الشارع المغاربي:
من الواضح أن ما وُصف بأنه ” أحسن دستور في العالم” كان في الحقيقة، من بين أسوئهم. ولقد أنذر الملاحظون – وكنا من الأولين منهم – ان دستور 2014 سيكون مصدر صعوبات عدة وانه يتعين فتح باب المراجعات والتحويرات فيه في أسرع وقت لتجنب تراكم الصعوبات والمزايدات حوله. وبكل أسف، لاحظ الجميع ان صعوبة إعادة التحوير تزداد وتتفاقم مع مرور الزمن ومع تراكم العقبات والعوائق، الخفي منها والمكشوف. وفي آخر المسار، ها قد نادى مناد جاء فجأة بأن لا فائدة في المراجعات لنص أصبح لاغ بصورة نهائية وبأنه من الواجب الاستعداد لتحرير دستور جديد.
في هذا الورقة، نود تقديم بعض ما اهتدينا اليه من وحي التجربة الفارطة وما يبدو من الاصلح اعتماده في سبيل وضع نظام سياسي أفضل من السابق، مع التنبيه الى اننا لا نعتزم تقديم مشروع دستور جاهز ومتكامل وانما سنكتفي ببسط بعض الأسئلة حول هذا المشروع.
الدستور نصا
-1 من يكتب الدستور؟: اثبتت تجربة 2011-2014 عدم نجاعة كتابة الدستور من طرف هيكل سياسي (او أتعس من ذلك) من طرف هيكل “مسيّس”. كما أثبتت هذه التجربة أن الطريق الاصلح هي تكليف هيئة مختصة مكونة من خبراء مستقلين بهذه المهمة، على أن يقدم بعدها ذلك المشروع الى هيكل سياسي للمصادقة والإقرار (انظر: فرنسا 1958).
2 – مَا يٌكتب في الدستور؟: الدستور، مهما كانت براعة واضعيه ليس كتابا مُنزّلا. لهذا، يكون من الأفضل الّا تدرج في الدستور الا الاحكام العامة وفي أسلوب سلس يتلاءم مع تطور المصالح ويتأقلم مع التوازنات السياسية والاجتماعية.
3 – كيف يكتب الدستور؟: ان أفسد أسلوب لتحرير الدساتير ذلك الذي يٌتصور ان الاكثار من التفاصيل فيه هو خير ضمان لحماية أحكامه. لننظر الى السابقة البريطانية التي ليس لها أي دستور مكتوب منذ عشرات القرون والتي هي مؤسسة على أن احترام التقاليد والاعراف السياسية هو الطريق الاسلم للتطور والتقدم. – فإن الايجاز في التعبير مع دسامة المفاهيم أفضل من الاكثار من التفاصيل والعبارات الإنشائية. لهذا، فإن اقتراحنا هو ان يقتصر الدستور الجديد على الإعلان عن المبادئ العامة في أقسامه الهامة وان يعهد بالتدقيق فيها والتفصيل الى قوانين أساسية او قوانين عادية حسب الحاجة وحسب املاءات التطور الاجتماعي والسياسي.
الدستور مضمونا
4 – اقسام الدستور: من بين الهفوات العظمى التي تلاحظ في نص “أحسن دستور في العالم” غياب او بالأحرى، تغييب العنصر الاقتصادي والاجتماعي فيه. نحن لا نرى تفسيرا لهذه الفضيحة سوى جهل المتمكنين بالحكم في البلاد لمدة الـ12 سنة الفارطة التي ترقى الى مستوى العمل الاجرامي. لذا، يتعين العمل على تلافي هذه الهفوة الاجرامية وعلى ادراج المبادئ الأساسية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد وانشاء الهيكلية القادرة على القيام بهذا العمل الحيوي.
5 – الهام والاهم: من الطبيعي ان كل حزب او تيار سياسي يعتبر أفكاره واختياراته هامة وانه من الضروري اقحامها في نص الدستور. لكن، من الواجب التحذير من مخاطر مثل هذه النزعات، فهي التي ستكون الذريعة لتقديم العديد من المشاريع القانونية غير الضرورية بدعوى انها التطبيق الأمين لما جاء في الدستور. وبالتالي، فإنه سيكون من الأصلح الاقتصار على ادراج “الأهم” صلب الدستور وارجاء التحريرات الجزئية الى العمل التشريعي.
6 – ما معنى “دولة القانون والمؤسسات”؟: هذا من بين المبادئ الأساسية – بل، لنقل “الحيوية” – لإرساء نظام دستوري مستقر ومتوازن ومستدام. لكن، هناك وراء هذا المبدأ عائق خطير وثغرات عديدة تحول دون تطبيقه بصورة سليمة. لهذا، فإنه من الصالح الإعلان صلب الدستور عن عزم المشرع القيام بالمراجعة الكلية للمجلات القانونية والتشريعات الأساسية الحالية والتي تجاوزت الظروف أغلبها، قصد “تحديثها” وملاءمتها مع المستجدات التشريعية المعاصرة.
7 – الأخلاقيات في عالم السياسة: لقد اثبتت التجربة في بلادنا ان الاعتناء بالأخلاقيات السياسية امر أساسي والذي دونه تصبح العملية الديمقراطية عبثا صارخا مثلما اثبتت ذلك الفضائح المدهشة التي لوحظت في المجلس التشريعي “المجمدة اعماله” اليوم. لذا، فإنه من الحيوي الاعلان المفصل عن الشروط المستوجبة لخوض المعارك السياسية كأساس لهذه الأنشطة، مع الإعلان عن المعاقبة الجزائية الشديدة والمباشرة لكل خرقا لتلك الشروط. وإن هذه الشروط الأخلاقية تكتسي أهمية قصوى عندما تكون مصالح البلاد مهددة، بالخصوص على مستوى العلاقات الخارجية.
8 – الدين والسياسة: “السياسة” هي علم معالجة الشأن العام والمصالح ‘المادية والدنيوية’ بما هو الأنفع والأقل ضررا للبلاد. والتفرقة بين “عالَم الدين” و”عالَم الحياة الدنيا” هي ركن من بين الأركان المؤسسة للعمل السياسي السليم. ولقد تكبدت العديد من الدول انهيارا حضاريا لا مثيل له بسبب تعنت رجال الدين أو رجال السياسة في الخلط بين هذين المجالين وفي استعمال الأول لخدمة الثاني والعكس بالعكس….
الدستور نظاما
9 – مبدا “التفريق بين السلط”: هو أفضل اختراع لمكافحة الاستبداد ولتحقيق الديمقراطية في العمل السياسي ولتحقيق العدالة بين الناس. لكن، هذا المبدأ لا يمثل دائما ضمانا كافيا لتحقيق تلك الأهداف الأساسية. فكثيرا ما نجد في العالم المعاصر أنظمة سياسية تعلن شكلا عن احترامها هذا المبدأ مع خرقها الفعلي له، مما يعني ان الضمان الحقيقي لهذه الأهداف يتجاوز الإشكاليات*.
10 – أي نخبة للعمل السياسي: لا يؤمل خير من النخب السياسية المتمركزة في البلاد منذ تمكن ‘النخبة السياسية’ الحالية الفاسدة من الحكم منذ 12 سنة. لذا، فإننا نرى أنه من الصالح إيلاء الاشتغال بالشؤون العامة في البلاد الى اعضاء “النخبة المثقفة”. فكما هو معلوم، لا “يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر، 9). لذا، فإن اقتراحنا في هذا الباب يتمثل في حصر حق الترشح الى المهام الانتخابية والى تقلد المهام الحكمية في النخبة المتخرجة من المدارس العليا وفي الإخصائيين في الاقتصاد وفي السياسة وفي الشؤون الاجتماعية وأصحاب التجربة والخبرة المتكاملة في تلك المستويات العليا في ادارة الشؤون العامة.
11 – الديمقراطية، أشكالها وانحرافاتها: كون “الشعب هو صاحب السيادة” هو مبدأ اليوم متفق عليه عموما، وحتى في الأنظمة الملكية المتقدمة باعتبار ان “الملك” يعتبر ممثلا للشعب. في هذا الصدد، لا شك ان “الديمقراطية” هي الأسلوب الأكثر رواجا في العالم المعاصر. لكن، الكل يعلم اليوم ان التطبيق الفعلي لهذا المبدأ في تطبيقه الأكثر رواجا اليوم – أي “الديمقراطية التمثيلية”، أو ما نسميه: “الديمقراطية بالوكالة” – مٌغرَق في ازمة سياسية راجعة الى انعدام الثقة في طريقة التمثيل، بالذات، – أي “الانتخاب” – لاقتناع اغلبية الناس اليوم بأن “انتخاب” الممثلين ما هو في الحقيقة الا مغالطة سافرة، يغلب فيها القوي ويذل فيها الضعيف، وأن “الديمقراطية المباشرة” بدورها لا تقل مغالطات ومخادعات.
12 – “لكل واحد صوت واحد”: هذا المبدأ “الديمقراطي” والمعبر ظاهريا عن المساواة التامة بين جميع “المواطنين”، هو في الحقيقية المغالطة الأكبر في الديمقراطية باعتبار انه يساوي في التصويت من ليسوا متساوين فكريا واجتماعيا وسياسيا. وهذا ينسحب على العملية الانتخابية وعلى الاستفتاء. فليس من المنطقي ان نساوي بين الجاهل والعالم ولا بين الطبيب او المهندس او القاضية وبين الأمي. والحقيقة ان الأٌميين يمثلون منذ القدم مجموعة بشرية سهلة الاستغلال والاغواء من طرف الأغنياء والأقوياء. وبالتالي، فإن ‘الديمقراطية’ لا تستقيم ما دام “العدد” يتفوق على “المستوى الفكري”، كما هي الحال اليوم، ولا نستثني من ذلك تيار “الشعب يريد” باعتبار ان من يدعو لذلك المبدأ يكتفي بتقمص تلك الإرادة “الشعبية” المزعومة والمزيفة لاحتكار السلطة السياسية لصالحه كاملة فتصبح هذه المنظومة مجرد اخراج لما يعرف منذ القدم بـ”الشعوبية”….
الدستور ومراجعته
13 – كيف تٌراجَع الدساتير؟: إذا تحجرت اجراءات مراجعة الدساتير ينتج عن ذلك اللجوء الى المراوغات في تطبيقها وحتى الى الانقلاب عليها. وقد أثبتت التجربة ان دوام الدساتير مقيد بسلاسة مراجعاتها. لذا، فانه يكون من الصالح مراجعة “المراجعات” في اتجاه اعتماد فكرة “المراجعة السلسة” مع اخذ بعض الاحتياطات الدستورية في ذلك.
——–
* الدستور هو الأساس تحديد نظام الحكم وإجراءاته القانونية، إلا أن هذه الورقة لم تتعرض لهذه المسألة الهامة نظرا لكثافة هذه المادة، التي تتطلب بعض التفصيل الذي قد يتجاوز الحجم العادي لهذه الافتتاحية.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 مارس 2022