الشارع المغاربي: من المؤسف أن يتحدّث المرء عن نجيب الشابي بما لا يسر سواء في المطلق من المناسبات أو بمناسبة مثوله الأخير أمام التحقيق في ملف” التآمر على أمن الدولة”. من المؤسف ذلك لأنّ الرجل يختزل ما يقارب العقود الستة من الحضور في المشهد السياسي التونسي. من المؤسف ذلك أيضا لأنه كلما راكم رصيدا من الإشعاع، بَدَّدَهُ في أوّل منعرج وبذّره تبذيرا. ويبدو أن مرد ذلك لديه إلى “تلازمية ثلاثية” لا تنقطع عن دفعه إلى ذَينِك التّبديد والتّبذير. هي أولا تعثّره في الإنتقال من النضالية إلى السياسة، وثانيا إدمانه إخوانَ النهضة رغم الأذى الذي أصابه منهم، وثالثا هاجس رئاسة الدولة مهما كانت السبل إليها.
أولا : من النضالية إلى السياسة
بعد سنة2011 اندثرت الأحزاب التي كانت تعارض السلطة بموافقتها ووفق الحدود التي ترسمها لها. وسَلِم من هذا المصير نجيب الشابي و”حزبه الديمقراطي التقدمي”. فقد شفَع له كونُه كان معارضا فعليا إلى حدّ مّا، وأنّ له رصيدا مديدا من نضالية يفوق المعترفون له بها ناكريها عليه.
في فترة الصخب الثورجي الأهوج بعيد جانفي 2011، كان لنجيب الشابي موقفان لافتان بدّدَهما لاحقا، وهما رفضه حلّ حزب” التجمع”، ومناداته بانتخابات رئاسية مبكرة في أجل أقصاه ستون يوما وفق دستور 1959. أما رفضه حل “التجمع” فقد بدا وقتئذ موقفا رصينا مدركا لتبعات الفراغ المترتب على حل التجمع، مثلما بدا موقفا نفعيا ، لأنه ربما كان يستبطن أن يستفيد هو من الباقين فيه استفادة جائزة. وأما مناداته بانتخابات رئاسية فكانت خيارا بنّاءً لأنه كان سيُجنّب البلاد المتاهات التي انتهت إليها ، ولأن السياق كان سيمكّنه من الرئاسة. فقد كان وحزبة عنوان تلك اللحظة الأظهر.
لكن السذاجة السياسية اليسارية والمكر الإخواني فوّتا تلك الفرصة بدفع الأمور إلى انتخابات تأسيسية بعد أشهر استثمرها إخوان النهضة في الإستعداد لها واستثمرها اليسار في تقديم البلاد للإخوان.
في هذه المرحلة وجد نجيب الشابي نفسه في مرحلة نقلة من نضالية ما قبل سنة 2011 وأحكامها إلى الممارسة السياسية العلنية المتاحة وأحكامها الخاصة بها. وها هنا تعثّر الرجل، ولم يستطع أن يدمج النضالية في الممارسة السياسية دمجا فطنا يقيد الأهداف بالوسائل. من ذلك قبوله في تلك المرحلة المتحركة منصب وزير التنمية المحلية في مرحلة ليست مرحلة تنمية، معتقدا أنها منفذ له إلى خزان الجهات الإنتخابي. لكن قسما من التونسيين خاب ظنهم فيه إذ رأوه ولوعا بالمنصب فحسب. فقد تجاهل الشابي أن الحكومة التي انتمى إلى تشكيلها كانت وقتية، ولا خطة لها ولا برامج. وهذا ما فهمه الإخوان ولم يفهمه الشابي، وإن لم يطل مكوثه في تلك الحكومة. وتبعا لجملة من الممارسات والمشهديات السياسية التي لم تكن موفقة، خسر حزبه إشعاعه، ولم يفز في المجلس التأسيسي بما كان يتوقع، وبما كان ممكنا، ولم يشفع له اتجاهه إلى أن يعارض حكومة “الترويكا”معارضة لم يكيّفها مع أحكام الممارسة السياسية الحزبية الملائمة لتلك المرحلة، فضلا على دور للإخوان في ذلك، وهو دور خسيس لا نعلم كيف يصرّ الشابي على تناسيه رغم توالي ضرباتهم له.
ثانيا : إدمان الإخوان
رغم” تقدمية” نجيب الشابي التي يصرّ عليها في” التجمع الديقراطي التقدمي” ثم في في”الحزب الديمقراطي التقدمي” “فالحرب الجمهوري”، فإن لديه ما يشبه إدمان الإخوان والعمل معهم ، رغم أنهم سبق أن استعملوه استعمالا انتهازيا لئيما. فلما اشتد عليهم الخناق ابتداء من عشرية التسعينات من القرن الماضي، اندس بعضهم في الحزب الحاكم “التجمع”و اندس بعضهم الآخر في حزب تجيب الشابي الناشط بصفة قانونية. ومثلما أخطأ “التجمع” في عدم استصفاء المنتسبين إليه ودفع الثمن، أخطأ الحزب “الديمقراطيُّ التقدمي” مُدمِنُ الولع بالإخوانية.و مِن الإخوان مَن حصّلوا في حزب الشابي مواقع متقدمة، ظهرت تبعاتها حين انفض عنه بعضهم إلى تنظيمهم إثر 2011، وحين بقي فيه بعضهم الآخر إلى وقت متأخر ، بعد أن نفّذوا تجريفه من الداخل تنفيذا متكاملا مع ضربه من الخارج.
ومن إدمان الشابي للتنسيق مع الإخوان أن شاركهم ، بمعية آخرين محسوبين على القيم التقدمية، جبهة 18 أكتوبر 2005. ذلك أن هذه الجبهة قد أكسبت إخوان النهضة قناعا من الانفتاح للتيارات” التقدمية والحداثية”. وهو قناع سوّقوه للخارج تسويقا جنَوا حصاده في 2011، وجنى شركاؤهم في تلك الجبهة، بمن فيهم الشابي، ما جناه سنمّار.
وبعد 25 جويلية 2021، أبى الإخوان إلا أن يعاودوا لعبة استعمال الصنائع ، وأبى إدمان نجيب الشابي إلا أن يدفعه إليهم في الكيان المسمى”جبهة الخلاص”، وأن يحتلّ منه الصدارة، والحال أن الكل يعلم أن حصادها المرجو لن يكون ، إن كان، إلا في زاد الإخوان. لا بل انصهر نجيب الشابي في الورع الإخواني، وصار يندّد بأعداء الإسلام على طريقة نجباء الله وآياته تنديدا جدد به أحقّيته بكنية”نجيب الله” التي سبق أن أُطلِقَت عليه.
ثالثا: هاجس الرئاسة
لو تتبعنا أغلب الخيارات والمواقف التي دأب عليها نجيب الشابي، لَرَجُح أن محرّكها الأول لديه هو هاجس تحصيل رئاسة الجمهورية. وهذا الهاجس من حقة من حيث الأصل، لاسيما أنه ليس أقل شأنا ممّن فازوا بها.
لكن الرصيد الذي يدعي الشابي لنفسه ويحب أن بحافظ عليه، لا يسمح له بأن يتمسك بهذا الطموح تمسكا لا ينشغل بالسبل المفضية إليه ولا بالشركاء فيها إليه. وقد تخلّقت له فرصة مواتية بعيد جانفي 2011. لكن ما حال دون وصوله إلى غايته سوءُ إدارته السياسية للمرحلة ، وسذاجةُ اليسار أو بغضاؤه، والمكر الإخواني.
ودفعه الهاجس نفسه إلى معاندة الوهن الذي أصاب حزبة وأصاب شعبية شخصه فترشح لرئاسية سنة 2014، فنال نسبة مخجلة، وتلقى حزبه في تشريعيتها خيبة مدوية.
كان على نجيب الشابي بعد كل هذا أن يغير مسلكه السياسي تغييرا جذريا أو أن يكتفي بما كان له منه. لكنه اندفع بعد 25 جويلية 2021 إلى”جبهة الخلاص” التي يحركها الإخوان، آملا أن تكون مطيته إلى الرئاسة. فقد وضع يده في أيدي الإخوان صارفا النظر عن الكوارث التي أشاعوها في البلاد وعن الأذى الذي ألحقوه به هو نفسة، وعن حقيقة أن هذا التنظيم عنكبوت يلتهم من يزاوجه.
ولما شاع مرض سعيد الحقيقي أو المزعوم، انساق الشابي مع خطبة العنوشي التي رسم بها خريطة طريق لما بعد سعيد، وصار يلقي التصريحات التي يضمّن فيها تلميحا أنه الرئيس القادم بآلية”الحوار والتوافق”بعبارته. فقد انقض على الوهم انقضاضا متسرعا سمجا.
وسواء كان للشابي دور في ملف “التآمر على أمن الدولة” المبهم أو لم يكن، وهذا المرجح، فإنه قد ضيق على نفسه مجال الحركة السياسية وأحاطها بمطامح الإخوان في “جبهة الخلاص” التي لا تخرج عن هاجس استرجاع الحكم المباشر. فقد تمسك بمعجمهم وآليات تفكيرهم ، ولم يلتفت إلى خلاف ذلك. وليس أبلغ من غفلته عمّا يجري اليوم بين سعيد وبعض الدول الأوروبية من صفقات محتملة يجريها سعيد في “الغرف المظلمة” بعبارته التي كان يتهم بها غيره لبقي ما قد يُحاك أو يُدبّر مجهولا. وتونس تتحول الى وِجهة أوروبا الرسمية ووِجهة إفريقيا الشعبية وصفاقس الى “باماكو” الجديدة ، ينشغل نحيب الشابي بأعداء الإسلام في الغرب وليس بأعداء تونس في الغرب وفيها.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 20 جوان 2023