحدارنا الراهن إلى الدرك الأسفل من سلم الدول، وإلى هذا الخواء الوطني الظاهر، وإلى العجز عن الكفاية عن الغير، وإلى مدارس تبث الجهل، وإلى مستشفيات تزرع العلل، وإلى شوارع كالحة، وإلى شباب يائس يفضل الموت على أرض بلاده، إنما مأتاه من انصرافنا عن التّوق إلى الآفاق التي رسمَها لنا بورقيبة. لقد كان يردد حلما بتونس جامعةً بين مثالَي سويسرا واليابان.
ولعل سراج الأمل الباقي هو في أن البورقيبية، مرجعا فكريا وتيارا سياسيا، إنما لها اليوم حُماة آخذون في التوسع بعد أن علموا أي منقلب صار لتونس التائهة عن البورقيبية، وبعد أن أدركوا أن رمزيتها ليست صنما ثابتا جامدا، وإنما هي قيم كبرى أصيلة مطواعة لحركة الزمن والتاريخ.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 11 افريل 2023