الشارع المغاربي : لم تأب حكومات الراديكاليٓيْن بيار منْداس فرانْس Pierre Mendès France وإدْغار فورEdgar Faure والاشتراكي غي مولي Guy Mollet المتعاقبة والتي حكمت بين عامي 1954 و1957 الاستجابة لمطلب الحركة الوطنية التونسية ، الاستقلال التام وإنما ماطلت وأصرّت على تمرير مفهوم الاستقلال في سياق التكافل l’indépendance dans l’interdépendance . الشيء الذي نجمت عنه مفاوضات عسيرة ومريرة بين الوفد الوزاري التفاوضي في حكومتٓيْ الوزير الأكبر الطاهر بن عمار (أوت 1954 – أفريل 1956) الذي تولّى الإشراف عليها بدعم وهدْي من قيادة الحزب الحر الدستوري الجديد وبين رؤساء الحكومات الفرنسية الثلاث المُشار إليهم سابقا . غير أن هذه القيادة الحزبية المُسٓيّرٓة للتّفاوض الحقيقي من وراء الستار بالنسبة للجانب التونسي، كانت منقسمة جرّاء الخلاف بين الزعيمين الرئيس الحبيب بورقيبة والكاتب العام صالح بن يوسف، ممّا جعل شبح الفشل مخيّما على مآلها.
وفي إطار إقحام الوثيقة الأرشيفية، موضوع المقال، في إطارها التاريخي، وجب التذكير بالأحداث السابقة والمُمٓهّدة ، التالية :
– أوّلا تزامن عدم استتباب الأمن في البلاد من جديد ورجوع حالة الفوضى – التي هدأت نسبيا إثر رجوع الزعيم بورقيبة يوم غرة جوان 1955 – مع تعيين روجي سيدو، مندوبا ساميا للدولة الفرنسية بتونس وتوافقه مع رجوع الوزير صالح بن يوسف، الكاتب العام للحزب الحر الدستوري الجديد ، من المهجر (13 سبتمبر 1955) الذي أعلن الحرب على حكومة الطاهر بن عمار المُمْضية للاتفاقيات التونسية الفرنيسة (3 جوان 1955).
– ثانيا تجريد الأمين العام للحزب من مهامه قبل انعقاد المؤتمر القومي للحزب بصفاقس (15 – 17 نوفمبر 1955) الذي حسم الخلاف لصالح التمشي البورقيبي وأجّج الصراع بين أنصار الديوان السياسي وأتباع حزب الأمانة العامة الذي لم يتحصّل على الترخيص القانوني.
وتشير الوثيقة الأرشيفية الاستخباراتية الفرنسية، موضوع المقال، المستخرجة من المصلحة التاريخية لجيش البر الفرنسي (Service Historique de l’Armée de Terre) الكائنة في قصر فنسان (ضواحي باريس) تحت عدد 2H 133 ، ملف عدد 1 الجغرافيا البشرية والاقتصادية لتونس (1954 – 1960) والواردة تحت عنوان : اتصالات المندوب السامي، روجي سيدو، تباعا مع الباي محمد الأمين والطاهر بن عمار (الاتصال الأول)، ثم مع الزعيم بورقيبة (الاتصال الثاني) ومبعوثي صالح بن يوسف إلى الإقامة العامة (الاتصال الثالث) يوم 24 ديسمبر 1955 والمؤرخة محاضرها بتاريخ اليوم الموالي لحدوثها – إلى انحياز البلاط الحسيني وتورّطه مع المعارضة اليوسفية وتحفّظ الطاهر بن عمار على الكشف عن موقفه إزاء مسألة التأمين العسكري الفرنسي لزيارة الزعيم بورقيبة للجنوب التونسي ومسقط رأس غريمه الزعيم صالح بن يوسف، جربة (الأسبوع الأول من شهر ديسمبر 1955). كما تكشف عن تعجّب المندوب السامي من نكران الباي عدم اطلاعه على «البروتوكولات المرفقة للاتفاقيات التونسية الفرنسية» والحال «أن الحكومة الفرنسية دفعت للباي مبالغ طائلة قبل التوقيع على الاتفاقيات ولم يتصل «سيدو» من الباي برسالة شكر».
ويبدو أن « سيدو» أعلم الزعيم بورقيبة بموقف الباي الرافض والناقد للتأمين العسكري الذي حظيت به زيارته إلى جربة ومقابلته مع والد الزعيم صالح يوسف الحاج سليمان بن يوسف ولكن دون الإفصاح عن الأموال المدفوعة للحصول على إمضائه. الشيء الذي استغلّه الزعيم لممارسة الضغط على العاهل الحسيني للتعجيل بإمضاء الأمر المحدث للمجلس التأسيسي والدعوة إلى انتخاب أعضائه (25 مارس 1956). وحصل ذلك يوم 29 ديسمبر 1955.
مقتطفات من النص المترجم للوثيقة :
«عيد ميلاد المسيح (25 ديسمبر 1955)
«رٓجٓان(ي) (أي المُلحق العسكري بالمندوبية السامية)، السيد « سيدو» إثر خروجه من القُدّاس القُنْصُلي الاتصال به في مكتبه (بالإقامة العامة) لإعلامي بفحوى اللقاءات التي أجراها البارحة (24 ديسمبر 1955) وحضر لقائي به كل من الجنرال « غنبياس» Gambiez والجنرال « دي سان أبورتين « De Saint – Opportune والكولنال « برناشو» Bernachout.
• الاتصال الأوّل (مع الباي بحضور الوزير الأكبر الطاهر بن عمار) :
«في البداية ذهب السيد « سيدو» لمقابلة الباي وكان مصحوبا بالسيد « روبار جيلي» Gilet Robert ( الوزير المفوض المعتمد لدى المندوبية السامية لفرنسا بتونس) حتى يكون شاهدا على اللقاء. وكان الباي قلقا جدا واللقاء سيّئا. وهو اللقاء الثاني مع الباي حسب السيد « سيدو» الذي تخلّله نقاش صعب. من جهة يدّعي الباي أنّه مطّلع على الاتفاقيات (التونسية – الفرنسية) التي وقّعها، ولكن يجهل البروتوكولات المرفقة. الطاهر بن عمار ، الذي كان حاضرا أثناء اللقاء لم ينبس بكلمة. واتهمني الباي بكوني وفّرت إمكانيات أمنية (بوليسية) كبيرة للحكومة التونسية، مما أثار استغرابي. واعتبر أن المندوبية السامية أساءت التصرف عندما ساعدت الزعيم بورقيبة أثناء زيارته للجنوب (الأسبوع الأول من ديسمبر 1955) وأمّنت رحلته جوّا ( كان ذلك أثناء زيارته لجربة وكانت الطائرة من نوع Piper وضعها الجنرال « دي غيوبون»
de Guillebon لمتابعة تظاهرة الزيارة). وصرّح الباي حسب السيد « سيدو» أن وحدات من الجيش الفرنسي تمت تعبئتها لمساعدة الزعيم بورقيبة. وأجابه السيد « سيدو» ربما كان ذلك من طرف «جند المخزن بالجنوب»: الشيء الذي أنكره الباي بتلويح يده.
«ويرى السيد « سيدو» أن الباي كشف خشيته من بورقيبة وأبدى الدعم الذي يٓوٓدّ تقديمه إلى صالح بن يوسف. كل أعضاء الحاشية (البلاط) يوسفيون وخاصة الأمير الشاذلي الذي تورّط حقّا بصفة غير حكيمة. يرى السيد « سيدو» أن البلاط (الحاشية) يدعم بقوة ماليا صالح بن يوسف الذي لا يبدي للباي أي احترام ، ويصرّح السيد « سيدو» أنه لم يتمكن من الحصول على أي شيء من الباي الذي كثيرا ما كان يحتمي بالتعلاّت المزيّفة ويتهرب من الإجابة. والحال أن الحكومة الفرنسية دفعت له مبالغ طائلة قبل التوقيع على الاتفاقيات ولم يتصل بأية رسالة شكر من توقيعه. كما يذكر السيد «سيدو»، لو كانت لدينا آلة تسجيل أثناء مقابلة الأمس (24 ديسمبر 1955) ، واستمعنا إلى ما قال الباي، لحصل زحف الحزب الحر الدستوري الجديد على القصر».
• الاتصال الثاني(مع الزعيم بورقيبة) مقتطف :
«اللقاء مع الزعيم بورقيبة (تناول الغداء في منزل صديق بضاحية سيدي بوسعيد) كان له طابعا مختلفا عن اللقاء السابق. وجدت الزعيم بورقيبة هادئا واثقا في نفسه وفي كون الرياح تهب لصالحه بفضل مسكه زمام الجهاز الحزبي عن طريق الأمين العام الجديد (الباهي الأدغم). ويرى أن زيارته للجنوب كانت ناجحة. ويعترف لنا بالجميل لما قدمناه من عون في شأن أمن الحكومة التونسية. ويصرح أن فرنسا توفر له دعما مخلصا وسوف يذكره للحكومة الفرنسية. ويضيف أن المشكلة الكبرى تتمثل في كون بلده فقيرا إلى درجة استحالة بناء دولة عصرية. لذا هو في حاجة إلى سند مالي من قبل فرنسا. ويمكن إذا لم توفر فرنسا الدعم الضروري، طرق أبواب أخرى مثل القروض الدولية (مؤسسة فورد) …
«لم يتكلم عن المغرب الأقصى ولم يطرح قضية الاستقلال ولا تكوين جيش تونسي. وقد استفسر المندوب السامي الزعيم مُبْدِيا الملاحظة التالية : « في نهاية المطاف،إذا ترون وجوب تطبيق الاتفاقيات وأن ارتباط أي إمكانية لتحسين الحالة لا تتحقق إلا بالموافقة الفرنسية، وأن صالح بن يوسف يريد تمزيق الاتفاقيات ويعتبر فرنسا بلدا عٓدُوّٓا ويريد الاعتماد على الدول العربية». فأجاب الزعيم بورقيبة: « بالضبط».
«كما أبان الزعيم بورقيبة في حديثه مع السيد « سيدو» أن صالح بن يوسف لا يُطاق و لا يُحْتمل ولا يريد الفهم ولكن لا يجب قتله حتى يصبح شهيدا. وعندما طلبت منه : هل يستاء إذا ما رجع صالح بن يوسف إلى القاهرة ، كانت الإجابة بالنفي وأن يمكن القيام به في الفوضى ‹القاهرية› ليست له أية أهمية.
«وتحدثنا في شأن الحاشية والبلاط ورويت له مُلخّص اللقاء الذي جمعني بالباي هذه الصبيحة. فمٓاجٓ الزعيم. وعندما قلت له: ولكن أنتم مع الملكية (النظام الملكي)؟ فأجاب : نعم ولكن على الطريقة الانقليزية، مثل الملكة « إيليزبات» التي تدير ولا تحكم.
« ويبدو أن الباي لازال يعرقل جهودهم أي الدستوريون في افتكاك الحكم ما دام يملك ختم الإمضاء على الأوامر… كما أشار الزعيم بورقيبة إلى إفتقاره إلى رجال مقتدرين، «إني في أرض خالية من الرجال. وكلما رشحتُ البعض للمسؤولية، تم الاعتذار هروبا من التورط». وفهمت أن الزعيم ينتظر انتخابات المجلس التأسيسي، وهو على يقين من أنها ستمكنه من أغلبية تنهي مسألة المعارضة اليوسفية.
«كما ذكر السيد « سيدو» أن الزعيم بورقيبة صرّح له بأن الديوان السياسي يعقد اتصالات بالثوار الجزائريين. وأن الحزب لا يرى مانعا في اتخاذهم التراب التونسي ملجأ للاستراحة وإمكانية تموينهم ولكن يمنع عليهم القيام بأي تشويش. هناك مخازن للأسلحة سوف نبحث عن موقعها (أجاب السيد «سيدو» أنه يعرف مكانها وأن المنجي سليم، وزير الداخلية، هو الذي أنشأها).
«في النهاية، يبدو الزعيم بورقيبة مطمئنا، متفائلا وواثقا في انتصاره، راض عن موقف فرنسا ولكن في حالة ترقب وليس رجل حكومة، بل رجل لا زال يعتقد في الكلمة والخطب…».