الشارع المغاربي: إثر صدور قرارات 25 جويلية الماضي القاضية بتجميد البرلمان خرج التونسيون فرحين وفي تقديرهم أن غمّة حكم العشر سنوات الماضية في طريقها إلى الزوال خصوصا بعد أن جمع رئيس الدولة كلّ السلطات في يديه. ورغم انخراط حزبين شاركا حركة النهضة في الحكم في المساندة فإن الجميع تغاضى عن ذلك لأن المهمّ أيامها هو مساعدة الرئيس ودفعه إلى ترجمة تلك القرارات إلى أفعال. غير أن ما حدث كان مخيّبا للآمال ومحبطا خصوصا بعد أن تتالت خطوات التراجع والالتفاف على ما اعتقد الشعب ذات عيد جمهورية أنه سيحصل وهو ما دفع بقسم كبير من مساندي قرارات 25 جويلية إلى نفض اليد منها لأسباب من بينها:
1) زيارة الرئيس مجمع محمد الفريخة النائب السابق عن الفرع المحلي للتنظيم الدولي للخوانجية في البرلمان المجمّد وهو شخص تحوم حوله شبهات كثيرة إذ ورد ذكر اسم شركته في التسفير إلى سوريا وهو أمر يمكن أن يكون صحيحا إذا وضعنا في الاعتبار أن الحزب الذي ينتمي إليه متّهم صراحة بتسفير شبابنا إلى بؤر التوتر علما أن أوّل قرار كان من المفروض اتخاذه لتنفيذ وعد 25 جويلية هو إعادة العلاقات مع سوريا لأن ذلك سيمكّن الحكم لو كانت النيّة صادقة من الحصول على الوثائق والاعترافات الكفيلة بإدانة كلّ من تسبّب في الهوان الذي عليه الوطن اليوم.
2) سبق لنوفل سعيد أن تدخّل بشرح ما يصدر عن شقيقه ولكن ذلك أثار لغطا كثيرا دفعه إلى التزام الصمت، غير أن تأثيره لم يتوقف، فقد ذكر وليد الجلاد في آخر تصريح له في برنامج لزهير الجيس أن نوفل سعيد هو محامي فريخة أي الذي يدافع عنه ويحمي مصالحه، وهو ما يثير الشكوك حول الهدف والمغزى الحقيقي من زيارة الرئيس لشركة الفريخة. والجدير بالملاحظة التذكير بأن نوفل اعتبر في تصريحاته ومحاضراته المنشورة إصلاحات دولة الاستقلال كإلغاء الأحباس والمحاكم الشرعية واصدار مجلة الأحوال الشخصية إنما قُصد بها السيطرة على المجتمع مشيدا في ذات الوقت بحركة النهضة باعتبارها خطوة في طريق استقلالية المجتمع المدني عن الدولة(1) وهو ما يعني أن هناك التقاء بين المذكور وحركة الإسلام السياسي خصوصا في فرعها الذي يشرف عليه احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي إذ كان عضوا بهيئة تحرير مجلة 15/21 التابعة لِما يسمّى نحلة اليسار الإسلامي كما أن نشاطاته موثّقة في جمعية أسّستها هذه النحلة سنة 2013 تسمّى رابطة تونس للثقافة والتعدّد .
3) أورد موقع»حقائق أون لاين» يوم 21 مارس 2022 في خبر له نقلا عن إطار أمني أن رئيس الدولة «أصدر تعليمات بتطبيق القانون بصرامة على المجاهرين بالإفطار خلال شهر رمضان» وقد انتظرنا أن يصدر توضيح عن الرئاسة أو وزارة الداخلية ولكن شيئا من ذلك لم يحدث إلى حد اليوم الأحد 27 مارس مما يرجّح فرضيّة صحّة ما ذكر وهو أمر على غاية من الخطورة لأنه ليس من مهام الدولة أن تمارس الرقابة الدينيّة على مواطنيها. فالدولة جهاز محايد لا علاقة له بعقائد الناس وبعباداتهم، وحتى من الناحية الدينية الصرفة فإن ما صدر مرفوض بصريح النص القرآني. جاء في الآية 99 من سورة يونس: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». وقد أبدع الفقهاء في وصف هذا النوع من الإكراه على العبادة في قولهم «عفّة الخصيان» حيث يشبّه من تُكْرهه الدولة على الصيام بإغلاق المطاعم والمقاهي بأنه كالخصيّ الذي يدّعي العفّة والحال أنه لا يمتلك آلة الزنا، وبيّن أن هذا النوع من مصادرة حقوق المواطنين يصدر عن تقدير مبالغ فيه لدور الدين في المجتمع. ذلك أن سياسة سحب البساط التي لم تتوقف الدول المسمّاة إسلامية عن انتهاجها أدّت إلى المزيد من الانغلاق والتحجّر والتخلّف. ففي تونس مثلا لم تكن هذه المسألة مطروحة أبدا في عهد بورقيبة ولكن الذي أوجدها في إطار المنافسة على الخلافة وتحالفه مع حركة الاتجاه الإسلامي هو محمد مزالي الذي أصدر منشورا يتمّ بمقتضاه إغلاق المقاهي والمطاعم في رمضان إلا أن الزعيم ألغاه حال علمه به ولكن مزالي لم يتوقف عند ذلك بل التجأ إلى حيلة نصحه بها الجورشي وهي تغطية أبواب المحلات ونوافذها في صورة في منتهى الشناعة وفساد الذوق تدلّ على بؤس المقترِح والمقترَح عليه وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء السابع من نوفمبر الذي زاد الطين بلّة بإحداث جامعة الزيتونة ووزارة الشؤون الدينية وغيرهما بما اوهم بأنه ذلك يندرج في إطار المحافظة على الهويّة ولكنه في حقيقته ترجمة لسياسة ثبت فشلها اصطلح على تسميتها سحب البساط. اليوم تعود الدولة إلى ممارسة نفس السياسة والغريب في الأمر أن الذي يقف على رأسها رجل قانون كان من المفروض أن يكون محايدا في تعامله مع مواطنيه فلا يفضل بعضهم لسبب ديني أو عرقي أو لغوي أو أي من المحدّدات الأخرى ولا يُكره البعض الآخر على النفاق بإظهار غير ما يبطنون.
4) أما رابعة الأثافي فتتمثّل في الفصل الثامن من مرسوم الشركات الأهلية الذي جاء فيه: «يتعيّن أن يكون موضوع الشركات الأهلية مطابقا للقانون والنظام العام والأخلاق الحميدة». وقد تساءلت منذ البداية عن ضوابط الأخلاق الحميدة وما دخلها في تكوين الشركات؟ وبعد أن قلّبت الأمر على مختلف وجوهه وجدت أن ما قُصد بهذا القيد المنفلت من عقاله إنما هي مجالات الإبداع والفكر والنشر. فإذا رغب شباب في إنشاء شركة لصناعة فيلم أو كليب أغنية أو غيرهما من الفنون فعليهم ألا يتجاوزوا الأخلاق الحميدة وهي لفظة مطاطة تشمل القبلة ومجرد التحية ولبس الحجاب والرقص والرسم وغير ذلك، وهو ما يُمكِّن السلطة من فرض رقابة على مواطنيها تحت ستار حماية الأخلاق الحميدة مثلما صنعت مع الإفطار في رمضان.
5) ما يجب أن نشير إليه هو أن امتناع الرئيس عن محاسبة النهضة عن الفشل والانهيار اللذين يشهدهما الوطن في مختلف المجالات مكّن الحركة من التفصي من مسؤولية ذلك وإلباس جبة فشل عشرية كاملة من النهب والتعويضات والانخراط في أجندات دولية في غير مصلحتنا لرئيس الدولة حيث جاء في بيان مكتبها التنفيذي ليوم 25 مارس ما يلي: «وتُحمّل رئيس الدولة مسؤولية فشل الحكومة اللاشرعية المعيّنة من قبله في معالجة الأوضاع المعيشية والزيادة في الأسعار والنقص الفادح في المواد الأساسية وإغراق الإدارة بالتعيينات الفاقدة للخبرة والكفاءة»، فعلى من لا خبرة له بالمعارك يا سيادة الرئيس ألا يخوضها لأنه هو الخاسر فيها في كل الأحوال».
لكلّ ما ذكر أعلاه وبعد انتظار ثمانية أشهر كاملة تأكّد أن حكم ما بعد 25 جويلية لا يختلف سياسيّا عن الذي قبله إلا في الشخوص. أما السيّاسات فهي ذاتها: خارجيا علاقاتنا بسوريا مقطوعة وداخليا لم تحاسب النهضة على جرائمها في التسفير والاغتيال والنهب. أما جمعياتها وبؤرها فمحميّة بقرار من سلطة 25 جويلية رغما عن الجميع.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 مارس 2022