الشارع المغاربي: في ظل اقتصاد مغلق وقائم على سيطرة عائلات بعينها على مفاصله وبحكم صعوبة نفاذ أغلب الفاعلين الاقتصاديين إلى المنظومة البنكية تحوّل بعض بارونات المال الفاسد الى بنوك موازية تستغل هشاشة شركات صغرى ومتوسطة وحتى كبرى لتمكينها من قروض مقابل نسب فائدة مشطّة تتراوح بين 200 و400 %.
البنوك الموازية تحوّلت إلى مافيات لا تتورع عن عرض خدماتها على كل من ترى فيه فريسة سهلة للتحيل عليه معتمدة على شيكات بلا رصيد كضمان رغم عدم قانونية الاجراء. في الاثناء تسبّبت هذه اليد المالية الطولى في تصفية شركات تعاني بدورها من ضائقة مالية وفي خسارة عشرات الالاف من مواطن الشغل والتهديد باندثار أكثر من قطاع والزج بعديد المقترضين في السجون..
كارتال التمويل الموازي
بدعوى حماية الاقتصاد من الانهيار تولى عدد من بارونات القروض الموازية خلال الاسبوع قبل الفارط تمويل ندوة صحفية للتعبير عن رفضهم المطلق تنقيح الفصل 411 من المجلة التجارية الذي ينص على تجريمى اصدار شيكات بلا رصيد، حسب تأكيد ناشط باحدى منظمات المجتمع المدني.
الناشط أوضح ان انعقاد الندوة دليل آخر على نفوذ ما اسماه كارتال التمويل المشبوه وعلى تحركه شبه العلني لاستغلال منظومة الشيكات لإحكام قبضته على الشركات الصغرى والمتوسطة.
يُقصد بالبنوك الموازية الكيانات والاشخاص الذين يتعاطون نشاط التمويل خارج القانون. وسبق لوزارة المالية ان دعت المواطنين قبل سنوات الى “توخي الحذر وتفادي التعامل مع بعض الأطراف التي تتعاطى نشاطا ماليا بلا ترخيص سواء كان إقراضا بفوائد أو جمع ودائع أو غيرها من الأنشطة المالية”.
وذكّرت الوزارة بأن قوانين البنوك والمؤسسات المالية والتشريع المنظم لنشاط التمويل الصغير تخوّل حصريا للبنوك والمؤسسات المالية ومؤسسات التمويل الصغير المرخص لها والخاضعة لرقابة البنك المركزي ولسلطة رقابة التمويل الصغير تعاطي الأنشطة المالية من عمليات ايداع وإقراض.
اسماعيل صاحب معمل للملابس المستعملة (الفريب) هو واحد ممن اقترضوا في 2015 من احد بارونات التمويل الموزاي 500 ألف دينار باقتراح من نفس الشخص فوجد نفسه يواجه حكما بـ 18 سنة سجنا.
تقول زوجة اسماعيل: “كانت اوضاعنا المالية مستقرة وكان نشاط معملنا الذي يشغّل 70 عاملا، قادرا على دفع المرتبات وخلاص الضرائب والإيفاء بكل الالتزامات المالية الى ان تكرّرت إضرابات اعوان الديوانة فتعطّلت بضاعتنا في الموانئ وعجزنا عن دفع ما تخلد بذمتنا”.
وتضيف “في أوج ازمتنا المالية اتصل زوجي ببنكين طالبا اقراضه فطالباه برهن عقار تفوق قيمته قيمة المبلغ المطلوب بأضعاف. بالتوازي مع ذلك اقترح عليه شخص ينشط في مجال التمويل الموازي (وهو حريف لدينا) اقراضه 500 ألف دينار مقابل تمكينه من شيكات بـ 700 ألف دينار كضمان أي بنسبة فائدة بقرابة 40 %.
حاول صاحب معمل “الفريب” اتخاذ ما اعتبرها احتياطات آنذاك ممضيا رفقة المُقرض على كتب مُعرّف بإحدى البلديات ينص على أنه اقترض منه 500 ألف دينار مقابل اعطائه ضمان (شيكات بلا رصيد وغير ممضاة بـ 700 ألف دينار) حسب تأكيد الزوجة.
وتتابع “مع أن المُقرض معروف في أوساط أصحاب الشركات الصغرى بأنه مستعد لتوفير أي مبلغ مالي مقابل الحصول على شيكات بلا رصيد ومشهور أيضا بالتحيل على العشرات من اقرضهم فإن ظروفنا المالية الصعبة اجبرتنا على التعامل معه”.
وتواصل الزوجة أن زوجها تمكن بعد مدة ليست بالطويلة من خلاص 680 ألف دينار من جملة 700 ألف دينار قائلة “بعدها اعلمنا المُقرض انه أضاع الشيكات طالبا تمكينه من شيكات أخرى وواعدا بإرجاعها بعد خلاص كامل المبلغ وللأسف وافق زوجي على طلبه فأصبح الدين في حدود 1.6 مليون دينار”.
بعد فترة وجيزة أحس صاحب المصنع بانه كان ضحية عملية تحيّل فجمع كل الوثائق التي بحوزته ورفع شكاية بالمّقرض متهما اياه بالتحيل وبممارسة نشاط مالي غير قانوني والابتزاز حينها أحال الدائن كل الصكوك التي تبلغ قيمتها 1.6 مليون دينار الى المحكمة فاصدرت حكما في حق الزوج بـ 18 سنة سجنا حسب تاكيد نفس المصدر.
وتكشف زوجة المستثمر انها تفطنت خلال رفع الشكاية الى ان المُقرض تحيّل على عشرات الاشخاص وانه كان يختار ضحاياه بعناية فائقة ثم يقرضهم مقابل نسب فائدة بأضعاف اصل الدين مشيرة الى أنه يعمل على ابتزازهم لسلبهم املاكهم وإلى أنه يحيل في اخر المطاف الصكوك إلى القضاء.
وأفادت بأنه لا يتورع أيضا عن اغراء ضحاياه بأنه قادر على اخراجهم من الافلاس والفقر الى الثراء مؤكدة ان الأمر قد يبلغ به الى حد ايداع اموال بحساب ضحيته والتدخل له للحصول على دفتر شيكات قبل أن يورطه في سداد اموال طائلة.
المتحدثة أكدت أيضا انها وقفت على وجود منظومة كاملة تدور حول مجال الشيكات بلا رصيد مشددة على ان من يُعرفون بالبنوك الموازية يتمتعون بشبكة علاقات واسعة وبنفوذ وصفته بالغريب في أغلب القطاعات.
ولاحظت ان المنظومة الفاسدة المحيطة بعالم البنوك الموازية تضم ايضا أشخاصا يعملون على تصيّد ضحاياهم ممن تم الحكم عليهم بالسجن وانهم عادة ما يقصدون المحاكم ثم يعرضون خدماتهم على أهالي المساجين مقترحين عليهم التدخل لفائدة ذويهم مقابل عمولات خيالية.
ولفتت الى ان زوجها حاول قبل ايداعه السجن التنسيق مع عدد من ضحايا بارونات التمويل الموازي لرفع شكاية جماعية والى انهم رفضوا ذلك خوفا من انتقام المُقرض باحالة صكوكهم الى القضاء مشيرة الى ان من بين ضحاياه صاحب مصنع باع كل املاكه لسداد ديونه وآخر سافر الى الخارج قبل ان توافيه المنية بعد اصدار احكام سجنية في حقه.
من أصحاب مصانع الى مشرّدين
بإحدى ولايات الساحل كان فريد يُشرف رفقة أخويه سالم وماهر على مصنعين للملابس الجاهزة فأجبرتهم المنافسة الشرسة من مهربي الملابس واغراق السوق ببضائع اجنبية زهيدة الثمن على التوجه الى أكثر من بنك للحصول على قروض لتتم مواجهتهم بشروط تعجيزية.
في الاثناء كان الاخوة يرزحون تحت وطأة ديون بملايين الدنانير فرضها عليهم احد مزودي القماش.
يقول فريد “لم نتعامل البتة مع أي ممول خارج اطار القانون ولكن صعوبة الحصول على ترخيص من وزارة التجارة لتوريد القماش دفعتنا الى اقتنائه من احد المزودين مقابل نسبة هامش ربح عالية جدا”.
ويواصل “مع حلول ركب جائحة كورونا أغلقنا مغازاتنا في مناسبات عديدة بسبب الحجر الصحي بما قصم ظهر مشروعنا وتسبّب في تشريد عائلتنا”.
ويوضّح فريد “مع اشتداد أزمتنا المالية أحال المزود كل الشيكات التي تسلمها منا الى القضاء فتم ايقاف اخي سالم بينما اضطررت أنا الى مغادرة البلاد نحو المغرب وسافر أخي ماهر الى الجزائر. لم أسافر هربا من سداد ديوني ولكني كنت على يقين من أن الاحكام السجنية التي تلاحقني ليست هي الحل خاصة انه سبق لي ان سدّدت دينا بأكثر من مليون دينار بعد إصدار شيكات بلا رصيد.
فريد أفاد بأن ازمة الصكوك بلا رصيد تسببت في تشتيت عائلة بأسرها وفي إحالة المئات من العمال على البطالة وتوليد نقمة لدى أطفاله قائلا “ما يحز في نفسي ان ابني تعهد بالتنازل عن الجنسية التونسية حال السفر خارج البلاد بالنظر الى ما عاين من اجحاف في حق والده وعائلته”.
في شراك المُرابين
منظومة التمويل الموازي مسّت أيضا القطاع الفلاحي الذي يعاني بدوره من ازمات متلاحقة على غرار ما حدث لشفيق وهو مربي ابقار بإحدى ولايات الجنوب بعد ان اغراه احد المُرابين واللاهثين وراء الربح السريع بانقاذ مشروعه من الافلاس مقابل تمكينه من صكوك كضمان.
يقول شفيق “في أوج ازمتي المالية طرق بابي احد المقرضين مقترحا تمكيني من 180 ألف دينار على ان اسلمه شيكات بقيمة 250 ألف دينار مع التعهد بتسديد الدين بصفة دروية”.
وبعد مرور أشهر قصيرة استغل المُقرض إصابة الفلاح بوعكة صحية ألزمته المصحة ليرفع الى القضاء شكاية في اصدار شيكات بلا رصيد حسب تأكيد نفس المصدر الذي أشار الى ان المُقرض لم يكتف بالتحيل عليه في مبلغ مالي يفوق اصل الدين بأضعاف وانما اعتدى بالعنف على اخته وتسبب في طلاقه من زوجته وفي افلاس مشروعه.
وأضاف شفيق “الغريب اننا رفعنا قضية واستظهرنا بما يفيد تحيل المُقرض واعتداءه بالعنف على اختي ولكن الملف لم يشهد أي تقدم يُذكر بينما سرعان ما اصدرت المحكمة حكمها في قضية الشيكات بلا رصيد بما اجبرني على مغادرة البلاد”.
ولا يمكن الحديث عن منظومة الشيكات بلا رصيد دون التطرّق الى المجهود الذي تبذله جمعية المؤسسات الصغرى والمتوسطة لتنقيح الفصل 411 الذي يجرّم التعامل بصكوك بلا رصيد. الجمعية أنجزت مؤخّرا استبيانا مسّ عينة من 1500 مؤسسة وخلص إلى عديد الأرقام اللافتة من بينها:
• %72 من الشركات توقفت عن النشاط.
• 58.9 % من الشركات ارادت الاقتراض من البنوك.
• 69 % من الشركات جوبهت بطلبات بنكية للاستظهار بضمانات تتراوح نسبة قيمتها بين 200 و400% من قيمة القرض
• 76 % من الشركات تحصلت على اجابة البنك بعد أكثر من 3 أشهر
• أكثر من 93 % من أصحاب الشركات يتعاملون بالشيك كضمان.
• لدى 90 % من أصحاب الشركات قضايا في شيكات بلا رصيد.
• يواجه 67 % من اصحاب الشركات احكاما بالنفاذ العاجل.
كما خلصت الجمعية في استبيانها الى وجود هروب جماعي للشركات الصغرى والمتوسطة منذ جوان 2020 نحو عالم الاقتصاد الموازي مقدّرة وجود 6 شركات على 10 ناشطة في الاقتصاد غير المهيكل.
وفي ظل انسداد الافاق الاقتصادية وصعوبة النفاذ الى المنظومة البنكية المقنّنة وعدم وجود سياسة اقتصادية واضحة المعالم تحوّل الآلاف من صغار المستثمرين الى فرائس سهلة لبارونات تتحكّم في أموال طائلة خارج الاقتصاد المهيكل وتستغلها في الاقراض والتمويل خارج رقابة الدولة رغم عشرات الآلاف من القضايا المرفوعة في الغرض سنويا.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 20 جوان 2023