الشارع المغاربي: بعد زيارات الاستكشاف وجس النبض عرف المشهد السياسي التونسي منذ أسبوعين تطورا هاما على المستوى الخارجي بدعوى تعطيل المسار الديمقراطي تمثل في تحرك مُكثّف أمريكي -أوروبي بتنسيق زمني واضح مع المؤسسات المالية الدولية بما فيها وكالات التصنيف السيادية والمؤسسات المالية المحلية التي يمثلها البنك المركزي «المستقل» سعيا لتطويق المسار الذي انتهجه رئيس الجمهورية عبر المرسوم الرئاسي رقم 2021-117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بالإجراءات الاستثنائية.
بقطع النظر على المشاكل السياسية المشروعة والحادة المطروحة في هذا الإطار هناك ثوابت لابد من التأكيد عليها مُجدّدا حتى نتمكن من استيعاب ماهية الوضع الحالي السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
الثابت الأول يتعلق بحجم الدمار الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي أفضى إليه حكم البلاد منذ 2011 والذي تتحمل مسؤوليته كل الأحزاب والشخصيات التي تداولت على السلطة طيلة هذه المدة. هذا الدمار تمثل في انهيار قيمة الدينار بنسبة %74 وارتفاع المديونية من 25 مليار دينار سنة 2010 إلى 120 مليار حاليا وارتفاع العجز التجاري من 12,8 مليار دينار سنة 2010 إلى 31 مليار سنة 2019 ووصل إلى 21,3 مليار دينار في مُوفّى شهر سبتمبر 2021 أي بمعدل 2,4 مليار دينار شهريا. كما تجلى من خلال ارتفاع الأسعار نتيجة التضخم المستورد وانهيار القدرة الشرائية للمواطن طال كل الفئات. علاوة على ظاهرة الهجرة السرية وهجرة الأدمغة.
هذا الدمار تزامن مع أزمة أخلاقية وسياسية لم يسبق لها مثيل عمقت ظاهرة الفساد الذي انتشر في كامل دواليب الدولة المركزية والجهوية والمحلية وتفشى في جميع المرافق العمومية من صحة وتعليم ونقل وبنية تحتية وبيئة.
كما تزامن مع ظاهرة خطيرة تتعلق باصطفاف الأحزاب السياسية مع جهات دولية وإقليمية حسب القناعات والمراجع السياسية والفكرية وفي تنكر كامل للمصالح العليا للوطن وعلى حساب السيادة الوطنية.
هذا الوضع الكارثي أفضى حتميا إلى نفور نسبة عالية جدا من الشعب التونسي وخاصة منه فئة الشباب من الأحزاب السياسية ومن رموزها التي تنكرت لاستحقاقات الشعب التونسي خاصة في المدة النيابية والتشريعية ما بعد انتخابات 2014.
الأطراف الخارجية ديدنها الوحيد تحقيق مصالحها الذاتية
الثابت الثاني يتعلق بمسؤولية الجهات الخارجية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي «شريك تونس الأول» والولايات المتحدة «راعية الحرية والديمقراطية» في هذه الكارثة الوطنية التي خططت لها منذ قمة «دوفيل» للسبع دول الكبرى في ماي 2011 بفرض عدم تغيير المنوال التنموي وعدم فتح ملف الشراكة الُموقّع سنة 1995 بل والدفع لمزيد تعميقه
ليشمل قطاع الفلاحة وقطاع الخدمات بكل أصنافها علاوة على تمكين صندوق النقد الدولي من تفويض ثالث ثم رابع وخامس لفرض وصفة التقشف التي اعتاد عليها منذ الثمانينات. هذه الوصفة تتلخص في ضرورة الضغط على الميزانية عبر الضغط على الأجور وعلى منح التقاعد وإيقاف الانتداب في الوظيفة العمومية وتقليص نفقات المرافق العمومية في التعليم والصحة والنقل وتحويل هذه الأنشطة إلى القطاع الخاص وهو ما تشهده البلاد منذ تدخل سنة 1986 والذي استفحل منذ سنة 2013 إلى اليوم. علاوة على الدفع نحو مزيد الخصخصة في كل القطاعات الإستراتيجية والهامة مثل الطاقة والنقل والاتصالات والمالية والبنوك.
هذا التدخل المباشر تواصل بطريقة مُكثّفة في العشرية الأخيرة حيث وجد كل المجالات مفتوحة من طرف الأحزاب والشخصيات التي حكمت البلاد لتمرير كل مخططاته لضم البلاد في خانة مصالحه الاستراتيجية في دحر كل منافس جديد في المنطقة. في هذا الباب وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي تم التوقيع على اتفاق «الشريك المميز» في نوفمبر 2012 وهو اسم بدون أي مضمون يُذكر. وقد تم التسويق لهذا الاتفاق في إطار مزايدة سخيفة بكونه مرتبة أرقى من «المكانة المتقدمة» التي حصلت عليها المغرب سنة 2008، أو مرتبة «الشريك المتقدم» التي منحت للأردن سنة 2010. وقد أطنبت بعض الجهات المسوقة لهذه الشراكة بعناوين من نوع «المفوضة الأوروبية للعلاقات الخارجية: تونس شريك مميز وخاص للاتحاد الأوروبي» جاء فيه «أن منح تونس هذه المرتبة أضيف لها خطة عمل حول الشراكة المميزة للفترة الممتدة بين 2013 و2017.وفي هذا الإطار، تعهد الجانبان بالترفيع في علاقات التعاون بينهما إلى أعلى مستوى ممكن. ويضيف المقال «وتم الاتفاق بالخصوص على العمل من أجل التوصل إلى اتفاق كامل ومعمق للتبادل الحر (أليكا)، واتفاق شراكة يشمل التنقل بالإضافة إلى اتفاق آخر في مجال النقل الجوي (نموذج الأجواء المفتوحة). وفي 14 سبتمبر 2016، تبنى البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة، قرارا بشأن تونس، اعتبر فيه بالخصوص أن وضعية البلاد تقتضي إرساء «خطة مارشال» حقيقية لفائدة تونس ترصد في نطاقها اعتمادات هامة، مع دعوة السلطات القائمة على موازنة الاتحاد الاوروبي إلى تأمين دعم نوعي للموارد المالية الموجهة لتونس…
خلاصة الأمر رغم هذا التسويق المُطنب، تونس تدحرجت من سوء إلى أسوء وأصبحت في حالة إفلاس وغير قادرة للخروج إلى السوق المالية العالمية لتعبئة موارد جديدة. كما تدحرجت خدمات كل المرافق العمومية وتضررت كل المؤسسات العمومية والخاصة وارتفعت نسبة البطالة والفقر خاصة بعد اندلاع جائحة كورونا التي كشفت عمق الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي أصاب البلاد.
قرار الاتحاد الأوروبي الأخير يحمل ضمنيا في طياته الاعتراف بمسؤولياته في الوضع الكارثي في تونس
في علاقة بالوضع الذي أصبحت عليه البلاد منذ 25 جويلية 2021 بادر الاتحاد الأوروبي بتنسيق مع الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات تصعيدية انطلقت إثر زيارة «جوزيب بوريل» الذي عبر»عن مخاوف الاتحاد الأوروبي إزاء الوضع في تونس» بتاريخ 10سبتمبر 2021. ثم تحولت إلى قرير تأجيل قمة «الفرنكوفونية» بمكالمة مباشرة بين الرئيس الفرنسي والرئيس التونسي. وأسفر في النهاية إلى إصدار قرار تم التصويت عليه في البرلمان الأوروبي بتاريخ 21 أكتوبر 2021.
الملفت للانتباه أن هذا القرار الأخير سبقه مشروع قرار تم نشره بتاريخ 19 أ كتوبر 2021 وتضمن اعتبارات تبين مدى التخبط الذي أصبحت عليه الهيئات المشرفة على مشروع القرار حيث بعد «اعتبار تونس بلد ذو الأولوية في سياسة الجوارالأوروبية» تم السرد بإطناب لمؤشرات الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي الكارثي في البلاد». كما تعرضت لتفشي معضلة الفساد. ثم تعرضت إلى في الفصل الثامن إلى الاعتراف صراحة إلى «تخوف البرلمان الأوروبي من تداعيات مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق «الأليكا» على الاقتصاد المحلي التونسي، المتدهور أصلا، لذلك تعتبر أن هذا المشروع تجاوزته الأحداث خاصة وأنه محل رفض من المجتمع المدني التونسي ولا يعتبر من الأولويات حاليا». هكذا وبكل وضوح مع العلم أن هذا الفصل تم حذفه في النص الثاني الذي اعتمده البرلمان الأوروبي.
بخصوص القرار الذي تم التصويت عليه فقد تعرض إلى اعتبارات غريبة وعجيبة من نوع
– اعتبارا أن حكومة المشيشي قامت بتجاوزات خطيرة لحقوق الإنسان عبر تعنيف المتظاهرين الذين تعرضوا إلى التعذيب في شهر جانفي 2021.» مع العلم أنه نفس المشيشي الذي كانت تتفاوض معه الأطراف الأوروبية-والفرنسية خاصة.
ثم تضيف» اعتبار يؤكد « أن الفساد نخر البلاد منذ عشرات السنين» وهي جهة تتحدث عن بلد اعتبرته مثالا للبلدان النامية في إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية وتلميذ نجيب لصندوق النقد الدولي.
كما عرج القرار «عن تفشي ظاهرة الهجرة السرية التي تشمل عدد متزايد من التونسيين الذين يفرون من بلادهم في قوارب تعرض حياتهم للموت وذكر نفس الفصل «أن تونس تعتبر من بين البلدان العربية التي تتعرض إلى أعلى نسبة هجرة الادمغة» ونسي أن يذكر أنه من أول الدول المنتفعة بهجرة الادمغة.
كما ذكر القرار» أن تونس عرفت ثاني أعلى نسبة وفيات في العالم نتيجة جائحة كوفيد-19»
وفي الأخير عبر قرار البرلمان الأوروبي في الفصل العاشر «عن أسفه أنه رغم متانة شراكته مع تونس لم يتمكن الاتحاد الأوربي من مساندة البلاد التونسية ومن إعانتها لتحقيق حوكمة رشيدة وتحقيق التنمية المرجوة منذ الربيع العربي»
الشريك الأوروبي عبر عن أسفه لعدم مساندته لتونس منذ الربيع العربي لكنه حقق فائض تجاري بمبلغ 120 مليار دينار في نفس المدة
الشريك الأوروبي عبر عن أسفه لعدم مساندته لتونس منذ الربيع العربي لكنه حقق فائض تجاري بمبلغ 120 مليار دينار في نفس المدة
في حركة تخبط واضحة وصارخة هذا الشريك اكتفى بسرد الوضع الكارثي الذي تعانيه بلادنا وعبر عن أسفه لعدم التمكن من مساندته لكنه لم يعبر عن امتنانه لتحقيق فائض تجاري بمبلغ يقدر تقريبا في حدود 120 مليار دينار (المصدر: المعهد الوطني للإحصاء) أي ما يساوي المديونية العمومية الحالية. والأفظع من ذلك فإنه يسوق بتواطئ مع المسؤولين على المستوى السياسي والإداري المحلي أن علاقاته التجارية مع تونس متوازنة والأغرب أن فرنسا تدعي أن مبادلاتها مع تونس تفضي إلى فائض تجاري لصالح تونس. أعظم من هذا افتراء واستخفاف بالسيادة الوطنية وبالشعوب لا يوجد.
إضافة لذلك فإن الاتحاد الأوروبي عبر في قرار البرلمان الأخير أنه «قدم منحة بقيمة 2 مليار لتونس بين 2011 و2021 «ونسي أن يذكر أن شركاته المنتصبة في تونس منذ عشرات السنين في إطار المناولة الخاصة بها والتي لا تدفع ضرائب ولا تسترجع مداخيل التصدير بنص الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي التي تطبقه بنفسها منذ سنة 2010 ، تحصلت على منح بقيمة 9,5 مليار دينار في نفس المدة بشهادة تقرير البنك الدولي الصادر في سنة 2014 والذي أكد «أن الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا تتحصل على منح قدرها في حدود مليار دولار أمريكي سنويا. كما أكد أن %70 من هذه المنح تدفع سدى لأن وجود هذه الشركات لم يكن بسبب المنح»
وبناء عليه فإن السيادة الوطنية والمصالح العليا للبلاد تستوجب اليوم فتح تحقيق رسمي وسريع حول حقيقة التجارة الخارجية مع الاتحاد الأوربي وحول حقيقة المنح التي تعطى لهذه الشركات الأجنبية بدون موجب خاصة وأنها تنتفع بكلفة إنتاج في تونس جد منخفضة نتيجة الأجور المتدنية ونتيجة سعر الدينار المنهار.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 1 نوفمبر 2021