الشارع المغاربي – أنا‭ ‬الدولة‭L'Etat, c'est moi ! ‬ / بقلم: صالح مصباح

أنا‭ ‬الدولة‭L’Etat, c’est moi ! ‬ / بقلم: صالح مصباح

قسم الأخبار

21 سبتمبر، 2023

الشارع المغاربي: قال‭ ‬بونابارط “‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬أنا”‮ ‬‭. ‬وقال بورقيبة‭:‬‮ ‬”النظام‭ ‬هو‭ ‬أنا”‮ ‬‭. ‬وقَول‭ ‬بورقببة‭ ‬أذكى‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬بونابارط‭.‬ادّعى‭ ‬بونابارط‭ ‬أنّ‭ ‬شخصه‭ ‬يختزل”الدولة‮”‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬،‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الحديث،‭ ‬مَجمَع‭ ‬المؤسّسات،‭ ‬وعَقد‭ ‬مدوّن‭ ‬وضمنيّ‭ ‬يحتكم‭ ‬إليه‭ ‬المواطنون‭ ‬ويحملونه‭ ‬في‭ ‬وعيهم‭ ‬الجمعي‭. ‬فهذا‭ ‬الإدّعاء‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬إلا‭ ‬استبدادا‭.‬فمرجعيته‭ ‬هي‭ ‬أزمنة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة؛‭ ‬تلك‭ ‬الأزمنة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتسمّى‭ ‬فيها‭ ‬الدول‭ ‬بأسماء‭ ‬حكامها‭ ‬وتحيا‭ ‬بحياتهم‭ ‬وتموت‭ ‬بموتهم‭. ‬إنها‭ ‬الأزمنة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬فصل‭ ‬منهجي‭ ‬وإجرائي‭ ‬بين”الدولة‮”‬‭ ‬و‮”‬‭ ‬السلطة‮”‬،‭ ‬ولم‭ ‬تَجرِ‭ ‬فيها‭ ‬النقلةُ‮”‬من‭ ‬الزعيم‭ ‬إلى‭ ‬المؤسسة‮”‬‭ ‬بعبارة‭ ‬‮”‬ج‭. ‬بوردو”‮ ‬‭.‬

لكن‭ ‬قول‭ ‬بورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬تأباه‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬التقاليد‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الراسخة،‭ ‬إنما‭ ‬يُضمِر‭ ‬ذالك‭ ‬الفصلَ‭ ‬التحديثيّ‭. ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يدّع‭ ‬بقوله‭ ‬ذاك‭ ‬أنّ‭ ‬شخصه‭ ‬يختزل‭ ‬‮”‬الدولة‮”‬‭ ‬وإنما‭ ‬ادّعى‭ ‬أنه‭ ‬يختزل»النظام‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو،‭ ‬بِقَدر‭ ‬من‭ ‬التّجوّز،‭ ‬‮”‬السلطة”‮ ‬‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الإختزال‭ ‬جائزا‭ ‬في‭ ‬الأطوار‭  ‬التأسيسية،‭ ‬ومتاحا‭ ‬للزعامات‭ ‬الكاسحة‭ ‬كزعامة‭ ‬بورقيبة‭ ‬التي‭ ‬دمَجت‭ ‬بعضَ‭ ‬شرعيتها‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬شرعيتها‭ ‬النضالية‭.‬

وأغبَى‭ ‬من‭ ‬ذينك‭ ‬القولين‭ ‬محمولُ‭ ‬العنوان‭ ‬المذكور‭ ‬أعلاه‭. ‬‮«‬فصدارة‮»‬‭ ‬القولين‭(‬mise en valeur‭) ‬هي‮”‬الدولة‮”و”النظام‮”‬‭ ‬يُخبر‭ ‬عنهما‭ ‬‮”‬الأنا”‮ ‬‭. ‬فهما‭ ‬مركز‭ ‬العلاقة‭ ‬الخَبَرية‭. ‬لكنّ‭ ‬صدارة‭ ‬العنوان‭ ‬هي‮»‬الأنا‮»‬‭ ‬بِمَا‭ ‬هي‭ ‬مبتدأ‭ ‬تُخبر‭ ‬عنه”الدولةُ‮ ‬‭.” ‬فهو‭ ‬الصدارة‭ ‬وهي‭ ‬المسندة‭ ‬إليه‭.‬

والعنوان‭ ‬مشتقّ‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬‮”‬سعيد‮”‬‭ ‬الراهنة‭ ‬بدولة‭ ‬تونس‭. ‬هو‭ ‬لم‭ ‬يتلفّظ‭ ‬به‭ ‬حرفيا‭. ‬لكنه‭ ‬كرّسه‭ ‬فعليا‭. ‬كرّسه‭ ‬دستوريا‭ ‬وكرّسه‭ ‬سياسيا‭.‬

1/‬أنا‭ ‬الدولة‭ ‬دستوريا

استهل‭ ‬سعيد‭ ‬اختزاله‭ ‬الشخصي‭ ‬للدولة‭ ‬باختزاله‭ ‬للسلطة‭. ‬وأدَاتُه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬المرسوم‭ ‬117‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬وضع‭ ‬تحت‭ ‬يده‭ ‬كلَّ‭ ‬أجهزة‭ ‬السلطة‭ ‬وهياكلها‭ ‬ومواطن‭ ‬نفوذها،‭ ‬فصار‭ ‬مركزَها‭ ‬الأوحد‭. ‬ثم‭ ‬مرّ‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬متوخّيا‭ ‬الوثبَ‭ ‬العاليَ‭ ‬والطويل‭ ‬بين‭ ‬فصول‭ ‬الدستور‭ ‬السابق،‭ ‬فاختزلها‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬اختزالا‭ ‬كاملا‭ ‬شاملا‭.‬

وإنّ‭ ‬القاعدة‭ ‬الدستورية‭ ‬التي‭ ‬يُجمِع‭ ‬عليها‭ ‬فقهاء‭ ‬القانون‭ ‬الدستوري‭ ‬هي‭ ‬أن‮”‬‭ ‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬السلطة”‮ ‬‭. ‬وتصريف‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أجهزة‭ ‬السلطة‭ ‬وهياكلها‭ ‬ومناهج‭ ‬تصريف‭ ‬الحكم‭ ‬إنما‭ ‬تقوم‭ ‬كلها‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬وعقدها‭ ‬الدستوري،‭ ‬فضلا‭ ‬على‭ ‬تقاليدها‭ ‬وأعرافها‭ ‬وقيمها‭ ‬التي‭ ‬يستبطنها‭ ‬وعيُ‭ ‬المواطنةِ‭ ‬الجمعيُّ‭. ‬ولمّا‭ ‬كانت‭ ‬الدولةُ‭ ‬مجمعَ‭ ‬مؤسسات‭ ‬غير‭ ‬ثابتة،‭ ‬متجدّدةً‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬النّوازل،‭ ‬فإن‭ ‬سُبل‭ ‬تجديدها‭ ‬وتطويرها‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الدولة‭ ‬نفسه‭. ‬فهذا‭ ‬العقد‭ ‬يلزم‭ ‬السلطة‭ ‬بأن‭ ‬تقترح،باسم‭ ‬الشعب،‭ ‬تعديله‭ ‬من‭ ‬داخله‭.‬

لكن‭ ‬سعيد‭ ‬انتهج‭ ‬ما‭ ‬حاول‭ ‬إخوان‭ ‬النهضة‭ ‬انتهاجه‭. ‬فقد‭ ‬قَلَب‭ ‬القاعدة‭ ‬الدستورية‭ ‬قَلبا‭ ‬كاملا‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬أحكَم‭ ‬قبضتَه‭ ‬الشخصية‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬وعلى‭ ‬قوة‭ ‬الحكم‭ ‬فيها،‭ ‬ثم‭ ‬مرّ،‭ ‬بتدرّج‭ ‬سريع‭ ‬مُبيّت،‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬الدولة‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬سطوته‭ ‬على‭ ‬السلطة‭. ‬فقد‭ ‬قَلَبَ‭ ‬القاعدة‭ ‬الدستورية‭. ‬وبؤرة‭ ‬هذا‭ ‬القلب‭ ‬هي‭ ‬تكريسه‭ ‬الشخصي‭ ‬لهوية‭ ‬الدولة‭ ‬بتكريس‭ ‬دستور‭ ‬شخصي‭ ‬في‭ ‬مبادئه‭ ‬وأحكامه‭ ‬وفي‭ ‬روح‭ ‬الدولة‭ ‬المبثوثة‭ ‬في‭ ‬فصوله‭. ‬فالدولة‭ ‬كيان‭ ‬مجرد‭ ‬علامته‭ ‬الأظهر‭ ‬هي‭ ‬الدستور‭. ‬لقد‭ ‬رسخ‭ ‬سعيد‭ ‬بذلك‭ ‬ما‭ ‬بيانه‭:‬أنا‭ ‬الدستور‭  ‬إذاً‭ ‬،‭ ‬أنا‭ ‬الدولة‭.‬

وما‭ ‬مِن‭ ‬غُلوّ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ولا‭ ‬تَجَنّ‭. ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يُسهِم‭ ‬أحد‭ ‬سواه‭  ‬في‮»‬‭ ‬دستوره‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يُحظ‭ ‬بإسناذ‭ ‬شعبي‭ ‬يُعتدّ‭ ‬به،‭ ‬ولم‭ ‬يُعِر‭ ‬اهتماما‭ ‬بتوابعه‭ ‬الإنتخابية‭ ‬تسعةُ‭ ‬أعشار‭ ‬التونسيين‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬جَرَّ‭ ‬سعيد‭ ‬الدولة‭ ‬والسلطة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قدمَين‭ ‬على‭ ‬رأس،‭ ‬فقد‭ ‬استقوى‭ ‬بالسلطة‭ ‬فنسخ‭ (‬abroger‭) ‬كل‭ ‬مؤسسة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬قابلة‭ ‬للإستواء‭ ‬بذاتها،‭ ‬وكلّ‭ ‬هيئة‭ ‬دستورية‭ ‬أو‭ ‬وطنية‭ ‬أو‭ ‬جهة‭ ‬تعمل‭ ‬وفق‭ ‬عقد‭ ‬الدولة‭ ‬الجامع‭ ‬عَمَلا‭ ‬مستقلا‭ ‬عن‭ ‬الجهة‭ ‬الحاكمة‭. ‬كما‭ ‬نسخ‭ ‬كل‭ ‬جهة‭ ‬تعديل‭ ‬لنفوذه‭ ‬التنفيذي‭  ‬والتريعي‭ ‬وكل‭ ‬سلطة‭ ‬مضادة‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬موازنة‭. ‬

لقد‭ ‬صار‭ ‬شخص‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬الدولة‭ ‬والسلطة‭ ‬والتشريع‭ ‬والقضاء‭ ‬والإدارة‭ ‬والرقابة‭ ‬والحكومة‭ ‬والتفقد‭. ‬وإن‭ ‬بقيت‭ ‬هيئة‭ ‬أو‭ ‬جهة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها،‭ ‬فقد‭ ‬قرّر‭ ‬لها‭ ‬وحده‭ ‬أدوارَها‭ ‬وضبط‭ ‬لها‭ ‬مجال‭ ‬حركتها‭ ‬وتخيّر‭ ‬لها‭ ‬أعضاءها‭ ‬وأوقَعهم‭ ‬تحت‭ ‬سيف‭ ‬الإعفاء‭ ‬الذي‭ ‬يُشهره‭ ‬على‭ ‬الجميع‭.‬لقد‭ ‬قال‭ ‬سعيد‭ ‬بصريح‭ ‬الفعل‭: ‬أنا‭ ‬الدولة‭ ‬دستوريا‭.‬

2/‬أنا‭ ‬الدولة‭ ‬سياسيا

وبصريح‭ ‬الفعل‭ ‬أظهر‭ ‬سعيد‭ ‬ما‭ ‬بيانه‭: ‬أنا‭ ‬الدولة‭ ‬سياسيا‭. ‬أظهره‭ ‬بمفهوم‭ ‬السياسة‭ ‬الموسع‭ ‬الذي‭ ‬ضِمنه‭ ‬تصريف‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭. ‬فقد‭ ‬عَمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يَخلوَ‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬دابر‭ ‬السياسة‭ ‬وأن‭ ‬يحتكرها‭ ‬لنفسه‭ ‬بِقَصرِها‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬دون‭ ‬سواها‭ ‬،‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬هو‭. ‬وإن‭ ‬بقي‭ ‬كيان‭ ‬سياسي‭ ‬خارج‭ ‬الدولة‭ ‬صَامد،‭ ‬حاصره‭ ‬حصارا‭ ‬ملتويا‭. ‬وإن‭ ‬عيّن‭ ‬رئيس‭ ‬حكومة‭ ‬أو‭ ‬وزيرا،ضبط‭ ‬للإختيار‭ ‬شرطَ‭ ‬الغربة‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬بالفكر‭ ‬الخاوي‭ ‬واللسان‭ ‬العِيِّ‭. ‬فسياسة‭ ‬الدولة‭ ‬عنده‭ ‬كرسي‭ ‬لا‭ ‬يسع‭ ‬أحدا‭ ‬سواه‭ ‬ولا‭ ‬قولا‭ ‬بخلاف‭ ‬قوله‭.‬

ويتولى‭ ‬سعيد‭ ‬تصريف‭ ‬الشأن‭  ‬العام‭ ‬بقيامه‭ ‬الشخصي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬هياكل‭ ‬السلطة‭ ‬وأجهزة‭ ‬الحكم‭ ‬ومؤسسات‭ ‬الدولة‭. ‬فهو‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬مواد‭ ‬البناء‭ ‬والمخابز‭ ‬وتوزيع‭ ‬الخضر‭ ‬والمواد‭ ‬الأساسية‭ ‬والإدارات‭ ‬والبنوك‭ ‬وعدادات‭ ‬الماء‭ ‬والكهرباء‭…. ‬وإنّ‭ ‬منهجه‭ ‬في‭ ‬تصريف‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬التنديد‭ ‬بالمحتكرين‭ ‬وقاطعين‭ ‬الماء‭ ‬والمتآمرين‭ ‬والمضاربين‭ ‬و«المتكرتلين‮»‬‭. ‬وكلما‭ ‬خاض‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬خوضا‭ ‬وجيها‭ ‬أو‭ ‬مفتعلا‭ ‬كانت‭ ‬الحصيلةُ‭ ‬هي‭ ‬تدهوره‭ ‬أو‭ ‬انفراجه‭ ‬المؤقت‭ ‬الذي‭ ‬يعقبه‭ ‬تدهور،‭ ‬وإن‭ ‬أحال‭ ‬على‭ ‬القضاء‭ ‬متهمين،‭ ‬أحالهم‭ ‬غالبا‭ ‬بالإدانة‭ ‬الباتّة‭ ‬يصدرها‭ ‬قبل‭ ‬القضاء،‭ ‬متوعدا‭ ‬إياه‭ ‬بالإدانة‭ ‬إن‭ ‬قضى‭ ‬لاحقا‭ ‬بخلاف‭ ‬ما‭ ‬قضى‭ ‬هو‭ ‬مسبقا‭.‬

وآخر‭ ‬تحرك‭ ‬سياسي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬سعيد‭ ‬شمل‭ ‬قطاع‭ ‬البنوك‭ ‬العمومية‭. ‬وهو‭ ‬تحرك‭ ‬أظهر‭ ‬به‭ ‬أنه‭ ‬الجهة‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬الإخلال‭ ‬والإفساد،‭ ‬وأنه‭ ‬شخصيا‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تحمي‮»‬مال‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬متى‭ ‬سيستردّه‭ ‬من‭ ‬البنوك،‭ ‬ولا‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬بنكا‭ ‬ردّ‭ ‬يوما‭ ‬مالا‭ ‬لشعب،‭ ‬خارج‭ ‬خطاب‭ ‬التّعبير‭ ‬الشعبوي‭ ‬الموجّه‭ ‬للغَفَلَةِ‭.‬

وإذا‭ ‬قصرنا‭ ‬القول‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬دار‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬القومي‭ ‬الفلاحي،‭ ‬فإن‭ ‬الإذعان‭ ‬للحقيقة‭ ‬يقتضي‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬قروضا‭ ‬بالحجم‭ ‬المذكور‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬إسناده‭ ‬بلا‭ ‬ضمانات‭ ‬،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الضمانةُ‭ ‬هي‭ ‬جدوى‭ ‬المشروع‭ ‬الإستثماري‭ ‬المُموّل‭ ‬بالقرض‭.‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬البنك‭ ‬القومي‭ ‬الفلاحي‭ ‬هو‭ ‬فعلا‭ ‬بنك‭ ‬قطاعي‭ ‬مخصص‭ ‬لتنمية‭ ‬مجال‭ ‬محدّد،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬بنك‭ ‬الإسكان‭. ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬قد‭ ‬أنشأت‭ ‬البنك‭ ‬القومي‭ ‬الفلاحي‭ ‬للنهوض‭ ‬بالقطاع‭ ‬وبإقراض‭ ‬الفلاحين‭ ‬وتمكينهم‭ ‬من‭ ‬سيولة‭ ‬يوسّعون‭ ‬بها‭ ‬أنشطتهم‭ ‬التي‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬قطاع‭ ‬ذي‭ ‬أولوية‭ ‬استراتيجية‭. ‬

لكن‭ ‬خوض‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬انحراف‭ ‬البنك‭ ‬عن‭ ‬أدواره‭ ‬قد‭ ‬أظهر‭ ‬به‭ ‬أنّه‭ ‬الدولة‭ ‬كلها‭. ‬فقد‭ ‬أعدّ‭ ‬تلك‭ ‬الملفات‭ ‬بنفسه،‭ ‬والقول‭ ‬له،‭ ‬وعاين‭ ‬الإنحراف‭ ‬فيها،‭ ‬واستدعى‭ ‬عنصرَين‭ ‬من‭ ‬لجنة‭ ‬التحاليل‭ ‬المالية،‭ ‬شاهدَين‭ ‬آنِيَين‭ ‬على‭ ‬مَا‭ ‬لا‭ ‬عِلمَ‭ ‬لهما‭ ‬به‭ ‬مسبقا،‭ ‬لا‭ ‬خبِيرَين‭ ‬استأنس‭ ‬بهما‭ ‬استئناسا‭ ‬مسبقا‭. ‬واستكمل‭ ‬سعيد‭ ‬المشهد‭ ‬الشعبوي‭ ‬بالتصوير‭ ‬والبثّ‭ ‬للعموم،‭ ‬ما‭ ‬وضع‭ ‬ممثّلَيْ‭ ‬البنك‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬إدانة‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬ما‭ ‬ستفضي‭ ‬إليه‭. ‬فكأن‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬لم‭ ‬تنجب‭ ‬خبراء‭ ‬ولا‭ ‬متفقدين‭ ‬ولا‭ ‬هياكل‭ ‬رقابية‭ ‬ولا‭  ‬أعوان‭ ‬متابعات‭ ‬لاحقة‭ ‬وجهات‭ ‬محاسبة‭. ‬وكأن‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬حامي‭ ‬لها‭ ‬أحد‭ ‬سواه،‭ ‬ولا‭ ‬سلطة‭ ‬على‭ ‬الفساد‭ ‬خارج‭ ‬سلطته‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬وصيّ‭ ‬على”مال‭ ‬الشعب‮”‬‭ ‬أحد‭ ‬سواه،‭ ‬ولا‭ ‬ناطق‭ ‬باسمه‭ ‬وباسم‭ ‬دولته‭ ‬أحد‭ ‬سواه‭. ‬إنه‭ ‬،‭ ‬باختزاله‭ ‬للدولة‭ ‬اختزالا‭ ‬سياسيا‭ ‬شاملا،‭ ‬إنما‭ ‬يخوض‭ ‬حربا”دونكشوتية‮”‬‭ ‬لا‭ ‬نَصرَ‭ ‬أبدا‭ ‬لِفَرديته‭ ‬فيها،‭  ‬سواء‭ ‬خاضها‮”‬‭ ‬في‭ ‬البر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬الأرض”‮ ‬‭.‬

فقد‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬اختزل‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬وخاض‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬عديدة‭. ‬فهل‭ ‬حصل‭ ‬تحسّن‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬منها؟‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬الجدوى‭ ‬في‭ ‬حصر‭ ‬الخلل‭ ‬والزج‭ ‬المستحق‮”‬‭ ‬بالفاعلين‮”‬‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬تصورٌ‭ ‬سياسي‭ ‬جديد‭ ‬يتدارك‭ ‬على‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الإخلالات‭ ‬والمفاسد‭ ! ‬فالإبقاء‭ ‬على‭ ‬الأسباب‭ ‬نفسها‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬النتائج‭ ‬نفسها،‭ ‬وسيحِلّ‭ ‬مضاربٌ‭ ‬محلّ‭ ‬مضاربٍ‭ ‬وفاسدٌ‭ ‬محلّ‭ ‬فاسدٍ،‭ ‬ومهرّب‭ ‬محل‭ ‬مهرب،‭ ‬ومحتكر‭ ‬محل‭ ‬محتكر،‭ ‬وخطاب‭ ‬شعبوي‭ ‬محل‭ ‬خطاب‭ ‬من‭ ‬جنسه،‭ ‬وأنا‭ ‬الدولة‭ ‬سياسيا‭ ‬محل‭ ‬الدولة‭ ‬‮”‬القيسية‮”‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نسيج‭ ‬وحدها‭ ‬لأن‭ ‬مَن‭ ‬نسَجها‭ ‬واحد‮”‬ليس‭ ‬كمثله‭ ‬أحد‮”‬،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬ذلك‭ ‬الخطيب‭ ‬المُفوّه‭.‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING