الشارع المغاربي: بعد أن أدخلت قرارات 25 جويلية رئيس حركة النهضة في حالة تقاعد إجباري عن العمل السياسي التفت إلى حرفة الكتابة تمضية للوقت من ناحية وتلبيسا للحقائق على خلق الله وتفتيشا عن المبررات للفشل الذي حصده بعد عشرية من حكمه من ناحية ثانية. الأسبوع الماضي نشر الغنوشي مقالا مطوّلا في جريدته «الرأي العام» بتاريخ 18 نوفمبر 2021 في صفحتين كاملتين قدم فيه وفق قوله شهادته للتاريخ تناولت الفترة الممتدة من سنة 2011 إلى يوم 25 جويلية 2021. بعد قراءتي النص لم أجد في نفسي الرغبة في الردّ على ما ذكر أو تصويبه لأن الوسائل الحديثة للاتصال تكفلت بإظهار كذبه وفضح انقلابه على مواقفه السابقة. وقد تناول الكثير من المتابعين افتراءاته التي وصلت إلى حدود الإشادة بالقرارات التي أقصته من المشهد السياسي واعتبار التعويضات التي استلمها المنتسبون لحركته مندرجة في مجالات التنمية والتشغيل. واللافت للنظر أن الغنوشي احترف تدليس الحقائق وتزويرها وأنه في كل مرة يجد لنفسه الأعذار تارة بالقول إن ذلك من مقتضيات السرية وأخرى بأنها حماية لتنظيمه. أما خصومه فلم يتوقفوا عن تبرير ذلك بالقول إنه يمارس التقية غير أن المتأمل في أكاذيبه يلحظ أنه لا علاقة لها بما ذكر بل هي جزء من بنيته العقدية التي لم تتغير وحكمت تصرفاته منذ سبعينات القرن الماضي وهو ما سنأتي على تفصيل القول فيه بعد إيراد جملة من أكاذيبه موثقة كالتالي:
1) لم يتوقف الغنوشي عن مهاجمة مجلة الأحوال الشخصية والدعوة إلى تغييرها وقد تم ذلك على لسانه وعلى لسان زميله عبد الفتاح مورو الذي طالب بإجراء استفتاء حولها. ولكنه أنكر صدور هذا التصريح عنه بعد أن تناولته النخب المدنية بالتجريح والنقد. غير أن مجلة «الموقف» نشرت حديثه كاملا(1). أما الغنوشي فإنه لم يتوقف عن التعريض بالمجلة خصوصا في فترة رئاسته لتحرير مجلة «المعرفة» كما أنه كان يفتعل الفرص لمهاجمة المصلح الشيخ الطاهر الحداد وقد وصل به الأمر إلى نشر مقال لمحمد الصالح النيفر ادعى فيه هذا الأخير زورا وبهتانا أن الكنيسة كانت وراء نشر كتابات الحداد (2) ولكنه بعد تغيير السابع من نوفمبر اعتبرها: « في الجملة إطارا صالحا لتنظيم علاقاتنا الأسرية»(3). وبعد سنة 2011 جيّش أيمّة المساجد وغيرهم من التابعين لنحلته للتهجم على المجلة والمطالبة بإلغائها. كما سيّرت حركته مظاهرات نسوية للمطالبة بتعدّد الزوجات.
2) بعد تغيير السابع من نوفمبر وبعد أن أنقذه الرئيس السابق بن علي من حبل المشنقة ومكّنه من رخصة جريدة ورخصة تنظيم طلابي ومن المشاركة في الانتخابات قال قولته الشهيرة «ربي الفوق وبن علي اللوطة» ولكنه بعد أن آلت الدولة إليه نكّل بعائلة الرئيس السابق وبكلّ من اشتغل معه وتوفي بعضهم قهرا ومازال بعضهم الآخر الى حد الآن يعاني من تبعات قضايا مفبركة برّأهم منها القضاء.
3) سنة 2011 وقبل الانتخابات أمضى الغنوشي على وثيقة بحضور الطبقة السياسية جميعها وتعهد فيها بألا تتجاوز المدة الزمنية للمجلس التأسيسي لكتابة الدستور سنة واحدة فقط ولكنها امتدت إلى ثلاث سنوات في نقض كامل لِما تعهّد به.
4) سنة 2014 عقد الغنوشي تحالفه سيء الذكر مع الباجي ورضي في البداية ألا تمثل حركته في الحكومة إلا بوزير واحد ولكنه أصبح في ما بعد الحاكم الفعلي بعد أن ساند انقلاب الشاهد على الباجي الذي أُقصي في ركن من أركان القصر، وبعد وفاة هذا الأخير وصف تحالفه معه بأنه شبيه بالملاكم الذي يحتمي بخصمه حتى لا تناله ضرباته.
5) لا يتوقف الغنوشي عن الحديث عن الديمقراطية وفوائدها الصحية والجمالية والغذائية والعاطفية وغير ذلك من ساقط القول مخفيا بذلك حقيقة موقفه الذي يتلخص في أن الديمقراطية ليست إلا وسيلة لإنضاج البديل الإسلامي الذي هو الخلافة وقال في هذا الصدد: «إن الديمقراطية ليست أداة للوصول إلى الحكم الإسلامي وإنما تقدم إطارا جيّدا للدعوة والمشاركة وإنضاج البديل الإسلامي …. وقد يكون شعار الحرية وحقوق الإنسان مدخلا أنسب للتغيير من شعار الشريعة»(4) مصرّحا في مكان آخر بما ينقض ما يروّج عن إيمانه بالديمقراطية وكتب يقول إن الدولة التي يدعو إليها هي: «دولة دستورية تلتزم بقانون الشريعة الذي يعطيها الشرعية والذي يعلو سلطانه على كل سلطان»(5) مضيفا إلى ذلك قوله إن «الخلافة…. هي الثمرة الطبيعية لعقيدة التوحيد الإسلامية – تبقى هدفا لجهاد الأمة لا يحلّ ولا يصلح لها التنازل عنه، بل ينبغي السعي إليه بتدرج عبر أشكال مرنة من الوحدة»(6). ولهذا السبب بالذات ما إن وصل إلى الحكم حتى سارع إلى تمكين حزب التحرير من الترخيص القانوني وذلك في حكومة حمادي الجبالي وقد سلمهم الرخصة مستشاره السياسي لطفي زيتون. يقول رضا بلحاج الناطق الرسمي للحزب المذكور: «ولكننا لم نُسأل عن أفكارنا وقناعاتنا»(7) وتبقى تونس البلد الوحيد الذي رُخِّص فيه لحزب التحرير بالعمل العلني لأن طبيعته الانقلابية ومحاولات اندساسه في الجيش منعت كل الأنظمة من تمكينه من رخصة العمل العلني».
هذه المواقف المتنافرة والمنقلبة من النقيض إلى النقيض تجد القبول لدى المنتسبين للنهضة ولا تثير لديهم أي تساؤل أو اعتراض والغريب أن خصوم الغنوشي يبرّرون له ذلك بالقول إنه يمارس التقية والحال أن التقية فعل محمود يأتيه الإنسان وهو في حالة ضعف حماية للنفس والنفيس ودفعا للضرر الذي يتوقعه من خصمه فيُظهر غير ما يبطن وتزول بزوال أسبابها. أما في الحالة التي نحن بصدد درسها فإننا نجد أن الكذب لدى الحركات التي تخلط الدين بالسياسة منهج مسلوك لا يتخلفون عنه في السرية وهو تصرف قد نجد له ما يبرره. أما في العلنية فلا تفسير لذلك إلا بالعودة إلى العقيدة التي يصدرون عنها ممثلة في:
1) هذه الحركات تعتبر نفسها الجماعة المؤمنة بألف ولام التعريف فهي حزب الله وما عداها ليسوا إلا حزب الشيطان. قال الغنوشي: «وإن الأحزاب المذمومة يقابلها حزب واحد هو حزب الله»وهو ما يجرّ حتما إلى وضع المخالفين جميعهم في خانة الكفار الذين يجوز التعامل معهم بكل الأساليب بهدف القضاء عليهم مضيفا إلى ذلك قوله: «إن المتتبع بقلب سليم جملة نصوص الإمام حول موقفه من الأحزاب يدرك بجلاء لا غبش فيه أن التعدّد الحزبي على الأقل بالنسبة للأمم الناشئة غير جائز وأنه إذ يدعو إلى اعتماد النظام النيابي لا يرى ضرورة للتعدد الحزبي فهو لا يدعو إلى حلّ أحزاب فاسدة لإحلال أحزاب وطنية فاعلة محلها بل يدعو إلى حل الأحزاب وإحلال حزب واحد محلها يجمع قوى الأمة………. إن حديث الإمام ولئن تنزل في ظروف خاصة بمصر فإن سياقه العام يتجاوز الظرف ليندرج ضمن قواعد النظام الإسلامي»(9) وهو ما يعني أن حركة النهضة لا تؤمن بالنظام الحزبي وإن ذكرته فمن باب المخاتلة التي يقصد بها التلبيس على الآخرين. فهم حزب الله وغيرهم حزب الشيطان.
2) لا تؤمن هذه الحركات بالقوانين التي تنظم الحياة السياسية والاجتماعية أصلا لأنها تعتبر نفسها ذات رسالة إيمانية تبيح لها التصرف دون ضوابط أخلاقية أو عُرْفِيّة. يقول الغنوشي: «وبسبب هذه المهام العظيمة التنظيمية والتربوية الاجتماعية للأحزاب في المجتمع الإسلامي فإن نشوءها لا يحتاج إلى ترخيص من الحاكم لأن في ذلك استجابة لأمر الله في النهوض برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما هو من هذا القبيل لا يحتاج إلى ترخيص من أحد خاصة أن القسم الأعظم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متجه إلى الحاكم فكيف تطلب ترخيصا بنصحه ونقده؟ وكذا إنشاء الصحف وتأليف الكتب وسائر ضروب التعبير وإدارة المساجد»(10) فمن كان هذا حاله هل يمكن أن يفي بتعهده بالبقاء سنة واحدة في المجلس التأسيسي لكتابة دستور؟ أو أن ينضبط لأي قانون من قوانين الدولة؟.
3) رفضها التام للانتخاب الذي هو أفضل الطرق التي ابتكرتها الإنسانية لقيادة الجماعة واختيار الأفضل. قال الغنوشي: «واعتبر الترشح لمنصب من المناصب في الدولة الإسلامية سببا كافيا للحرمان منه. قال عليه السلام (إنا لا نولي هذا أحدا طلبه) ومن ثم لا مجال في المجتمع الإسلامي للحملات الانتخابية يخوضها الزعماء (فلا تزكّوا أنفسكم – سورة النجم الآية 32) وإنما الأمة هي التي تزكي وترشح من تراه كُفْأ»(11).
تلك هي عقيدة الغنوشي التي تسمح له بالإفلات من كل القيود الأخلاقية والتربوية والسياسية المتعارف عليها فتجده يقول القول ونقيضه دون مسبّبات أو مبرّرات أو مقدّمات وهو يعلم مليا أنه كاذب في ما يقول. قال الرسول (ص): «كَبُرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّق وأنت له به كاذب»(12)ولأنه لا يعتبرنا إخوة له فهو المسلم ونحن الكفرة فقد أجاز لنفسه أن يتلاعب بمصالح الأمة فلا يقرّ له قرار إلا حيث هي مصلحته ومصلحة نحلته، وانتظروا منه المزيد.
———————
الهوامش
1) مجلة الموقف، العدد 64 بتاريخ 10 أوت 1985 ص30.
2) مجلة المعرفة، 1 أفريل السنة 1979
3) جريدة الصباح بتاريخ 17 جويلية 1988.
4) مجلة «قراءات سياسية» الصادرة عن مركز دراسات الإسلام والعالم، العدد الثالث لسنة 1993، مقال الغنوشي تحت عنوان «الإسلاميون والخيار الديمقراطي»، ص124 و125.
5) كتاب «الوسطية عند يوسف القرضاوي» لراشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى سنة 2011، ص59.
6) «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» لراشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى سنة 2011، ص364.
7) جريدة المغرب بتاريخ 18 جويلية 2012، ص8 الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص290.
9) نفسه ص289.
10) نفسه ص340.
11) «مقالات» لراشد الغنوشي الطبعة الثانية تونس 1988، ص141.
12) سنن أبي داوود الحديث رقم 4322.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021