الشارع المغاربي: هناك في تونس مفهوم نخبوي ضيق للثقافة بالمعنى العام للكلمة. فلفترة طويلة سادت ثقافة مشروعة وظلت أخرى غير معترف بها أو تحتاج دوما لـ”التهذيب”. وهناك مركز للثقافة يستقطب كل نشاط فني، مشروع أو مهذب، هو العاصمة. وهناك نخب مسكونة بـ “هو” ثقافي مرجعي هيمن على العقول والنفوس في سياق استعماري، يستمر في التجديد اليومي لهذه الهيمنة بطرق شتى، أو نخب محلية في الأطراف جرت معالجة أذواقها ووعيها، واستقطبت بالتهذيب المزدوج (الداخلي المركزي والخارجي المهيمن) لتدخل في القالب الثقافي العام المشروع. هذه النخب تنتج ثقافة تقولها وتمسرحها، وتخدمها وزارة الثقافة، وتروج لها وسائل الإعلام التي تتخذها نموذجا تخبو أمامه جميع ابداعات غير الأصليين وغير المهذبين.
قد يسارع البعض بالقول بأن هذا تعميم مظلل، وربما هرع لمفهوم الشعبوية سلاحا في وجه كل فكرة تعرّي سلطة بدأت تفقد مواردها وسيطرتها على صنع قوانين اللعبة، لكن التعميم هنا لا يخص الحالات المخالفة وهي موجودة ولها مكانتها وإشعاعها، إنما النموذج “الشرعي” العام الذي قاد الثقافة والفن لفترة طويلة في تونس، وهذا النموذج ليس ذوقيا فقط بل سلطويا أيضا من خلال طول السيطرة على المؤسسات والموارد، وادعاء أصحابه تمثيل الذوق التونسي الأصيل والرفيع، ألم يكن اختيار وزير(ة) الثقافة دوما موضوع شد وجذب “اجتماعي-فني”؟.
والتاريخ السري لهذا المفهوم، في ضيقه ونخبويته، مزروع في تاريخ علاقة المدينة-الدولة بالريف بصفة عامة، وهي ظاهرة عالمية تكاد تكون كونية، لكن ينضاف إليها في حالتنا (وهناك جيران مثلنا) هيمنة الـ”هو” الاستعمارية القديمة المتجددة، تلك التي منعها تولستوي في روايته “الحرب والسلام” من التجذّر بعيدا في مخيال مجتمعه حينما اعتبر نابليون، الذي انبهر به المصريون وهو يغزو بلدهم، مجرد قاطع طريق بلطجي فاقدا للانسانية جاء من بعيد لاحتلال بلده متنكرا في ثوب ناشر للحضارة.
وقد نشأت هذه الظاهرة في سياق التأثير الكولونيالي على مجتمعنا، الذي انحازت نخبته، بعد سيطرتها على الدولة المستقلة، إلى صف ثقافة المستعمر الوافدة، وذلك ليس من باب اللاوطنية إذ أن غالبية النخب التونسية شاركت بوطنية حامية في دحر الاستعمار، ولكن من باب الانبهار بمفاهيم الرسالة الانسانية للفاتحين الجدد. ولأن هذا لم يحدث من خلال تلاقح الند مع الند، ولكن في سياق علاقة سلطوية قاهرة نجحت في إنتاج شبيه هجين لها لا يرى كيف يدوس الفاتحون على الإنسانية بخطاب الانسانية، فإن انبهارها منعها من إنتاج المسافة النقدية تجاه الوافد المهيمن، فأخذت مكانها في شبكته الثقافية الاستراتيجية، وتقاطعت مصالحها الاعتبارية البسيطة مع تمثلاتها لذاتها كوسيط حضاري، مهمته نشر النموذج الحداثي “الصحيح والشرعي والكوني” الذي جاء به الفاتحون. وهكذا حولت هذه النخبة كل مخزون الثقافة الابداعية “الأخرى” للتونسيين موضوعا للفعل التاريخي التحويلي، بالنقض والتحقير، مدمرة في طريقها كل تمثل فني مختلف للعلاقة بالذات وبالطبيعة وبالوجود، أو مقولبة له كي يستجيب لمفاهيمها ومعاييرها ويكرس هيمنتها، ومحطمة اقتصاديا كل إبداع حرفي مخياله متأصل في نماذج حياتية مختلفة: في سنة 1930 كتب لوي ماسينيون، بمناسبة المعرض العالمي للصناعات والحرف، عن هذه النخب: “لقد دمرت النخب المغاربية الصناعات التقليدية لبلدانها عندما غيرت أثاث منازلها بصالون لويس14”.
هذا التمركز على الذات النخبوية الثقافية وهذا الانغلاق في الفضاء، غذته وأسست له السياسات التنموية للدولة المستقلة التي قادتها هذه النخب. فخلال ستينيات القرن الماضي، وفي الوقت الذي كان الملاحظون يركزون مشاهداتهم وتقييماتهم على نظام التعاضديات وجدواه الاقتصادية، كان هناك عمل عميق، يمارس أحيانا بطرق خرقاء عبر الراديو والمدرسة، موضوعه تقزيم واحتقار فنون وطرق تفكير القرويين والجباليين والبدو، وغرغرة القيم والمعايير النخبوية الحضرية لهؤلاء. ولكي تخفي خضوعها السري اللاواعي للهيمنة الثقافية الاستعمارية استوحت هذه النخب من مسرح موليار، الذي كان صوت البرجوازية الساخرة من شكلانية مجتمع النبلاء، مسرحية “الماريشال عمار” كي تسخر من المجتمع البدوي بممثلين قسم منهم من أصول بدوية!
ليس هدف هذا التوصيف الانحياز إلى نماذج ثقافية أصابها التلف ضد أخرى، إذ لا معنى لذلك تحليليا ومعياريا. فلا الحياة البدوية مازالت مستمرة، ولا مخيال الجبليين، المتحصنين من كل طوفان بالعلو، صمد أمام طوفان أشكال الاتصال الجديدة المتعددة، ولا الفلاحين في السهول أبدوا بشكل كثيف عطشهم للأرض أثناء الثورة، ولا المدن العتيقة التونسية مازالت مكان سكنى النخب الثقافية الحضرية، ولا السفر والتواصل العيني مع الغرب مازالا حكرا على النخب المتغربة. بل الهدف هو تعرية الثمن الفني والثقافي الحضاري لعدم الاعتراف بقيمة المضمون المعياري والفني لإبداعات الآخر المختلف، ليس بوصفها فلكلورا قديما “غرائبيا” يمكن الاهتمام به مناسباتيا لتحقيق أغراض خاصة استعراضية وانما بوصفها تعبيرا عن علاقة بالذات وبالطبيعة والوجود جدير بالتفكٌر والاحترام والإغناء.
لم يتوقف مسار الطحن و”التهذيب” عندما فشل مشروع التعاضد، بل يمكن القول إن هذا هو المشروع الوحيد في تونس الذي لم يتوقف قط، وهو ربما تعطل فقط منذ 2011. وهكذا أمكن خلال تسعينات القرن الماضي لوزير الثقافة، أصيل الشمال الغربي للبلاد وابن منطقة من أروع إنتاجاتها الفنية اللغة الفرجوية والرمزية الحربية للطبال والزكرة، أن يمنع، لفترة من الزمن، الزكرة والطبال والمزود في الراديو والتلفزيون.
كانت هذه السياسة درامية بسبب حجم التناقضات التي كان المشروع الضخم يتضمنها، إذ بينما كانت الثقافات المحلية وفنونها تُطحن بسبب لامشروعيتها الذوقية والفنية، كان التراث الشعري والغنائي البدوي يعمّر الراديو “مهذبا”، وكانت العاصمة تسحب إليها النخب وتهذبّها كي تدخل في قالبها، تماما كما كانت نخبة الدولة الحسينية تستقطب أعيان الدواخل وتزوّجهم جواريها ليصبحوا جزءا من الدولة، وكما فعلت بعد ذلك بعض عائلات النخبة الحضرية العريقة في مدينة تونس، مع نخبة بورقيبة القروية التي وصلت إلى الحكم إثر الاستقلال. وعندما يفشل فنان في الدخول في القالب فإن عمله الفني يصبح، كما لاحظ ذلك ذات يوم الفنان المسرحي الرائع رؤوف بن يغلان، الانتقام بالسخرية من أصوله الاجتماعية.
لقد فشلت -بتفاوت- السياسة التنموية لكل النخب التونسية التي وصلت إلى الحكم في أن تخرج الثقافة من تقوقعها على الذات داخل بيضتها الثقافية التي هي العاصمة، ومن الـ “هو” التاريخي المهيمن الذي جعلها لفترة طويلة، تُصمم منتوجها – خاصة في السينما- وفق انتظاراته وتشعر بأنه المُمتحن الدائم لها. وفشلت بذلك في مساعدة التونسيين، دون وصاية مرجعية عليهم، في توفير الشروط اللازمة لتطوير مخيالهم الابداعي الفني والاقتصادي على الأرضية الفنية والتاريخية التي نشؤوا فيها دون عقد، وتحويل المحلي إلى وطني وإقليمي ولما لا إلى كوني.
خلال الثورة كان من علامات هذا المكبوت الثقافي انتصاب لهجة الـ “ڨ” على منابر الخطب السياسية، وتدفقها “بلا خجل” على الموائد الحوارية التلفزية، فارضة اعترافا وطنيا -ربما مؤقتا- بشرعيتها. وفي الأثناء بدأت المدارس في الأرياف والقرى تنتج نخبا علمية وفنية لا تحتاج للمرور إلى الساحة الوطنية وحتى الدولية، إلى الوسيط الثقافي التاريخي في العاصمة، بل إن قرى كان اسمها فقط يقابل في العاصمة بابتسامة تعالٍ قفزت رياضيا إلى العالمية “تحت حِس مسْ”، محدثة صدمة ثقافية للذات المتكورة على ذاتها وعلى الـ “هو” المرجعي القابع داخلها، وذلك بعدما كُتب في الجرائد التونسية إن الفريق المصري لكرة الطائرة لم يعد له منافس على البطولة الإفريقية عندما انسحب من اللعبة “الكبار”، وحَسم مركب الهزيمة الموقف قبل بداية المنافسة!.
لقد بدأ عالم الوساطة التونسي المُهذب للفن بالانهيار، ونهض عالم آخر على منصات التواصل الاجتماعي يبحث في الخصوصية الفنية، رقيق الإحساس بالإحساس المغاير، وانفتحت بحلوله عوالم جديدة ضد مقولات النمطية والشرعية الذوقية ومرجعية القالب الواحد : قبل يومين قالت لي إحدى طالبات الموسيقى، من قلب الريف التونسي إنها وجدت قرابة بين فن الصالحي ولونا موسيقيا بلغاريا، وأنها مندهشة من عناصر الكونية في هذا الفن، وأنها تعد الآن رسالة ماجستير حول الموضوع!
إن الثورة الثقافية القادمة ستكون ثورة الاعتراف والتعدد واللامركزية، وبناء المجد الحديث على الأصل العريق… إلا إذا اغتيلت هذه الثورة مرة أخرى من خلال تحويل وجهتها بالتمييع، وبتهذيب المهذًبين كي يصبحوا أكثر حرية في التهجين والابتذال. قلت دائما إن الثورة القادمة مازالت “بكماء”، ما يتلجلج في صدرها أكبر بكثير مما تحاول قوله حتى الآن.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 ماي 2023