الشارع المغاربي: ذاك هو السؤال الذي ما انفكّ يتردّد على ألسنة المتابعين للشأن العام ، فضلا على ألسنة بعض النقابيين غير الملتصقين بالشأن” الإتحادي”الداخلي. وأهمّ مبعث على هذا السؤال هو صمت الإتحاد العام التونسي للشغل عن تعقيدات هذه المرحلة وغموض آفاقها الإجتماعية والسياسية. وليس هذا الصمت المحمول على القعود والقصور بالمألوف عن الاتحاد، وهو الذي لم ينفصل تاريخه قط عن تاريخ تونس الإجتماعي والسياسي. ذلك أنّ المنعرجات الكبرى التي مرت بها تونس طيلة ما يفوق العقود الثمانية كان للإتحاد دوما دور فيها وحضور.
1/الإتحاد”حزب الدولة”الذي لم تشغله السلطة
من خصائص المنظمة الشغلية التونسية أن أدوارها لم تقصر على الشأن الإجتماعي الخالص الذي هو الدفاع عن مصالح منظوريه. فالسياسة هي دوما من أدواره. وليس دور الإتحاد السياسي نظير الأدوار التي تضطلع بها الأحزاب، سواء في السلطة أو خارجها. فإذا كان هدف الأحزاب السياسي هو مسك السلطة، فإن هدف الإتحاد السياسي هو صون الدولة. وطيلة عقود، كان مدار الشد والجذب بين الإتحاد والطبقة الحاكمة هو مناهج السلطة في الحكم وتبعاتها الإجتماعية. لكن الحفاظ على الدولة ظل على الدوام القاسم المشترك بينه وبين الحكام. فمن دونها لا أساس للسلطة، ولا وجود للإتحاد . فبقدر ما اضطلع الإتحاد بأدواره الإجتماعية من موقع المنظمة النقالية، فقد اضطلع بأدواره السياسية والنضالية من موقع “حزب الدولة” الذي لا يشغله مسك السلطة. وإن التنوع السياسي والحزبي داخل هياكله ومنظوريه قد حافظ، طيلة عقود، على كونه اختلافات سياسية داخل الوحدة”الإتحادية”، أو هي اختلافات تقف حيث يبدأ النطاق الإتحادي.
ففي مرحلة التحرير الوطني لم ينفصل نضال الإتحاد عن نضال التيار الدستوري ونضال غيره. وفي مرحلة التأسيس الدستوري الأولى حالف الإتحادُ الحزبَ الحر الدستوري من أجل الدولة لا السلطة. وتجلى ذلك في”الجبهة القومية” التي أسّست عقد الدولة التونسية المستقلة تأسيسا لم يستَتبِعه تحالفٌ بينهما سياسي مباشر في السلطة، رغم أن مِن رجال الحكم مَن هم قادة في الإتحاد.
ولما هددت سلطة إخوان النهضة في مرحلة التأسيس الثانية بعد 2011 كيان الدولة وثوابت عقدها الثقافي والسياسي الراسخة، لم يتأخر الإتحاد عن حماية الدولة وعقدها المجتمعي. كان ذلك خاصة ضمن”الرباعي”الذي نظم حوارا وطنيا أنقذ ما أمكن إنقاذه وقتئذ من ذلك العقد الذي توالت عليه تباعا سلسة من الضربات الإرهابية الدامية ومن نشر القيم الإخوانية المالية. وقد جاءت جائزة نوبل المسندة إلى”الرباعي” اعترافا دوليا بدور الإتحاد وثالوث المنظمات الشريكة في ذلك الإنقاذ الذي تبَيّن لاحقا أنه كان مؤقتا.
2/من جائزة “نوبل”إلى اهتزاز التماسك
بعد”نوبل للسلام” وانتخابات 2014، لم يحسن الإتحاد الحظوة التي تأصّلت له، وإنما استأنف السابق من أخطائه التي لم تكن قد طفت على السطح وزاد عليها. فلعل الأخطاء التي كانت تَعتمِل داخل هياكل الإتحاد المغلقة لم تضائل من إشعاعه الشعبي ومن التفاف منظوريه حوله. لكن الذي ضاءل من هذا وذاك هو الأخطاء التي صارت على مرأى الجميع. ولعل العنوان الجامع لتلك الأخطاء هو اهتزاز التماسك الهيكلي،أفقيا وهرميا، مما أطاح درجات بالإنضباط النقابي المستوجب.
3/اهتزاز التّماسك الهيكلي
اطّرد في السنوات القليلة الماضية تفريطُ الإتحاد في تقاليد الاختلافات داخل هياكله.فقد اهتزت تقاليد الاختلافات السياسية والحزبية التي تطوقها الوحدة النقابية. اهتز وقوف الخلافات الحزبية حيث يبدأ”حزب الدولة الإتحادي”. واهتز انصهار الخلافات الهيكلية في القرار الإتحادي الجامع، مؤتمرا كان أو هيئة إدارية أو مكتبا تنفيذيا. إنّ مجمل ذلك هو التفريط في تلك التقليد تفريطا أفقيا وهرميا. فقد صارت الخلافات تطفو على السطح ، وصارت تُوهِن تمادسك الإتحاد الهيكلي، وتضائل من منسوب اطمئنان منظوريه إليه، وثقة التونسيين فيه.
من مظاهر تلك الخلافات أفقيا أن الهياكل التقابية لبعض القطاعات صارت تمارس العمل النقابي مراسا قطاعيا شبه معزول عن سائر القطاعات ، حتى في حال المطالب التقابية العابرة للقطاعية. صار هذا الهيكل القطاعي أو ذاك شبيها “باتحاد” قائم بذاته، يتحرك في شبه عزلة من أجل مطالب منظوريه الخاصة بهم أو المشتركة بينهم وبين غيرهم. صار يجري ذلك، محفوفا أحيانا بحسابات غير نقابية، في شبه انفصال عن القرار النقابي المركزي، والحال أن مثل هذا الصنيع حين نفّذته، على أيام المرحوم الحبيب عاشور، نقابتان قطاعيتان ترتّب عليه حلّهما.
ومن مظاهر تلك الاختلافات هرميا هو استفحال الفجوات بين هياكل الإتحاد المحلية والجهوية والمركزية والقطاعية. ولعل الغالب على هذه الفجوات أنها ذاتية وحزبية ومطلبية. أما الفجوات الذاتية فمنها التنافر بين القيادات النقابية، لاسيما تلك التي بين المكتب التنفيذي من جهة وقادة النقابات القطاعية من جهة أخرى، والتي بلغ بعضها قاعات المحاكم. وأما الفجوات الحزبية فمنها أن الإطار الإتحادي صار مجالا للتوظيف الحزبي. لقد صار كذلك في زمن النشاط الحزبي المتاح ، وبلغ فجاجةً لم يكن قد بلغها على أيام استظلال “المتحزبين” بخيمة الإتحاد. وأما الفجوات المطلبية فمنها أن النقابات الأساسية والجهوية صارت ، داخل أُطُرِها الضيقة، صاحبة القول الفصل في ضبط المطالب وقرار الإضراب، وصارت الهيئة الإدارية أو المركزية النقابية غير ذات قرار في حالات كثيرة. وظهرت على ذلك إضراب متسرعة، مشطة، متواترة، غير مدروسة، لا تقرّها المركزية النقابية طورا وتلاحقها، مضطرةً، بالإقرار طورا آخر.
ومن توابع ذلك أنّ الإتحاد قد فقد في السنوات الأخيرة قدرا كبيرا من الإشعاع والثقة، واستجلب الطعن عليه لا سيما في الوسط الشعبي العريض. وفوق ذلك تَيسّر لخصوم الإتحاد أن يحمّلوه، بقدر من التّجنّي، مسؤولية ارتباك الإنتاج، وتعثر الأعمال، وإفلاس المؤسسات وهجرتها، وانحباس الإستثمار الداخلي والخارجي.
ولعل الفترة الممتدّة مِمّا بعد انتخابات 2014 إلى جويلية 2021 هي فترة توسعت أثناءها الصورة الرمادية المحمولة عن الإتحاد. ومِمّا في هذه الصورة أن النقابيين قد استقووا على الإدارات وعلى المؤسسات استقواءً مسنودا بحظوة المركزية النقابية لدى طبقة الحكم ، وهي حظوة ما كان لها أن تكون، حسب الرائج، لولا غض الطرف المتبادل بين الحكم والإتحاد، ولولا مهادنة هذا لذاك . ولَو لَمْ يكن ذلك كذلك، حسب هذا الرأي الرائج الراجح، لما استثمر لفيف من النقابيين لصفاتهم النقابية، حصّلوا بها نفوذا وحصانة لا تحقّان لهم . وقد جدّت أمثلة لذلك شهيرة اشتدّت قَتامتُها بالمبالغة والتعميم اشتدادا ارتدَّ على كلية الإتحاد.
4/اتحاد ما بعد 25 جولية 2021
إنّ فردية الحكم الذي أقرها سعيد لنفسه، عنوة، بعد ذلك التاريخ، قد رفعت الستار عن الإتحاد. وبيان ذلك أن المنظمة قد فقدت النفوذ الذي كانت تستمدّه من أوجه الإلتقاء بينها وبين السلطة، سواء كان ذلك الإلتقاء ضمنيا أو صريحا، متوترا أو هادئا. ولما ازورّ سعيد عن جميع الكيانات الوسيطة، محتكرا الحكمة لنفسه دون سواها، انحسرت إلى حد الموت السريري أحيانا الكياناتُ التي كانت تعتاش من فلك السلطة أو من جوارها أو من الأخذ والرد إزاءها. ولم يسلم من ذلك الإنحسار إلا الراسخون في المعارضة المتصلة الحاملة لمشروع عابر للتقلبات العارضة.
وإن الإتحاد، على كونه كيانا نقابيا متأصلا في التاريخ، قد شمله ذاك الإنحسار، ولم تشفع له لدى سعيد مباركته لخامسه والعشرين من جويلية، تلك المباركة التي أرادها الإتخاد سبيلا إلى حظوة له في المرحلة، وإلى دور له فيها. حاول الإتحاد عندئذ أن يصعّد الخطاب والحركة إزاء سعيد إلى حدّ الإضراب العام. لكنّ رياح التجاهل الشعبي ذَرَته وذَرَت معه خطب الأمين العام الطبوبي الصاخبة الغاضبة المتوعدة.
إن الإتحاد هو اليوم في لحظة مفصلية مؤسفة، لا يرتضيها له الرّائي إلى بعيد. وهي لحظة قد أظهرت، في غير تدرّج، ما كان قد تراكم من الأخطاء. وهي أخطاء يصعب حصر أسبابها في جهة من الإتحاد حصرا اختصاصيا دقيقا وإن كان مَرَدُّ المسؤولية عنها رسميا إلى القيادة.فهل الأسباب هي سلسلة الأخطاء المذكرة بإجمال؟ هل هي تداول الأمانة العامة غير الموفق بعد الحسين العباسي؟هل هي”مؤتمر التمديد”للقيادة الحالية وما خلّفه من تداعيات؟
بصرف النظر عن الخوض في الأسباب، يَسهُل رصدُ أنّ إتحاد اليوم ليس الإتحاد. ذلك أنّه لمّا غيّر سعيد عقد الدولة على منهج حسابه الخاص، قعد الإتحاد عن دور “حزب الدولة”. ولمّا قبض سعيد على رقاب السلطة والدولة والقضاء والبرلمان ، وأشاع مخاوف جدية على الحريات، ولما تدهورت إلى الدرك الأسفل القدرة الشرائية للمواطنين الذين منهم منظورو الإتحاد، ولما صار اقتناء الأساسيات بشق الأنفس، لم يجد الإتحاد في كيانه القدرة على الحركة ، فتوارى عن الأنظار وانكمش. ولعل المقرض الخارجي المحتمل لم يفته أنّ الإتحاد صار عديم الحيلة ، فكفّ عن اشتراط رأيه في ملف الإقراض الذي صار الحرص عليه”برنامجا وطنيا”.
كما لم تستطع القيادة النقابية اليوم أن نطوق مأزقا قطاعيا يتعلق بمدرسي الإبتدائي، ومهزلة تتعلق بمدرسي الثانوي حين ابتذلت نقابتهم العامة مطالبهم في”صفقة خروج”من أجل غدٍ خاص أفضل. ولعلها عبارة عن”مخزون انتقامي” مرجّح من القيادة النقابية التي ستتجه إليها سهام الغضب، ولعلها التقاء نقابي وزاري ورئاسي وحزبي على أنقاض المدرسين…
والغريب أن فريقا من النقابيين ومن قادة الصف الأول قد غفلوا عن كل ما يجري في البلاد، ولم يجدوا من أسباب النّفخ في الرماد إلا أن يستمدوا مؤخرا مِن”الأرشيف الفولكلوري “شعارا “سلفيا”طواه الزمن طيا، وترفّع عن تدوينه حتى تاريخ هوامش الأفكار.
هل فقد الإتحاد اليوم أسباب قيامه من كبوته الموجعة؟ هل تستقيم تونس الإجتماعية من دون اتحاد عمول مشع مؤثر؟ لعل مدار هذه الأسئلة على انبثاق روح جديدة في هذه القيادة أو انبثاق قيادة جديدة تعيد النظر في ما تَقدَّم وما تأخَّر.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 ماي 2023