الشارع المغاربي: ليس من محض الصدف أن تتّفق كبرى العواصم الغربيّة، من روما إلى بروكسال ومن باريس إلى واشنطن، على توصيف الأوضاع في تونس بشكل متزامن بأنّها على وشك الانهيار. تحذيرات تكاد تكون نفسها، وفي المحصّلة تهافت شديد على تكثيف الضغوط والابتزاز…
بعيدًا عن التهويل أو التهوين، يبدو أنّ تونس تعيش اليوم فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة. فلا أحد يمكنه استشراف ما قد يحصل في البلاد من تصدّعات شتّى في ظرف أشهر قليلة إذا لم تتمّ حلحلة الأزمة الراهنة، لاسيما في ظلّ الارتفاع غير المسبوق للأسعار وتراجع القدرة الشرائيّة لمعظم التونسيّين واختلال توازنات الماليّة العموميّة وتتابع مواسم الجفاف التي تُؤْذِن باحتمال عجز الدولة خلال الصيف المقبل عن توفير الخبز لشعبها. ورغم الوعود الدوليّة الظاهرة، من هنا وهناك، بتقديم الدعم لتونس وإنقاذ اقتصادها من الانهيار، فإنّها بقيت كلّها مشروطة باستجابة الدولة التونسيّة لشروط “الإصلاحات” الموجعة لصندوق النقد الدولي مقابل فسح المجال أمام ضخّ القسط الأوّل من قرض هذه المؤسّسة الماليّة الدوليّة. ملف لا يزال يُراوح مكانه، ممّا أدّى إلى تجميد جلّ فرص التعاون الدولي الكفيلة بالحدّ ولو نسبيّا من انعكاسات الأزمة الشاملة التي تشهدها البلاد.
ضغوط معلنة
لم تعُد الدول الغربيّة تلوك عباراتها في الكشف عن شروطها وضغوطها من أجل فرض التزام السلطات التونسيّة بالخضوع لإملاءاتها المختلفة الاقتصاديّة منها والسياسيّة. والحقيقة أنّ الأزمة الراهنة، وإن كانت تعود إلى تراكم فشل الحكومات المتعاقبة على الحكم منذ الثورة، فإنّ فترة العشرين شهرًا الأخيرة التي مرّت على انفراد رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بكافّة السلطات لم تحقّق انفراجا سياسيّا واقتصاديّا بقدر ما أدّت إلى انغلاق وتدهور لم يخلُ منهما مجال، بما في ذلك السياسة الخارجيّة التي بدلا من أن تُراهن على الدبلوماسيّة الاقتصاديّة، استحالت من جهة إلى ماكينة لإشعال الحرائق الدبلوماسيّة الواحدة تلو الأخرى، كتلك التي جدّت مع المغرب والجزائر وليبيا بل ومع سائر دول القارّة الإفريقيّة والعالم بأسره حين صُوِّر التونسيّون للأسف الشديد على أنّهم شعب يُمارس العنصريّة والكراهيّة حيال الأجانب!… ومن جهة أخرى باتت مقولات السيادة المكرّرة في الخطاب الرئاسي مُفرغة من أيّ معنى في ظلّ الاختلال العميق للميزان التجاري وارتهان الاقتصاد التونسي للدول الأجنبيّة والمؤسّسات الماليّة الدوليّة…
من المعلوم طبعًا أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة هي التي تُمسك بخيوط اللعبة الماليّة دوليّا قبل غيرها، باعتبارها المتحكّم الأوّل في السياسات العامّة لصندوق النقد الدولي. وطبعًا فإنّ الإدارة الأمريكيّة هي التي أوعزت لحلفائها الأوروبيّين ربط مساعدة تونس بضرورة الانصياع لشروط صندوق النقد تلك، فضلا عن إبداء انتقاداتها حيال سياسات رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد. فقد كانت مساعدة وزير الخارجيّة الأمريكي “باربرا ليف” قد صرّحت بأنّ الرئيس التونسي أثار “قلقا بالغًا” بشأن الإجراءات السياسيّة التي ما انفكّ يتخذها، قائلة حرفيّا “كانت هناك عدّة إجراءات اتّخذها الرئيس خلال العام الماضي أضعفت بصراحة المبادئ الأساسيّة للضوابط والتوازنات”. ومع ذلك فقد أقرّت في الآن ذاته بأنّ الوضع لم يكن أفضل خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، أي أنّ الأداء السياسي للحكومات المتعاقبة بعد الثورة ليست أفضل ممّا هي عليه في عهد الرئيس الحالي. ويعني ذلك أيضا أنّها لن تنحاز عمليّا للمعارضة السياسيّة الحاليّة التي لم تكتف بعدم مراجعة أخطائها السابقة، بل تناست بسرعة أنّها هي التي مهّدت كافّة السبل لوصول الحال إلى ما بلغته ذات جويلية 2021، ثمّ أصبحت جزءا من عمليّة الابتزاز التي تخضع لها البلاد برمّتها وتضرب عرض الحائط بأوجاع التونسيّين…
مجلّة “لوبوان” Le Point اختزلت -بنظرة استعلائيّة- البعد السريالي للأزمة الخانقة في تونس، فقالت حرفيّا إنّ “المشكل في هذه القصّة العبثيّة كان يمكن أن ينحصر في حدود ‘مستشفى المجانين’، لكنّ ما يحدث في تونس يخُصّ أيضا جزءًا من المتوسّط وجنوب أوروبا وشمال إفريقيا… فنحن نندفع نحو عتبة ديمقراطيةٍ سابقةٍ على حافّة الانهيار، وفق عبارة الاتحاد الأوروبي، ولكن هل يمكنك إنقاذ بلدٍ رغمًا عنه؟!”. بمثل هذه العبارات الساخرة، أوضحت المجلّة الفرنسيّة مقاصدها في أنّ “ما يؤشّر لقصّة ‘المهابيل’Mabouls هو أنّ الرئيس، الذي عيّن هذه الحكومة وسمح لها بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي لمدّة ثمانية أشهر، يتجاهل في النهاية التوقيع على خطاب الالتزام الموجّه إلى صندوق النقد الدولي”. كان هذا مثالا لتندّر وسائل الإعلام الغربيّة بتجاهل الرئيس قيس سعيّد لأتّون الأزمة المتصاعدة ومُضيّه في خطابه الإنكاري والتخويني الدائم، والأمثلة تتواتر كلّ يوم…
ولا يخفى أنّ الدول الغربيّة تُدرك تمامًا وبأدقّ التفاصيل أنّ تونس باتت تعيش أزمة ماليّة واقتصاديّة خانقة لن تسمح لها بالمضيّ طويلا في النسق الذي تشقّه اليوم، من دون ضخّ محافظ ماليّة “ضخمة” لمنع انهيار منظومتها الماليّة كليّا. فالملاحق الاقتصاديّة في السفارات الأجنبيّة في تونس تقوم بأعمالها الدوريّة في ما يمكن توصيفه بـ”الجوسسة” الاقتصاديّة، أي بالرصد الدقيق لمستجدّات الواقع الاقتصادي في البلاد. يعني أنّ عمل تلك الخلايا الأجنبيّة لا يقف عند رصد ندرة تموين الأسواق ببعض المواد الاستهلاكيّة وتجاوز نسبة التضخّم عتبة العشرة في المائة، وإنّما كذلك متابعة أوضاع البنوك المحليّة التي لن تتمكّن إلى ما لا نهاية له من مواصلة تقديم المسكّنات الماليّة إلى الحكومة أمام غلق أبواب الأسواق الماليّة العالميّة في وجهها. وهو ما أتاح لها مرحليّا الإيفاء بتعهّداتها وخلاص أجور القطاع العام. في المقابل أسهم ذلك في استنزاف الشركات الصغرى والمتوسّطة المتهاويّة بشكل فظيع بعد أن باتت عاجزة عن الحصول على القروض البنكيّة جرّاء رفع البنك المركزي نسب الفائدة المديريّة، ممّا أدّى إلى رفع نسب الفوائد الباهظة الموظفة لتلك الشركات على القروض حدّ المنطق. وفي المحصّلة، سقطت عشرات الآلاف من تلك الشركات – التي يُفترض أن تكون أحد أهمّ محرّكات الاستثمار والاقتصاد الكليّ عموما - في الحلقة الجهنميّة لتراكم الديون والإفلاس… ليس هذا بسرّ دفين، وإنّما واقع معلوم بات يؤشّر لعمق المأزق الذي تداعى إليه الاقتصاد التونسي وجعله رهينة لتلاعب المحاور الدوليّة…
مقاصد الابتزاز
هكذا إذن يندرج الإعلان المتزامن للدول الغربيّة الكبرى عن الانهيار الوشيك للاقتصاد التونسي في حال تأخّر الاتّفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي في صميم الضغوط التي مارستها على الدولة التونسيّة من أجل ابتزازها سياسيّا وتقييد مصيرها اقتصاديّا. ويمكن اختزال ما يمكن اعتباره تهديدًا مباشرًا لتونس في تصريح مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، مؤخرا، الذي أكّد فيه أنّ “الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتّفاق مع صندوق النقد الدولي”. وقد اقترنت كلّ التصريحات الأوروبيّة في هذا السياق بأنّ “انهيار” تونس يعني تدفّق المهاجرين نحو الضفّة الشماليّة للمتوسّط. وهو ما يُشكّل تهويلا وتضخيما غير مبرّرين لأنّه سبق أن تدفّق عشرات الآلاف من المهاجرين نحو أوروبا قادمين من تونس وليبيا إبان الثورة في البلدين. كما أنّ أوروبا استقبلت ما يزيد بكثير عن مليون لاجئ سوري منذ بدء الحرب في سوريا، دون أن يقصم ذلك ظهر أوروبا الهرِمة…
ونشرت جريدة “المانفستو” الإيطالية Il Manifesto عنوانا عريضا يقول إنّ “الاتحاد الأوروبي سيساعد تونس إذا ما تحوّلت، مثل طرابلس، إلى حرس للمهاجرين”Ue in aiuto a Tunisi se, come Tripoli, diventa gendarme dei migranti. فالتأكيدات الإيطاليّة المتواترة بشأن ضرورة إنقاذ تونس من الانهيار وبتنفيذ “خطّة مارشال” لمساعدتها اقتصاديّا ليست مشروطة فقط بالتوصّل العاجل لاتفاق بين تونس وصندوق النقد الدولي، وإنّما بتحوّل الدولة التونسيّة إلى شرطة حدود تعمل لصالح الدولة الإيطاليّة.
صحيفة Il Tempo الإيطاليّة كشفت، من جانبها، أنّ مفوّضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية إيلفا يوهانسون ستزور تونس، في نهاية أفريل الجاري، برفقة وزيري داخليّة فرنسا وإيطاليا، وأنّه “لن يكون هناك حديث عن مساعدات اقتصادية بل عن تدخّلات لوقف تدفّقات الهجرة. لهذا الغرض سيتمّ تقديم زوارق دوريّة وطائرات بدون طيّار وتكنولوجيا مراقبة الحدود ودورات تدريبية لخفر السواحل التونسي. وعمليّا، تحويل تونس إلى ليبيا أخرى على أمل أن تتمكّن من إيقاف اليائسين الذين يسعون للخلاص في أوروبا”. الصحيفة ذاتها ذكرت أنّ المهمّة الأساسيّة التي كلّف بها الاتحاد الأوروبي مفوّضه للشؤون الاقتصادية باولو جنتيلوني، خلال زيارته الأخيرة إلى تونس، هي “بحث وسائل وقف عمليات الإنزال على السواحل الشماليّة للبحر الأبيض المتوسط”. وقد أوضحت بالخصوص أنّ بروكسل تحاول في الوقت نفسه إبرام اتّفاقيّات جديدة مع الحكومة التونسيّة حول “إدارة تدفّقات الهجرة نحو أوروبا”…
إنّها باختصار شديد عمليّة مساومة لا يشقّها غبار، بل هي عمليّة ابتزاز بأدنى ثمن يُذكر. وحتّى المساعدات الأوروبيّة تقتصر على توفير آليات قمع لتوظيف السلطات التونسيّة لصالح إدارات الحدود الأوروبيّة. فالدول الغربيّة تشترط في الخفاء المساعدة على حصول اتفاق بين تونس وصندوق النقد الدولي بضرورة توقيع اتفاقات أخرى كفيلة بجعل الحدود التونسيّة جدارًا عازلا أمام المهاجرين غير النظاميّين، ومن دون ثمن.
والأنكى من ذلك أنّ السلطات التونسيّة تعوّدت على التستّر على فحوى محادثاتها مع المسؤولين الأوروبيّين واتّفاقاتها المبرمة معهم. فبتنا لا نعلم ببعض تفاصيلها، رغم خطورتها على مستقبل البلاد ومصالحها الحيويّة، إلّا عبر وسائل الإعلام الأجنبيّة. وفي المقابل تُهدر السلطات التونسيّة المرتبكة فرصًا مهمّة جعلتها عاجزة مجدّدا عن التقاط هذه اللحظات التاريخيّة المتعلّقة بتوظيف ورقة الهجرة “السريّة” للردّ عمليّا على عمليّتي الابتزاز والمساومة المكثّفتين…
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 افريل 2023