الشارع المغاربي: كل صباح أشاهد موكب رئيسة الحكومة السيدة نجلاء بودن وهي في طريقها إلى قصر الحكومة بالقصبة، فخطر ببالي أن أستحضر بعضا ممن سبق أن شغل نفس المنصب خاصة قادة التنوير والإصلاح ممّن تركوا بصماتهم واضحة وجليّة إلى اليوم بدوام ذكرهم، أحدهم وهو آخر وزير أكبر قبل استعمار تونس مؤلف كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” خير الدين باشا صاحب الأيادي البيضاء على الوطن وثانيهم أوّل رئيس حكومة بعد الاستقلال الزعيم الحبيب بورقيبة الذي ما زلنا الى حدّ الآن ننعم بما ترك لنا من مؤسسات وقوانين، في ما بينهما وبعدهما عرفنا رؤساء حكومات بعضهم نشيد بذكره لِما أدَّوْا من خدمات لصالح الوطن وبعضهم تصحبهم اللّعنات لأنهم فرّطوا في استقلالية القرار الوطني ودمّروا المؤسّسات وأفلسوا الميزانية ولم يكونوا أمناء في ما استأمناهم عليه، فما هو موقع السيدة رئيسة الحكومة ضمن قائمة أسلافها؟.
لم يؤثر عن رئيس الجمهورية أنه كانت له مشاركة في الحياة السياسية المعارضة قبل سنة 2011 إذ لم نشاهد له إمضاء في العرائض التي كانت تدور ولا مشاركة في المظاهرات أو نشرا في الصحافة، ويبدو أنه كان مكتفيا بنشاطه الأكاديمي فقد كان إلى طلب السلامة أقرب، الأمر الذي حدّ من معرفته بمكونات الخارطة السياسيّة في البلاد ومن حسن تقديره للقوى الاجتماعيّة وهو ما سيظهر لاحقا بعد انتخابه رئيسا خصوصا في عدم توفّقه عند اختيار معاونيه. فالمتأمّل في قائمة من عيّنهم قربه في المواقع الحسّاسة للدولة يجد أن أسماء كثيرة خرجت عليه بعضها التحق بالمعارضة الراديكالية كمديرَي ديوانه وبعضها الآخر انقلب عليه وارتمى في أحضان خصمه اللّدود راشد الغنوشي كهشام المشيشي الذي تأسّى بسلفه يوسف الشاهد في خيانة صاحب الفضل عليه. هذا الإخفاق في اختيار المعاونين دفع برئيس الجمهورية إلى التأنّي خصوصا بعد إغلاقه البرلمان والبدء في تنفيذ مشروعه، اذ لم يعيّن رئيس حكومة إلا بعد ثلاثة أشهر وقد فوجئ الرأي العام باختيار نجلاء بودن لهذا المنصب الحسّاس لأنه لم تعرف لها مساهمة سياسيّة أو مشاركة سابقة في الشأن العام طوال حياتها كطالبة وأستاذة جامعية. ولم يظهر اسمها في وسائل الاتصال إلا بعد سنة 2011 لمّا عُيّنت مديرة عامة بوزارة التعليم العالي. اقتنع الجميع بأن سبب اختيارها للمنصب الأعلى بعد رئاسة الجمهورية تيقّن الرئيس من وفائها له وهو ما يتبيّن من مسيرة السيدة بودن.
لرئاسة الحكومة قيمة اعتبارية رغم قلة الصلاحيات التي حدّدها لها دستور 2022، إلا أن للماسك بناصيتها القدرة على خلق هامش من الحركة والنشاط يحفظ بهما هيبة المنصب وحضوره. وطوال السنتين الماضيتين عملت السيدة نجلاء بودن بجدّ على تغييب أي دور لرئاسة الحكومة كالمشاركة في الشأن العام أو إبداء الرأي في ما يستجد من مسائل وقضايا، فكان الصمت شعارها ولم نسمع لها تدخلا حتى من باب مساندة رئيسها بشرح خطبه وقراراته أو الردّ على خصومه مكتفية بإيماءة رأس لا تخفى معانيها عن لبيب… والأمر المحيرّ أن دستور 2022 ذكر في الفصل 111 أن الحكومة ورئيسها مكلّفان بتنفيذ السياسة العامة للدولة التي يضبطها رئيس الجمهوريّة، والحال أننا لم نسمع لأعضاء الحكومة ورئيستها منذ تعيينهم شرحا لسياسة رئيس الجمهورية التي سيتم تنفيذها أو الخطوات التي ستنتهج في قادم الأيام. فالصمت هو الأسلوب الذي يمنع من ارتكاب الأخطاء ومن ثم العزل، فكيف للصامت أن يُقنع غيره بسياسة رئيس الدولة فضلا عن تنفيذها؟ يبدو أن السيدة نجلاء بودن مرتاحة للوضعيّة التي هي عليها حيث أُبعدت دون اعتراض منها عن المشاركة في الجلسات التي عقدها الرئيس مع الوفد الأوروبي مؤخرا واكتفت باستقباله وتوديعه كأن مهام رئيس حكومة تونس في هذا العهد تنحصر في التشريفات رغم أن البروتوكول يقضي بأن يترأس رؤساء الحكومات الجلسات بحيث يكون نظير الضيف من نفس رتبة الضيف. أما رئيس الجمهورية فلأن درجته أعلى فإنه يشرف على الجلسة الختاميّة عند الإمضاء على الاتفاق، وهذا ما نشاهده لدى الدول التي تحترم نفسها ولا تهين إطاراتها.
إن من شأن وجود حكومة صماء خرساء في منتهى الضعف كالموجودة في قصر الحكومة بالقصبة الذي كان يسمى دار الباي أن يجعلها حمالة أوزار أخطاء رئيس الجمهورية وهو ما دأب على نشره والترويج له أنصار قيس سعيد الذين يردون الفشل الاقتصادي والسياسي والهوان الذي أصبحت عليه الدولة إلى الحكومة بالقول إن سبب ذلك ضعفها وعجزها الذين أفشلا مشروع الرئيس والحال أن أعضاء الحكومة ورئيستها عيّنهم الرئيس وحدّد لهم خطوطا حمراء كلّ تجاوز لها يعاقَب عليه بالعزل الفوري وغير مسموح لهم بالإفتاء في أي شيء! حالة لم تعرفها تونس سابقا حيث أصبح رئيس الحكومة بدرجة موظف يطوي المكاتيب.
في إشراقة من إشراقاته قال الإمام علي رضي الله عنه: “القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلّم به الرجال”. وقد أثبت التاريخ هذه الحقيقة وأكدتها التجارب فالنصوص القانونية وحتى المقدسة ذاتها عاجزة عن تغيير الواقع أو التحكم فيه لأن الأمر منوط بالرجال الذين يفهمون النص وينقلونه من حالته حبرا على الورق إلى فعل يصوغ الواقع. ففي تونس بعد سنة 2011 ورغم وجود دستور 2014 الذي قيّد حركة رئيس الجمهورية ونزع عنه الصلاحيات التي كان من المفروض أن تكون من اختصاصه بحكم أنه منتخب مباشرة من الشعب هذه الاختصاصات سلّمها لأشخاص لم يقع انتخابهم بل وقع اختيارهم من طرف الأحزاب، قلت رغم ذلك استطاع رئيس الجمهورية أن يقلب الطاولة وأن ينهي هذا الوضع الأعوج ويستلم القيادة أمام عجز المنظومة القديمة عن ردّ الفعل، اليوم نشاهد رئيس حكومة شبح لا لون ولا طعم ورائحة له وهو وضع غير صحي لدوام الحكم في تونس يستلزم المسارعة بإيجاد توازن بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة منعا لِما يمكن أن يهدّد الاستقرار.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 20 جوان 2023