الشارع المغاربي: بقدر ما كان يطغى على البرلمان السابق من هرجٍ ومرجٍ ألهاه عن القيام بمهامه الأساسيّة، فإنّ نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة أنبأت بأنّها ستُنتج برلمانًا هشًّا لا حول ولا قوّة له، غير أنّه ما كان في الحسبان أنّ القائمين عليه سيسلبونه مجرّد رائحة المؤسّسات التشريعيّة الحقيقيّة. هذه حال مجلس نوّاب الشعب الجديد من دون القبول حتّى بمبدأ وجود معارضة…
قُبيل المصادقة النهائيّة على مشروع قانون النظام الداخلي لمجلس نوّاب الشعب، أواخر الشهر الماضي، أسقطت الجلسة العامّة للبرلمان الفصل 22 المتعلّق بإدراج مفهوم المعارضة. مرّ ذلك الحدث البرلماني الأهمّ يومها مرور المنسيّين، فقِيل إنّ تلك السقطة قد تعود إلى التوازنات الغامضة التي تحكم البرلمان الجديد، غير أنّ رئيس مجلس نوّاب الشعب إبراهيم بودربالة لم يلبث أن أزاح وشاح الغموض عن مكوّنات مجلسه التشريعي الموقّر…
في أوّل حوار صحفي أجراه بعد المصادقة على النظام الداخلي، لم ينف بودربالة رفضه للفصل المذكور المتعلّق بالتنصيص على المعارضة في مجلس نوّاب الشعب. وبرّر “معارضته للمعارضة” في حوار مع إذاعة “موزاييك” بالقول حرفيّا إنّ “هناك فلسفة جديدة في الدستور، وهي أنّ النائب له الحريّة المطلقة في مساندة مبادرات أو مشاريع قوانين تُقدّمها الجهة المعنيّة، الحكومة أو النوّاب، وكذلك له الحقّ في الاعتراض على هذه المشاريع بدون أن يُصنّف معارضًا أو مساندًا، لذلك فإنّ التصنيف الكلاسيكي الحزبي أي أنّ هناك معارضة وهناك مؤيّدة (موالاة) لا تنسجم مع فلسفة الدستور ومع الرؤيا التي على أساسها أغلب الزملاء ترشّحوا ونالوا ثقة الشعب”…
مكابرة بلا مضمون..
لن نخوض هنا كثيرًا فيما رواه بودربالة عن مسألة “ثقة الشعب” أو “إرادة الشعب” وما إلى ذلك من المصطلحات وسائر العبارات التي أفرغها الخطاب السياسي المتهافت من جلّ مضامينها البرّاقة، إذ يُدرك القاصي والداني أنّ تلك الإرادة الشعبيّة غابت تمامًا يوم الانتخابات حين ولّى التونسيّون وجوههم وأصابعهم وهاماتهم عن صناديق الاقتراع، لا بسبب احتجاجات الأحزاب المعارضة التي غمرها الضعف والتجاهل، وإنّما جرّاء ضمور أحلام جموع التونسيّين وانحصار انشغالاتهم في الفوز برغيف الخبز والملبس والمسكن والنقل وتدريس أبنائهم في ظلّ ظرف اجتماعي تكتنفه القسوة والتفقير والغلاء المشِطّ للأسعار…
ومع ذلك فإنّه بغياب هذا الحدّ من مشروعيّة الحديث باسم الشعب، كان من الأولى والأجدى أن يتجنّب القائمون على البرلمان الهُمام، وفي مقدّمتهم رئيس المجلس ابتداع مفاهيم لا علاقة لها مطلقا بالأنظمة السياسيّة الديمقراطيّة في مشارق الأرض ومغاربها. سمّاها بودربالة إذن بـ”فلسفة جديدة” تقطع مع التصنيف الكلاسيكي الحزبي المتكوّن من معارضة وموالاة. وفي المقابل، لم يُحدّث بودربالة التونسيّين عن كُنه هذه الفلسفة المبتدعة التي لا تُدرَّسُ مناهجها في المعاهد والجامعات، بل ويجهل معالمها وعوالمها أساتذة الفلسفة وعلماء السياسة هنا وهناك… والحقيقة أنّ بودربالة قد أجاز القول بأنّ هذه الفلسفة الجديدة التي ترفض التنصيص على وجود المعارضة في البرلمان تعتبر أنّ “التصنيف الكلاسيكي.. لا ينسجم مع الرؤيا التي على أساسها ترشّح الزملاء ونالوا ثقة الشعب”. وكأنّ لسان حاله يقول إنّ نوّاب البرلمان الجديد كانوا يُدركون، تمام الإدراك، عند خوض غمار الانتخابات التشريعيّة أنّهم لن ينضمّوا إلى مجلس تشريعي مكتمل الصفات والشروط والمكوّنات المتعارف عليها دوليّا وقانونيا وأخلاقيّا وإنّما سيُنتدبون للعمل في هيكل مطواع أحاديّ الفكر والتوجّهات والمواقف…! منتهى الإحراج لكلّ من توهّم أنّه سيكون صوتا لهذا الشعب المسكين…!
في الحوار الصحفي ذاته، كرّر بودربالة متيقّنّا أنّ “المفهوم الجديد هو أنّنا مع الوظيفة التنفيذيّة التي لنا معها علاقة مباشرة عندما تُقدّم عملا ونعتقد أنّه عمل إيجابي لا نستحي من مساندته، أمّا إذا قدّمت عملا رأينا أنّه غير إيجابي لا نستحي كذلك من معارضة هذا العمل”… كلام واضح، لكن أين الجديد في هذا “المفهوم”، وإذا كان قادرا على أداء دوره الرقابي المفترض لعمل السلطة التنفيذيّة، لماذا إذن هذا الإصرار على تغييب المعارضة بصفتها تلك في البرلمان؟!
لم نكن نتصوّر إذن أنّ الأمر سيصل إلى حدّ نكران مفهوم المعارضة الذي تقوم عليه الأنظمة الديمقراطيّة في العالم بأسره. فالمعارضة في تعريفها المعلوم في كلّ مكان هو أنّها تضمّ مجموع الحركات والأحزاب التي تعارض القوى السياسيّة الماسكة بالحكم والتي تدير أجهزة الدولة ومؤسّساتها. أمّا في الأنظمة التمثيليّة الديمقراطيّة التي لها برلمان منتخب شعبيًّا، فإنّ المعارضة تضمّ تحديدا الأحزاب التي لا تنتمي عادة للأغلبيّة البرلمانيّة وللتحالف الحاكم، ومثال ذلك تقابل الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وحزب المحافظين وحزب العمّال في بريطانيا وغيرها كثير… وإن كانت بعض الأنظمة الديمقراطيّة قد مرّت بفترات “تعايش” بين أغلبيّة برلمانيّة معارضة لسلطة رئيس الجمهوريّة مثلما حصل سابقا في فرنسا، فإنّ هذا الأمر لا يُغيّر مكانة المعارضة في النظام السياسي بل يُعزّزها. هذا المنوال التشريعي والسياسي لا يحتاج إذن إلى فلسفة قديمة أو جديدة، إلّا في حال الاعتقاد بأنّ البرلمان التونسي الجديد سيُحدث ثورة مفاهيميّة على مستوى المؤسّسات التشريعيّة في العالم…!
إعادة إنتاج..
بعيدًا عن الشعارات والتمويهات الخطابيّة يبدو واضحًا أنّ بودربالة، الذي يفتخر بأنّه أمضى ستّا وأربعين سنة في المحاماة توّجها برئاسة العمادة، لم يأت بفعل خارق أو جديد، ما عدا التنكّر لثوابتٍ معلومة في أيّ نظام يعتمد الديمقراطيّة التمثيليّة. فحتّى في زمن الدولة البوليسيّة الحقيقيّة، لا السلطويّة الرخوة، لم تُسلب المعارضة تسميتها وإن كانت تُنعت قبل الثورة بـ”المعارضة الكرتونيّة” لأنّها كانت عاجزة عن خوض ما يتطلّبه موقعها من نضال وصراع ميداني سلمي، فكان نشاطها آنذاك مناسباتيا ويقتصر على إقامة بعض الندوات أو إصدار البيانات، باعتبار أنّها اكتفت بما كان يسمح لها به نظام الحكم السابق من هوامش تحرّك محدودة أبقتها دائما منعزلة عن القواعد الشعبيّة. لا نتحدّث هنا طبعا عن جماعة الإسلام السياسي، لأنّها كانت ولا تزال تُمعن بدورها في استخدام المعجم الديمقراطي للسطو على الديمقراطيّة وتفريغها من أهمّ مضامينها القائمة على المواطنة، لا على الطاعة والغنيمة والمظلوميّة ورفض مراجعة أخطائها وتجاوزاتها التي مهّدت لوصول البلاد إلى الحال التي عليها اليوم…
وكما عمد نظام بن علي سابقا إلى سحب البساط من المعارضة عبر السطو على المعجم السياسي للأحزاب السياسيّة وانتحال شعاراتها المتعلّقة بالممارسة الديمقراطيّة، فإنّ البرلمان الحالي قد أقرّ بدوره بأنّ نظامه الداخلي يكفل “حريّة الرأي والفكر والتعبير لجميع أعضائه” ويضمن “حريّة المعارضة”، لكنّه حصرها في منظور لا يتعارض مع فلسفته الجديدة القائمة على اتّجاه واحد يسير في فلك رأس السلطة. وكأنّ مشاهد التاريخ تتكرّر، لتُذكّرنا مثلا بمفهوم “المعارضة المساندة” الذي ابتدعه محمد حرمل الأمين العام الراحل للحزب الشيوعي التونسي وحركة التجديد سابقا حين أعلن في انتخابات أكتوبر 1999 قائلا “موقفنا في الانتخابات وخارج الانتخابات هو مساندة الرئيس.. إذا كانت المعارضة تؤدّي إلى القطيعة مع السلطة فهي تفقد وظيفتها، نحن نساند السلطة وهذا محلّنا في الإعراب السياسي”…
على هذا المنوال التهم بودربالة إذن المفهوم المتعارف عليه للمعارضة، مُختلِقًا بدعةً برلمانيّة لا تستوعب اشتراطات أيّ نظام ديمقراطي حقيقي. والحال تلك، فإنّ البرلمان الجديد يصعب أن يُتيح إمكانيّة تشكيل قوى برلمانيّة قادرة على كبح جماح السلطة وتعديل مشاريعها وخاصّة تيسير التداول السلمي على السلطة. فلا معنى إطلاقا لوجود برلمان تساند كلّ كتله سياسات السلطة التنفيذيّة، باستثناء ما ندر، إلّا في الأنظمة السلطويّة التي تدّعي الديمقراطيّة دون أن تقبل الحدّ الأدنى من شروطها…
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 ماي 2023