الشارع المغاربي: نشرت صحيفة “العربي الجديد” القطريّة منذ يومين مقالا بعنوان “انتحار تلاميذ تونس… إحباط أم غياب للإحاطة النفسية؟”. بمجرّد قراءة هذا العنوان المثير خِلتُ نفسي أقطن في المرّيخ لا في تونس. فلا شيء يُبرّر هذا “العنوان التعميمي” سوى حدوث موجة واسعة من عمليّات الانتحار المؤسفة في الأوساط المدرسيّة، دون أن يعلم بها التونسيّون وأنا من بينهم. سارعت بالاطّلاع على مضمون المقال، علّني أجد إحصائيّات جديدة تكشف تصاعد هذه الكارثة الوطنيّة، لكنّني سرعان ما أيقنت أنّه عنوان كاذب، لا هدف من ورائه سوى المغالطة والتشويه.
ذكرت الصحيفة في مقالها أنّ ولاية القيروان شهدت عمليّتي انتحار تلميذين، جدّت إحداهما في ماي 2023 والأخرى في أكتوبر 2022. وأشارت كذلك إلى محاولة انتحار تلميذة بولاية المنستير في أفريل الماضي، ممّا أدّى إلى إصابتها بكسور بعد إلقاء نفسها من الطابق الأوّل لبناية لم تحدّد مكانها.
لا ريب طبعًا في أنّ عمليّة انتحار تلميذ أو طفل واحد هي في حدّ ذاتها كارثة خطيرة بأتمّ معنى الكلمة، لأنّها تُعبّر عن فشل المجتمع والمؤسّسة التربويّة في حماية طفل انغلقت في وجهه كافّة الأبواب، ولم تتمكّن من استباق الظرف النفسي المتأزّم الذي دفعه إلى الإقدام على وضع حدّ لحياته، وهو في مقتبل العمر. ومع ذلك فإنّ حصول عمليّتيْ انتحار تلميذين لا يُبرّر بأيّ حال من الأحوال حديث الصحيفة عن ”انتحار تلاميذ تونس” كما وصفت كذبًا في عنوانها. كان بإمكانها مثلا الاكتفاء فقط بزيادة حرف جرّ للحديث عن “انتحار تلاميذ في تونس”، أي أنّ تلك الفاجعة المؤسفة مسّت بعض تلاميذ تونس. وعندها تتجنّب المغالطة المقصودة التي تهدف إلى الإيحاء بأنّ الانتحار ظاهرة متفشّية بشكل كبير بين تلاميذ البلاد التونسيّة من شمالها إلى جنوبها.
لا نُناقش في هذه الورقة الموجزة ظاهرة انتحار التلاميذ التي تحدث في تونس كما في سواها من بلاد العالم بنسب متفاوتة. ولا نقف عند الأشكال المشهديّة الجديدة لعمليّات الانتحار لدى صغار السنّ، بوصفها تعبيرات احتجاجيّة عن انسداد الأفق اجتماعيّا ونفسيّا. كما أنّه لا خلاف كذلك في أنّ المؤسّسة التربوية في تونس تتحمّل جانبًا من المسؤوليّة في تنامي هذه الظاهرة، لاسيما انّ المنظومة التربويّة في بلادنا تعيش أزمة حادّة مثل معظم القطاعات. وهو أمر معلوم لدى القاصي والداني، غير أنّ مخرجات التعليم في تونس لم تنحدر إلى مستوى مخرجات نظيرتها في الخليج، حيث يُستورد كلّ شيء من الخارج بقوّة البترودولار، بما في ذلك البرامج التعليميّة الجاهزة التي تأتي من أمريكا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبيّة الأخرى. ومع ذلك، هل سبق أن سمعنا مثلا أنّ قطر أو أيّة دولة خليجيّة أخرى تُصدّر المهندسين والأطباء وغيرهم من الكوادر إلى الدول الغربيّة وغيرها. هؤلاء الكوادر التونسيّة، وعددهم بالآلاف، لو درسوا في منظومة تعليميّة تُشجّع على الانتحار لما حصّلوا ذلك المستوى المتقدّم من مهارات نحت الذات. فعلى الرغم من الانعكاسات السلبيّة العديدة لظاهرة هجرة الأدمغة والكوادر المختصّة عموما فإنّها تُجسّد كذلك جودة مخرجات التعليم العالي التونسي في مجالات عدّة…
لا يتعلّق هذا السرد طبعًا بنوع من “الشوفينيّة” في الدفاع عن صورة تونس، لكنّه يأبى كذلك الصمت عن محاولات التزييف والمغالطة التي دأبت عليها وسائل الإعلام القطريّة في تغطيتها لمستجدّات الساحة التونسيّة. ولا نعني في هذه الورقة أيضا صاحب المقال، بما أنّه للأسف لا حول له ولا قوّة، في ظلّ سياسة تفقير الصحفيّين في تونس، بل نعني الصحيفة القطريّة وتحديدا المشرف على تحريرها. فمن المعلوم أنّ عنوان المقال هو أساسا من مسؤوليّة الصحيفة، ويمكن لرئيس التحرير أو من ينوبه في القسم ذي الصلة تعديله أو حتّى تغييره متى شاء لاعتبارات مهنيّة أو لضوابط تتعلّق بخطّ التحرير. والأكثر من ذلك أنّ الصحف الكبرى في الغرب تُشغّل محرّرين مهمّتهم الوحيدة هي صياغة العناوين. ومع أنّ عنصر “الإثارة” من الأغراض الصحفيّة التي يتمّ على أساسها اختيار العنوان، فإنّه يُشترط ألّا يُؤدّي ذلك إلى عمليّة مغالطة لا علاقة لها بالواقع.
وفي المحصّلة فإنّنا لا نعتقد قطّ أنّ المغالطة الواردة في مقال صحيفة “العربي الجديد” تعود إلى غياب الكفاءة والمهنيّة لدى صاحبة المقال بالنظر إلى فداحة الخطأ، بل إلى خيار المسؤول عن التحرير في المؤسّسة. وهكذا يتبيّن أنّ الرغبة في التوظيف السلبي لأيّة أخبار تسبق طبيعة المضامين الإخباريّة، حتّى إن أدّى الأمر إلى السقوط في ارتكاب أخطاء مهنيّة فادحة في سبيل التركيز على المضامين المغرقة في السلبيّة. ومردّ ذلك تسييس العمل الصحفي وجعله رهين أجندة سياسيّة محدّدة تفرضها السلطات القطريّة على وسائل الإعلام التي تمتلكها أو تُموّلها، وإن تطلّب ذلك الإمعان في التشويه المجاني لأسباب نُدركها جميعًا…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 20 جوان 2023