الشارع المغاربي: ”ما الذي يُؤخّر الدعم الخليجي لتونس؟”، شكّل هذا السؤال عنوانا لمقالٍ نشرته صحيفة “العرب” اللندنيّة في عددها الصادر يوم أمس، غير أنّ الإجابة الصريحة عنه تعطّلت وتوقّفت عند إعادة ترديد شعارات فضفاضة تحجب أجندة تعمل ضدّ انعتاق تونس من الأزمات المتراكمة التي تعتصرها!…
تمرّ اليوم سنتان بالضبط على إجراءات 25 جويلية 2021 التي منح الرئيس قيس سعيّد نفسه بمقتضاها صلاحيّة الانفراد بكافّة السلطات في البلاد. ولا يخفى على أيّ متابع موضوعي أنّ حصيلة العامين المنقضييْن كانت، للأسف الشديد، هزيلة جدّا سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وحقوقيّا. وبصرف النظر عن وطأة التعقيدات الداخليّة والخارجيّة التي أضنت البلاد وأنهكتها وعن التركة الثقيلة لِما قبل 25 جويلية 2021، فإنّ العجز عن حلّ الأزمات المتراكمة في البلاد أكّد مجدّدًا أنّ الحكم الفردي في بلدٍ مثل تونس غير قادر عن تحقيق ما يُبشّر به من وعود وتغييرات…
ومع ذلك فإنّ نقد الأوضاع السائدة في تونس وتشخيص قصور سياسات الدولة وأداء كبار مسؤوليها أو حتّى تجاوزاتهم، لا يعني بتاتًا الاستكانة لأجندات إعلام أجنبي لا يَهُمّه مطلقا العبث بمصالح البلاد التونسيّة والمضيّ في تشويه صورتها بشكل منهجي، لاسيّما أنّ وسائل الإعلام الأجنبيّة تلك تتوجّه بالأساس إلى جمهور غير الجمهور التونسي.
نتحدّث هنا إذن عن الإعلام الأجنبي، والقطري منه بالخصوص، الذي واصل تصعيد انتقاداته للأوضاع السيّئة بطبعها في تونس، حتّى بات يتصيّد أي حدثٍ عابرٍ لتوظيفه في بثِّ سموم أحد أهمّ محاور أجندة قطر الخارجيّة المتمثّلة في دعم تنظيمات الإسلام السياسي الخاضعة معظمها لتعليماتها وتمويلها.
يكفي، في هذا السياق، الاطّلاع على نشرات قناة “الجزيرة” أو مضامين العديد من الصحف القطريّة للوقوف على الصورة الرهيبة التي تُشكّلها عن التونسيّين وتونس برمّتها، لا فقط عن سلطتها التنفيذيّة. فخلال الأيّام الأخيرة، صعّدت تلك المنابر من توصيفها للمأساة الإنسانيّة التي يُكابدها مهاجرو جنوب الصحراء في تونس ولما يتعرّضون له من سوء معاملة وجحيم القمع والعنف والطرد والترحيل… وقد بلغ الأمر حدّ توظيف الميليشيات الإسلاميّة المسلّحة في الغرب الليبي في اقتلاع “اعترافات” من مهاجري جنوب الصحراء حول الممارسات العنصريّة المنهجيّة التي كانوا ضحايا لها في تونس من شمالها إلى جنوبها. ولا يخفى طبعًا مدى مساندة قناة “الجزيرة” القطريّة للميليشيات الليبيّة التابعة سابقا لجماعة “فجر ليبيا” الإخوانيّة والحاضرة بقوّة بالقرب من الحدود التونسيّة وتحديدًا في زوارة وصبراتة اللتين كانتا معقلا أساسيّا لعصابات تجارة البشر واستثمار بؤس مهاجري جنوب الصحراء الساعين بكلّ السبل إلى الوصول إلى الضفّة الشماليّة للمتوسّط… فهل سبق أن انتقدت وسائل الإعلام تلك اضطهاد العمالة الآسيوية في قطر وسائر دول الخليج؟، وهل قامت ولو بدور بسيط في مناهضة نظام الكفيل العنصري في الخليج الذي يحتجز بقوّة القانون جوازات سفر العمّال الأجانب؟ وهل ناضلت من أجل توسيع هوامش الحريّات الفرديّة والحقوق المسلوبة لمواطنيها وخصوصا للنساء الخليجيّات اللائي يُحرمن من إسناد الجنسيّة آليًّا لأبنائهنّ إذا كنّ متزوجات من أجانب، وغير ذلك كثير؟
وإذا تأمّلنا مضامين الكثير من وسائل الإعلام الخليجيّة وممارساتها إزاء تونس، نتيقّن بيُسر أنّها أبعد ما يكون عن العمل الصحفي وضوابطه ومقتضياته، وأنّها على العكس من ذلك مجرّد تنزيل لأجندة خبيثة لا تمتنع قطّ عن توظيف أوجاع البؤساء والجائعين والمحبطين من المهاجرين، ولو تطلّب الأمر عقد “زواج مسيار” بين المال والسلاح والإعلام كما هو الأمر مع الميليشيات الليبيّة المذكورة… فكيف تتحدّث بكلّ صفاقة عن معاناة المهاجرين غير النظاميّين في تونس، وهي التي تُقرّ مراسيمها الأميريّة أو الملكيّة بالزجّ في غياهب السجون بكلّ شخص أجنبي أقام بالبلاد بشكل غير قانوني؟!
وعموما فإنّ تونس لم تحظ، بعد الثورة، بدعمٍ معتبرٍ من أيّ دول خليجيّة تقريبًا. وجلّ ما في الأمر أنّ بعض أنظمة البترودولار، وخاصّة قطر والإمارات، استثمرت حالة ارتباك الدولة التونسيّة وضعف دورها الرقابي في تخصيص الدعم لا للدولة وإنّما لأتباعها في تونس من اليمين أو اليسار أي سواء من الإسلاميّين أو معارضيهم. وليس من المغالاة أو المبالغة إعادة التأكيد على أنّ تحوّل تونس الوشيك إلى دولة ديمقراطيّة حقيقيّة بعد 2011 كان هاجسا مخيفا لدى معظم الأنظمة الوراثيّة الخليجيّة التي لا تزال أغلبها إلى حدّ اليوم الأكثر تخلّفا في العالم على صعيد التنظيم السياسي والأكثر عداءً للديمقراطيّة والتعدّديّة السياسيّة وحريّة الرأي والتعبير.
كيف إذن لمثل تلك الأنظمة الريعيّة أن تَقبل بتشكّل نظام عربي ديمقراطي جديد في منطقة موبوءة إلى حدّ الأخمصين بالاستبداد وسيطرة الأقليّة القبليّة الحاكمة على عائدات الثروات الطبيعيّة وهيمنتها حتّى على الأفكار والأرواح؟! وكيف لها أن تغضّ الطرف عن انطلاقة جديدة لبلدٍ سبقها بعقود طويلة في تأسيس بعض مقوّمات الدولة الحديثة، بل وأسهمت كوادره وبعثاته على مرّ السنين في تأسيس أجهزتها التعليميّة والصحيّة وحتّى الأمنيّة؟!
كان من المنتظر إذن أن تحاول تلك الأنظمة بكلّ ما لديها إجهاض التجربة الديمقراطيّة التونسيّة المترنّحة التي لم يبق منها سوى الأثر الموجع، وأن تدفع وسائل إعلامها دفعا إلى التحامل المنهجي على تونس والحفر عميقا قصد تشويه هذه البلاد وأبنائها عربيّا ودوليّا، انطلاقا من حقيقة أنّه لا وجود على أرض الواقع لشيء يُسمّى “تضامن عربي” إلّا على أوراق مقرّرات الجامعة العربيّة ومشتقّاتها الصوريّة!. من ثمّة لا سبيل لهذه البلاد للنهوض من غفوتها المطوّلة ومن أزماتها السياسيّة والاقتصاديّة الحارقة ومن تعثّر انتقالها الديمقراطي إلّا بجهود أبنائها ولا أحد غيرهم…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 جويلية 2023