الشارع المغاربي: صار الثابت في مدار القضية الفلسطينية العادلة مرهقا ومُملا. ان تنتهي قمة سلام بدون بيان رسمي هو في عرف الأشياء ومعتادها امر خارق للعادة ولكنه صار عاديا. أن يتنافس الرؤساء المعنيون بالدعم الانتخابي للفوز بود اللوبي الصهيوني العالمي ويكون الثمن ترذيل المواثيق والمعاهدات العالمية وقلب الحقائق فهو أمر ” هجين” ولكنه أصبح مألوفا. أن يقتصر التضامن مع الشعب الفلسطيني المحاصر ومع غزة الجريحة على الدعم الاذاعي والموسيقي وحسن النوايا هو أيضا أمر لا يجدي كثيرا رغم ما فيه من عواطف جياشة وحس انساني راقي لكنه أضحى دوما سلوكا متكررا.
ما حدث بعد منعرج 7 أكتوبر2023 وخاصة بعد يوم 18 منه هو منعرج جديد بل حاسم حوّل الجرح الفلسطيني الى حَرَج كبير بل صيره هاجسا عاصفا لعديد الأطراف المعنية بالملف الفلسطيني من الأقارب والأباعد. ويجمع المختصون في العلوم التاريخية والجيو-السياسية وعلوم المستقبليات ان تاريخ 7 أكتوبر صار منعطفا كبيرا تماما مثل منعطف سقوط جدار برلين في 1989 وواقعة 11 سبتمبر2001 . الخيط الناظم بين الأحداث الثلاثة هو عنصر المفاجأة وهول الاستتباعات الناجمة عنها ولعلّ أبرزها :
* تغيير الخرائط العتيقة واهتزاز النفسيات الهشة فقد لاحت على وجوه المستوطنين الجدد كما القدامى في غزة وخارجها علامات الحيرة والخوف والارتياب . راجت في وسائل الإعلام علامات الارتباك وخاصة الشعور بفقدان الأمن والطمأنينة وصارت انتصارات 1948 و1967 و1973 عند أنصار “الكيان الصهيوني” مجرد ذكريات وملاحم تآكلت صورتها لأنها كانت ضد أنظمة عربية رسمية وليست في مواجهة الفلسطينيين ذاتهم كما في غزة اليوم أو في لبنان بالأمس.
كل الخرائط الجغرافية والاستراتيجية والحربية الموجودة آيلة الى التبدّل والمراجعة بما فيها الخريطة النفسية والعاطفية لأن السلطة الفلسطينية الرسمية نفسها صارت في حرج تماما مثل أغلب الأنظمة العربية ولا بد من التنويه في هذا الصدد بأن الموقف الرسمي التونسي كان واضحا واستثنائيا هذه المرة وأزال الحرج الذي كان يشعر به الشارع والضمير الجمعي المناصر للقضية الفلسطينية سابقا والذي كان سقف مطالبه دوما أعلى من مطالب الحاكمية الرسمية.
* سيعود الرأي العام “الاسرائيلي” بعد هدوء العاصفة –هذا إن هدأت سريعا- الى الحسابات والمحاسبات الداخلية لقيادات الجيش ولمهندسي المنظومة الإعلامية لكن خاصة الى رأس حكومة اليمين ” بنيامين ناتانياهو” وسيحدث له ربما ما هو أعسر وأفدح من “غولدا مايير” بعد انتصارات الجيش المصري في أكتوبر 1973 وصدمة خط ” بارلاف”.
* ستضطر بعض الحكومات الأوروبية التي ساندت اسرائيل بلا قيد ولا شرط الى مراجعة حساباتها خاصة أمام موجة الحراك التضامني في أغلب العواصم الكبرى وقد ينتج عن سياساتها في الحرب الأوكرانية الأخيرة وبعد أحداث غزة صعود غير مفاجئ لأقصى اليمين في الانتخابات. ويتكهن المتكهنون ان اليمين المتطرف الأوروبي لا يعنيه كثيرا شأن “الشرق الأوسط” وسيكون الضرر والتراجع على حساب المكاسب المجتمعية ( جرايات التقاعد , أسعار الطاقة , التعديل المجتمعي للدولة , الجباية المعقلنة والتمايزية حسب الفئات…)التي راكمتها النضالات الديمقراطية والاجتماعية للمواطنين محل تراجع عاصف وخطير.
* تراجع مقولة “الجيش الذي لا يُهزم ” بدليل تواصل حملات المناصرة والدعم واظهار المستوطنين والجيش الاسرائيلي في مظهر الضحية ومحاولة المدارة قدر الامكان عن مجزرة مَشْفَى ” المعمداني” التي هزت الضمير العالمي والانساني الحي وحتى المستتر. لقد أصبح شعار ” اسرائيل في خطر” حقيقة جلية ويومية وراهنية بعد أحداث 7 -18أكتوبر ولم تعد نخوة الانتصارات السابقة وخاصة معجزة نشأة ” دولة اسرائيل” في 47 و1948 من المكاسب القابلة للاستثمار في بورصة القيم السياسية النافعة والمنقولة حاليا.
*الرئيس الأمريكي “جو بايدين” الذي يخشى على أوكرانيا من بوتين وينظر بعين الريبة للتقارب الصيني الروسي والمظلة “البريكسية” الصاعدة والذي يرتاب من انتفاضات “الحوثيين” في اليمن ودخول ايران وأذرعتها للمعركة صار في وضع محرج فهو يريد ادارة ثلاثة جبهات حرب في آن واحد. أولى لحماية حدود الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية مع المكسيك وأخرى “لدعم الديمقراطية ” في أوكرانيا في مواجهة روسيا وثالثة لنصرة “اسرائيل” في أزمتها الأخيرة والتي سخّرت فيها أمريكا ألفي خبير لتقديم استشارتهم ومعارفهم للجيش الاسرائيلي . هذه الواجهات الثلاث وبقطع النظر عمّا تستنزفه من قوة بشرية واعلامية تتطلب أموالا باهظة قدّرها مشتشارو الرئيس الأمريكي ب 105 مليار دولار لكن “الكونغرس ” لم يصادق عليها الى حد الآن وقد شبّهت الصحافة العالمية الرئيس جون بايدين كمن يريد اقتحام المعارك بدون دفتر صكوك.
* يستحضر المحللون الضالعون في التاريخ السرعة المذهلة التي سقط بها نظام “الأبارتايد” في جنوب افريقيا الذي بدأت جذوره منذ القرن 18 وتم “تقنينه وتفعيله” رسميا بداية من سنة 1948 هذا النظام الخطر على الانسانية والذي استأثر ب 78 في المائة من أراضي البلاد للبيض فقط وأجلى ثلاث ملايين ونصف 3.5) م ( من المواطنين السود عن أراضيهم انهار بسرة فجائية قياسية وتم الافراج عن الزعيم نيسلون مانديلا بعد 27 سنة سجن في 11 فيفري 1990 وفي 30 جوان 1991 تمّ الإلغاء الرسمي لنظام الفصل العنصري بل ان مانديلا انتُخب رئيسا للبلاد في أفريل 1994 وكان نطقه الأول بعد ذاك النصر ” أحرار أخيرا”.
* ينسى البعض أو يتناسى ان أغلب الجيل الذي يدير معارك التحرير والدفاع عن الكرامة الفلسطينية في غزة وفي الضفة الغربية هو جيل لم يعش في محاضن الأنظمة العربية الرسمية التقليدية بل ان النزر الكبير منه عايش انتفاضة الحجارة في سن الطفولة وتلقن فيها دروسا أبدية.
يعلّمنا التاريخ ان الطوارئ لا يمكن التحكم فيها بسهولة وبسرعة. فالمفاجأة تحرّك الأحداث بسرعة بل تقلبها رأسا على عقب ولاح الأمر جليا وملموسا في أحداث تونس بين 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011 وفي عدد من البلدان العربية.
يقول المؤرخ الكبير ” مارك بلوخ” (1886-1944) مؤسس مدرسة الحوليات وهو من أشهر المنظرين في منهجية العلوم التاريخية في القرن العشرين والذي أعدمته النازية في ضواحي ليون الفرنسية في 8 مارس1944 لأنه كان مقاوما وطنيا :” التاريخ يُمكّننا وجوبا من التفكير المتأمل فيما هو طارئ ومفاجئ”
‘’ ” L’Histoire doit nous permettre de penser le neuf et le surprenant
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 اكتوبر 2023