الشارع المغاربي: منذ أن بدأ صندوق النقد الدولي، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، يطلب من الدولة التونسية رفع الدعم عن المواد الغذائية، لم تجد القوى الاجتماعية التي تفرز النخب السياسية الحاكمة من وسيلة لمقاومة هذا الضغط، سوى القول بأن الخبز هو غذاء التونسيين الأساسي، وإذا لم يأكل التونسيون الخبز بلا حساب فإنهم سيثورون علينا، وسيتزعزع النظام السياسي الذي أرسينا دعائمه وقيمه وقناعاته الراسخة.
ولأن صناعة القناعات تعني أيضا في كثير من الأحيان صناعة الواقع والسلوكات، فقد ثار التونسيون سنة 1984 على كثير من الأشياء، لكن السردية القائلة بأن الحاجة الغذائية الأولى للتونسي هي الخبز تحولت إلى أداة تفسيرية لما حدث، واختزلت الأحداث في “ثورة الخبز”، وهي سردية اشتركت فيها كل النظم الاستبدادية في المستعمرات القديمة.
وللتغطية على الخدعة الكبيرة التي تشتغل كقناعة مطلقة، انبرى المفسرون والمحللون يربطون، بطريقة سببية مزعومة، بين خرافة قدسية الطعام وحساسية التونسي لنقصان وجود الخبز بوفرة في السوق. إن القَسَم على الطعام لا يعني بالضرورة قدسية الطعام في حد ذاته، حتى وإن استولت السردية الدينية على أصله الديني كأعطية إلاهية، بل يعني تأسيس رباط الثقة والحميمية بين طرفين ينشأ عن الاشتراك في نفس الطعام دلالة على أنه غير مسموم، وإلا ما رأينا جبال الخبز مرمية في الزبالة، دعك مما تنشئه الندرة وسردية العقاب والثواب من شعور باللايقين وبالخوف من الفقد تجاه الخبز المرمي في الطريق.
في العصر الحديث الذي طور مفاهيم جديدة للصحة، وللجمالية الجسدية، وللرشاقة وفن اللباس وعرض الذات، ارتبط الغذاء أشد الارتباط بالبناء الثقافي-الطبقي للمجتمع. ولذلك فإن علاقة الميسورين المستوعبين للمفهوم الحديث للجسد ولنمط العيش “الصحيح والمشروع والمستحق” بالغذاء لها مميزاتها الخاصة(بقطع النظر عن تدينهم من عدمه) . فمطبخهم ومعارفهم ولغتهم وفنونهم الغذائية وضيافاتهم و “زرداتهم” الجماعية مسكونة بمفهومهم ذاك للغذاء. وهكذا فإنه في الوقت الذي هم يأكلون -في حياتهم اليومية- ليتغذوا ويستمتعوا، فإن الفقراء ومتوسطي الحال، وهم أغلب التونسيين، يأكلون في الغالب ليملؤوا بطونهم)كول عبي كرشك!.)
ما الذي يملأ بطون الفقراء فيحسون بالشبع والاكتفاء؟ إنه الخبز! وليس أي خبز، فهو العجين، “السميد” ومشتقاته. إنه الوحيد الذي يطرد الجوع حينما تنعدم إمكانية الوصول إلى أنواع الغذاء الأخرى. ومن ثم فإن الخبز اليومي للفقراء هو الخبز!
عندما يتحول الخبز إلى خبز الفقراء اليومي تتشكل قناعة طبقية من وجهين: الوجه الأول سردية الطبقات المتحكمة في إعادة إنتاج القوى العاملة، وهي سردية تقول أن أهم شيء عند الفقراء هو الخبز، والروايات الجميلة مليئة بدراما الخبز. وهذه السردية قائمة على علاقة عمل أساسها إنتاج قيمة مضافة تتحول إلى ثروة خاصة)رحم الله ماركس) مقابل أجر يساعد الأجير من غير أصحاب الأجور العالية ) وهم القلة) على ضمان الشروط الدنيا للعيش، والشرط المعني كما يقول المصريون هو ضمان “أكل العيش”، فكأنما يأكل الأجير عيشه أي عيشته. أما الوجه الثاني فهو ثقافة “أكل الخبز” في حد ذاتها، فبالنسبة للفقير ومتوسط الحال طاولة غير عارمة (وليس عامرة فحسب) بالخبز طاولة لا تنتج الشبع…”حتى لين يقعد الخبز ملوح!”.
لقد أنتج الساسة التونسيون، بخلفية المثقف العضوي، مثل غيرهم في البلدان التي تشبهنا، ميتافيزيقا الخبز، بوصفه المادة التي بتوفيرها تتم “الصالحات السياسية”. والنموذج المرجعي هو خطاب بورقيبة سنة 1984 : “نرجعوا كيف ما كنا”. لقد كادت البلاد أن تحترق، من أجل ماذا ؟ من أجل الخبز! وعندما فهم القائد ذلك، وتراجع عن الزيادة في سعر الخبز، اختفت كل محن الشعب وكل مطالبه. وهكذا فإن الشعب يريد أن يأكل الخبز…لا غير!.
ما طموحات السياسي الناجح في تونس؟ ما إنجازاته الممكنة؟ إنها توفير الخبز علفة للتونسيين! أي تماما ما كان بن علي ناجحا فيه: اعطهم الخبز وخذ منهم ما تريد! والآن يمدح بعض مروجي الأوهام فترة بن علي حيث “الخبز مكدس”، وبذلك يكون موضوع المعركة السياسية الجارية اليوم هو جدارة من يوفر الخبز للتونسيين. صدقت يا متنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم!
ليس هناك تونسيون يحبون بشكل ميتافيزيقي أكل الخبز برغبة ونهم ! هناك فقط صناعة سياسية-اقتصادية تاريخية لعادة غذائية سيئة ذات أساس طبقي. فالميسورون الذين عنيتهم لا يشاركون التونسيين الفقراء ومتوسطي الحال في هذه الثقافة الغذائية، فلا يأكلون خبزهم، ولا يأكلون الخبز بالكمية التي يأكلها التونسي، فقط يبيعون له العجين المدعم ليأكله!
التونسيون يستهلكون فعلا كثيرا من الخبز لأنه غذاءهم المتاح، وهذه صناعة تاريخية اختارت الطبقات العليا أن تدفع ثمنها مقابل مكانتها وسلطتها، ولو كان الأمر بيدها لقبلت بدفع فاتورة الدعم، أولا لأنها تستفيد منها، وثانيا لأن مقابل توفير الخبز عدم مساءلتها في موضوع التنمية والفساد والحريات والمشاركة السياسية، وفي الحقيقة كانت تلقى الدعم الخارجي دائما إشفاقا على المصالح المشتركة . لكن التونسيين اليوم يريدون الحرية والتنمية والمشاركة السياسية والخبزمعا، وهذه معادلة لا تستقيم في الثقافة السياسية السائدة.
لم أسمع سياسي واحد يقول للتونسيين: أنا مجدد وثائر، مشروعي أنا ومن معي هو التعاون معكم لتحرير أنفسنا من هذه الخدعة التاريخية، وبناء اقتصاد يسمح لنا بتغيير حياتنا وعاداتنا الغذائية، لسنا في مقام البقر نعلف التبن-العجين! وأحتاجكم في هذا المشروع الطموح.
إن الحقيقة هي أن أغلبهم ينظر أمام أنفه بمقولة “النجاح السياسي هو توفير قوت الشعب”، كل البدائل التي في ذهنه تتركز حول كيفية حل معادلة توفير الخبز بلا حساب دون التخلي عن دعم سعره، ولا يخطر بباله أنه بإمكانه التفكير خارج السراط المستقيم الذي وضعته قوى المال العالمية، وهو في كل ذلك غير واع بأنه يعمل مثقفا عضويا لثقافة سياسية لم تعد تليق بالتونسيين.
ولم أسمع مستثمرين تونسيين يقولون بأن لنا رسالة اقتصادية عزيزة علينا -مثلما كانت تقول البورجوازية الأوربية في شبابها- وهي أن نطور اقتصادنا بما يجعلنا لا نجوع ولا نتعرى، وإننا نعمل من أجل خلق شروط تحقيق نموذج مجتمعي تتوفر فيه كرامة الانسان الحديث. لم يقل أحد منهم بإن من شرفنا الحضاري ومن شرعية ثرواتنا أن يتنوع غذاء التونسي ويكبر طموحه في الحياة الكريمة. هل سمعتم يوما أن أحد أثرياء تونس بنى مسبحا أو مسرحا أو مدرسة لمدينة أو قرية وسجل له المواطنون اسمه بأحرف من ذهب على إنجازه، أو مول مخبر بحث جامعي واستثمر في منتوجاته التكنولوجية (ربما واحد فقط)، واضعا بذلك شباب الجامعة على طريق الابتكار والابداع والتحرر! عندما حدث الكسوف الشمسي في تونس واشرأبت أعناق أطفالنا لمشاهدة الحدث الفلكي العظيم استوردنا نظارات بسيطة من الخارج ووقفنا طوابير أمام الصيدليات لشرائها…. يا للفضيحة!
يروج السياسيون والمثقفون التونسيون اليوم مقولة، يلوكونها دون فحص لبنية علاقة الهزيمة والتبعية الدفينة التي بنيت عليها: عندما يتكلمون عن موارد تونس الفلاحية العظيمة يقولون: “تونس مطمور روما!” يا لجرح الهزيمة الغائر في لا وعينا، لم نكن حتى نعرف هذا القول قبل أن يدرسه لنا المستعمر. لم يتبلور في مخيال أي منهم أن تونس يجب أن تكون أولا مطموة التونسيين. في روما سألتني مديرة المعهد الإيطالي لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا)أغلق منذ مدة( وأنا في ذلك الوقت باحث شاب حاصل على منحة دراسية من هذه المؤسسة )حرمتني منها الجامعة التونسية) :”ماذا زرتَ في روما من معالم؟” فأجبتها: “كثير من المعالم العريقة، ومنها الكوليسايو، مضيفا أننا عندنا في تونس كوليسايو جميل وقد ساعد المناخ على حفظه بشكل جيد” فغمغمت: ” هذا إن كان لكم!”.
رحم الله عنترة: هل عرف السياسيون التونسيون الدار بعد توهم؟ هل سيغادر السياسيون التونسيون، الذين سيبنون المستقبل، متردم قناعاتهم القديمة ؟ هل سيفكرون بطرق جديدة؟ هل سيحررون أنفسهم من الهزيمة الدفينة، ومن طلب رضى القوى الخارجية عنهم مؤشرا على تلاميذ نجباء؟ كيف سيحررون أنفسهم من رهانات ومكابح من يريد لنفسه الأرباح على حساب الوطن؟ هل سينشأ جيل من السياسيين المقاتلين العنيدين من أجل تونس أولا ومن أجل المغرب الكبير ثانيا ببعده العربي الإسلامي؟ ما عزمهم؟ ما طموحاتهم؟ قلت مرة لأحدهم ” لن تقنعونا إلا بأصالة الفكرة وانغراسها في نفوسنا وطموحاتنا في التحرر والتحديث والنهضة الحضارية، وباستقلالية العزيمة وبالطموح الكبير. غير ذلك ليس عندكم جديد سوى طموح توفير العلف للتونسيين مقابل الكراسي.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 اوت 2023