الشارع المغاربي – في سبيل مراجعة النظام الانتخابي للمجالس التشريعية التونسية/ بقلم العميد الصادق بلعيد

في سبيل مراجعة النظام الانتخابي للمجالس التشريعية التونسية/ بقلم العميد الصادق بلعيد

27 سبتمبر، 2018

الشارع المغاربي :

1 – النظام “النسبي” للانتخابات ومساوئه

إن الوضعية العامة في بلادنا اليوم، تبعث على الحيرة والاستياء وخيبة الأمل؛ فكما تثبت استطلاعات الرأي المتتالية – (انظر آخر نتائج سبر الآراء لصحيفة “المغرب” بتاريخ 6 سبتمبر الجاري) -، فإن 87 في المائة من التونسيين يرون ان’البلاد تسير في الطريق الخطأ’ وان نسبة التشاؤم عندهم ’بلغت مستوى مرتفعا للغاية’؛ إن هذه الأزمة العميقة تجد جذورها في فواعل عديدة، تتصدرها العوامل السياسية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية؛وإن هذه العناصر التي كانت لكل منها بمفرده نتائج سلبية للغاية، فإنها ازدادت تفاقما وسلبية بسبب تراكمها وتفاعلها مع بعضها البعض؛ فرداءة الحوكمة تسببت في تعطل النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وهذا الاختناق الاقتصادي والاجتماعي، بدوره، زاد في التأزم السياسي حدّة وتعطيلا، بما يجعل التنبأ بانفراج الوضعية العامة في البلاد مستبعدا وصعبا، ويَشترط عملا اصلاحيا عميقا وجريئا وشبه ‘ثوري’.

إلا ان كل هذا لا يخفي عنا اهمية الانظمة الانتخابية التشريعية لما لها من تأثير مباشر على سير المؤسسات الدستورية وعلى التطبيق الفعلي للنظام الديمقراطي في بلادنا وبالخصوص، فإن حسن اختيار النظام الانتخابي التشريعي يكتسي اهمية قصوى بسبب تأثيره على التركيبة الهيكلية للمؤسسة التشريعية وبالتالي، على حسن سير النظام الحكمي، عموما، وعلى حسن أداء مؤسسات تأطير العمل السياسي والحزبي، بالخصوص. وإن ما يؤسف له في هذا المجال، هو انه تم في 2011 تمرير المرسوم المتعلق بالنظام الانتخابي على جناح السرعة في الظروف السياسية الحرجة التي هيمنت على تلك
الفطرة وبتعلّة وجوب اعتماد نظام انتخابي انتقالي ووقتي لتيسير انتخاب اعضاء المجلس التأسيسي في اقرب الآجال…والحقيقة أن الأطراف السياسية الفاعلة منذ ذلك الزمن غضّت الطرف عن المسألة وبالأحرى، عن مراجعته، لما وجدت من مصلحة حيوية في الابقاء عليه وفي العمل به في( الانتخابات التشريعية  2014) (والانتخابات البلدية  2018 )؛ وهي ذات الأطراف السياسية التي تحرص اليوم بقوة على عدم المساس بذلك النظام الانتخابي بمناسبة الانتخابات التشريعية القادمة، لأملها في التحصيل على نفس النتائج التي جنتها الى حد اليوم، او حتى، على تحسينها لفائدتها.

إلا أن التأمل في نظام ”التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا” الحالي والمضمّن في القانون الأساسي للانتخابات والاستفتاء عدد 6 لسنة 2014 يثبت مساوئ ذلك النظام، ويدعو الى وجوب التوجه الى نظام انتخابي بديل يتعين تطبيقه بلا تأخّر ولا تردّد في الدورة الانتخابية التشريعية لنوفمبر 2019 ، اعتبارا للأهمية الفائقة لتلك الانتخابات المصيرية بالنسبة لإنقاذ البلاد من الأزمة الخانقة التي جرّتها اليها التركيبة السياسية والحزبية الحاكمة منذ نوفمبر 2011 ،
بل وقد تكون الفرصة الأخيرة لإنجاز ذلك الهدف الأسمى؛ باعتبار أن النظام ‘النسبي’ تميّز كما أسلفنا، بتأثيرات سلبية جدّية وعميقة على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عموما، وعلى مستوى تطور النظام الدستوري والحكمي، بالخصوص.

أ- في تطبيقه الفعلي في بلادنا، لا جدال في أن هذا النظام ‘النسبي’ مخالف بالأساس للديمقراطية لكون ‘قائمات المترشحين’ تُطبخ بكل سرية داخل الهيئات العليا للأحزاب لتُفرض على الناخبين، الذين هم مدعوون يوم الاقتراع، الى التصويت الحصري’لإحدى القائمات المترشحة دون شطب أو تغيير لترتيب المترشحين’ (المجلة الانتخابية، الفصل 107 ) وهذا يعني بصورة جلية ان حق الاختيار والانتخاب قد سُلب من ‘المواطن-الناخب’ بصورة كاملة.

أضف الى ذلك المفعول السلبي الخطير الذي يتمثل في العزوف الكبير عن الانتخابات؛ فلا معنى للديمقراطية التي تَمتنع فيها الاغلبية الساحقة للناخبين عن التصويت وعن المشاركة في العملية الانتخابية؛كما إنه لا قيمة لمشروعية المنتخَبين بنسبة خمس او ربع المواطنين-الناخبين؛ وبذلك، تصبح هذه الديمقراطية وهذه المشروعية صورية وتنقلب الى مجرد مغالطة صرفة…

وهذا الحدث يعتبر خطيرا للغاية لكونه يعبّ بحق عن حدوث قطيعة كاملة بين الناخب وبين المترشح، وبين هذا الأخيرو الشعب،من جهة، وبين الطبقة السياسية، من جهة اخرى.

ب- زيادة على هذه القطيعة العميقة بين المواطنين وبين الاطراف السياسية والحزبية، فإن المشهد السياسي والمؤسساتي في بلادنا تميّز بظهور فراغ سياسي عميق انتهزته بعض الأطراف الحزبية والنقابية وغيرها للتموضع السياسي القوي لصالحها ولإحداث تحالفات ‘سياسوية’ اكثر من أن تكون سياسية بالمعنى الصحيح، ولخلق مناخ مطوَّع لخدمة مصالح فأوية وحزبية وحتى شخصية، وسط مناخ متعفن وفاسد فسح المجال للممارسات المشبوهة والخارجة قطعا عن المبادئ والأعراف الديمقراطية الحقيقية؛ وتُوّجت هذه المعاملات بما سمّي خداعا سياسة ‘التوافق’ مكان القواعد الديمقراطية، فتعطلت بذلك معظم هياكل الدولة ومؤسساتها وأحل الى جانبها – أو، مكانها- نظام سياسي مواز على غرار النظام الاقتصادي الموازي، فانقسمت البلاد إلى شطرين :من جهة أولى، شطر الثراء الفاحش وغير المشروع والانتهازية بكل مظاهرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية البشعة وغيرمكترث بمصير البلاد أصلا بل والمنقطع عنه تماما، ومن جهة ثانية، شطر البؤِس واليأس والفقر الناقم والمخرّب، والمهاجر وحتى، الانتحاري.

ج- الى جانب هذه النتائج غير اللامعة للنظام الانتخابي الحالي، فوجئنا مؤخرا بنبإ مبادرة تشريعية للسلطة السياسية العليا ترمي، في ظاهرها، الى تحوير النظام الانتخابي، يتمثل أهم نقاطها في أ-الزيادة في عدد اعضاء مجلس نواب وكذلك، وبالخصوص، ب -في ترفيع ‘العتبة’ من 3 المائة الى 5 في المائة.
والحقيقة أنه لا يسعنا الا ان نحذّر بكل قوة من عيوب هذه التحويرات، لاعتبارات جوهرية، نوجزها في ما يلي:

*- أنه سيكون لهذا الاقتراح قطعا تأثير سلبي خطير، مقصود اكثر من ان يكون غير مقصود، يتمثل بلا شك في رغبة اصحاب المشروع في القضاء بصورة شبه آلية على العديد من الاحزاب الصغيرة وأول نتيجة لهذا العمل هو انهيار مصداقية ديمقراطية النظام الدستوري الحالي، من عدمه،وتزايُد ذلك الانهيار بمناسبة
كل الانتخابات القادمة.
*- كذلك، إن النتيجة السلبية الخطيرة لهذا النظام الانتخابي ستكون لا محالة، الاحتكار الفظيع للحكم السياسي في البلاد من طرف قطبين اثنين، بالأساس، والى تقاسم غير متوازن لذلك الحكم المحتكر بين طرف متغول تماما، من جهة، وبين طرف آخر، هزيل وقليل الوزن سياسيا، بما يعني انتصاب الحكم الاستبدادي (من نوع ‘الخلافة السادسة’، ربما) آجلا أو عاجلا.
*- إن هذا التقاسم غير المتكافئ سيؤدي حتما الى نتائج سياسية أخطر سلبية من منظومة ‘التوافق’ المعمول بها حاليا؛ فبهذا التقاسم غير المتساوي للحكم السياسي، سيصبح الطرف الأكبر في غنى عن مساندة الطرف الضعيف، من عدمه، بل وسيكون هذا الأخير مجرد آلة لتلميع الصورة ‘الديمقراطية’ للنظام الاستبدادي الجديد، على غرار النظام السياسي لما قبل 2011 ؛ وهذا يعني انقراض الأسطورة الديمقراطية التي يتباهى بها اليوم الساسة التونسيون،غلطا.
*- وأخيرا ولا آخرا، واحقاقا للحق وبكل صدق، لقد عبر الكثيرون عن أسفهم الكبير لما آلت اليه أخيرا قصة مراجعة النظام الانتخابي، وذلك للأسباب التالية، نذكرها بإيجاز شديد:

إن فكرة مراجعة النظام الانتخابي كانت في الأساس، نتيجة مبادرة أكاديمية بحتة، قام بعرضها ثلاثة اساتذة جامعيين معروفين، صادف ان بارَكها علنا وبذكر اسماء اصحابها، رئيس الجمهورية، نفسه؛ ولقد استبشر الجميع بهذه التزكية لأملهم ان يكون التحوير المقترح طالع خير في سبيل ارساء الديمقراطية الحقة
بالبلاد؛ إلا ان خيبة الأمل كانت كبيرة عند الاطلاع على المشروع الحكومي الذي جاء مناقضا تماما لمشروع الجامعيين باعتبار انه، لا فقط حافظ على النظام الانتخابي “النسبي” المعمول به الى حد الآن، بل وعمّق في خطورته بما يهدّد بصورة جدية للغاية النظام الديمقراطي في أساسه ويمثل بذلك خرقا فاحشا للدستور باعتبار ان ‘النسبية’ هي نظام انتخابي غير ديمقراطي بالأساس وغير دستوري يتعين مقاومته امام الهيئات القضائية المختصة، خاصة انه وقع تشديد خطورته ب’العتبة’ التي اعتمدت قصدا لحرمان احزاب سياسية معينة من الفوز ببعض المقاعد في مجلس النواب.
2 – النظام الانتخابي المقترح.
بلا جدال، النظام الاكثر ديمقراطية والمعمول به لهذا السبببالذات هو “الاقتراع بالأغلبية في دورة واحدة او دورتين”، وهذا هو النظام الأكثر رواجا في اغلب البلاد المعاصرة؛ وهذا هو النظام الذي اقترحه بعض الجامعيين في سنة 2011 – وكنا من بينهم- ووقع نشره في وسائل الاعلام آنذاك؛ نحن نأسف لعدم اخذه بعين الاعتبار في تلك الفترة ولتفضيل المشرعين النظام ‘النسبي’ لانخداعهم لاعتبارات سياسوية معروفة؛ وبما ان ‘النسبية’ التي اعتمدوها ابرزت نقائصها ومساوئها ثلاث مرات متتالية، فإنه يتعين علينا اعادة الكرّة في هذا المجال والتقدم من جديد بنظام الأغلبية في دورتين؛ فالمبدأ هنا هو ‘النظام الانتخابي بالأغلبية في دورتين’.

لكن، مع تبنينا هذا النظام الانتخابي بالأغلبية، فإننا ادخلنا عليه تحويرا اساسيا، نريد به التماهي مع المستجدات الدستورية الهامة للدستور الجديد، خصوصا حين يعلن مبدأ المساواة بين الجنسين، بالخصوص في المادة 21 والمادة 34 ؛ وبما انه ثبت ان التمثيل للمرأة في المجالس المنتخبة مثل مجلس النواب والمجالس البلدية كان غير مُجز في حق المرأة وبعيدا من ان يكون في الواقع الملحوظ متناسبا مع تعزيز تمثيليتها فيها، فإننا تقدمنا في مبادرتنا باقتراح
يحقق لفائدة المرأة التمثيل المتساوي مع الرجل في الانتخابات للمجالس التشريعية بفضل تنقيح نظام الاقتراع المتداول – وهو الاقتراع الفردي’ – ب’الاقتراع ‘الثنائي’ او ‘الاقتراع المزدوج’، أيإن الترشحات ستكون في قائمات مزدوجة مكونة من ‘رجل وامرأة’ لكل قائمة؛ وبذلك يتحقق مبدا المساواة بين الرجل والمرأة؛ وفي ما يلي، نقدّم توضيحات حول هذا النظام الانتخابي الجديد:

*- إن النظام الانتخابي المقترح يعتبر انتصارا كبيرا للديمقراطية التشاركية المضمّنة في دستور 2014 لكونه يمثل الأداة الفعالة لتحقيق المصالحة الصادقة بين المواطن التونسي وبين عالَم السياسة، وهي التي بدونها لا يمكن للعمل السياسي ان يتجذر في المجتمع التونسي وأن يتطور بصورة جدية؛
*- إن النظام المقترح بقدر ما يفتح باب الترشحات امام جميع التونسيين، رجالا ونساء، في قائمات ‘ثنائية’ وبلا حصر لعدد تلك القائمات وبكامل الاستقلالية، لا يمنع الاحزاب السياسية من المشاركة بما ارادته من قائمات ‘ثنائية’ وبلا حصر لعددها.

*- إن النظام الجديد يمثل حافزا قويا لمشاركة المرأة في الانتخابات باعتبار انه لا يمكن لقائمة ما ان تتكوّن دون مشاركة نسائية متساوية فيها.
*- إن هذا النظام يفتح المجال واسعا امام الشباب لكونه لا يفرض عليه الانتماء الجبري الى احزاب قد لا يريد الانتساب اليها لاعتبارات مختلفة.
*- إن النظام المقترح يغنينا تماما عن فكرة ‘العتبة’ ويلغيها قطعا، مع كل الإشكاليات والمزيدات التي تتعلق بهذه الفكرة. ولكل هذه الاعتبارات، فإننا ندعو الى التخلي عن المشروع الحكومي لمراجعة النظام الانتخابي التشريعي، الذي نعتبره “خطوة الى الوراء” في سبيل اقحام الديمقراطية الحقة في النظام السياسي التونسي ونرى فيه محاولة مغالطة صارخة للرأي العام التونسي، وندعو الى التطبيق الصادق للنظام الانتخابي المقترح باعتبار انه يمثل التطبيق الحقيقي لمبدا ديمقراطي صرف تبناه الشعب التونسي في جانفي 2014 .

صدر باسبوعية الشارع المغاربي في عددها الصادر يوم الثلاثاء 25 سبتمبر 2018.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING