الشارع المغاربي: بعد الإقبال الشعبي الهزيل على الدور الأول من الإنتخابات التشريعية الأخيرة، مَنَّى سعيّد النفسَ بإقبال أعلى في الدّور الثاني منها، لِيُحتَسَبَ الإقبالُ، حسب منطقه، بالصيغة التي بها تُحتَسبُ نتيجةُ مباراة بعد شوطَيها. و خاب التهديف في الشوط الثاني و جاء الحاصل كسابقه، على تقليص مساحة الملعب بعد أن خارت اللّياقة البدنية. و نسي سعيد الشوط الثالث في كرة الرقبي فتخيّر هذه المرة تعليلا آخر. بيان التعليل أنّ الناخبين قد كرهوا “عبثية” البرلمان السابق فأعرضوا عن انتخاب أعضاء البرلمان اللاحق. و إنّ في هذا التعليل الذي لا يَنفُق على أحد مكابرةً و تجاهلا لما فيه من مخاطر.
1/ المكابرة
أما المكابرة فهي أن سعيد لم ينقطع عن ادعاء أن مساره هو نقيض” الرجوع إلى الوراء”، أي إلى مرحلة ما قبل 25 جولية 2021 التي كان فيها البرلمان هو مركز الثقل. و لما كان ذاك البرلمانُ “عبثيا”، بعبارة سعيد نفسه، فإن بديله هو البرلمان الجديد الذي هو برلمان سعيد على وجه التحديد. على ذلك يفترض أن يقبل الشعب على انتخاب أعضائه إقبالا كثيفا. فهو أولا البرلمان البديل الذي يُراد به نسخُ سابقه “العبثي”. و هو ثانيا برلمان سعيد الذي يدعي أنه ترجمان لِمَا”يُريد الشعب”. فكيف، لو صح الأمران، أن يُعرض الشعب عن مُراده؟.
إن”الإنتخابات التشريعية” الأخيرة ليست دورية في سياق استقرار. إنما هي سابقة لأوانها، و حلقة في مسارٍ ذي مراحلَ محدّدةٍ و مفاهيمَ مخصوصةٍ. و هذه المفاهيمُ و تلك المراحل محسوبة على سعيد احتسابا كاملا.فهي منه. و هو قَد صار منها. و البرلمان القادم هو بهذه الصيغة برلمانُه.و قانونُ انتخاب أعضائه قانونُه. و الدستور المُتَّبَعُ في ذلك دستورُه. لذلك فالإعراض الشعبي عن الإقتراع هو إعراض عن سعيد و عن مسارِه، بمراحلِه و مفاهيمه، و عن منهجه في إدارة الشأن العام.
إلى هذا الحد تفيد مكابرةُ سعيد احتمالين اثنين لا ثالث لهما. الإحتمال الأول أن سعيد لم يفلح في إظهار أن برلمانه بديل قويم عن”عبثية” سابقه، مِمَّا أدّى أن يُعرض الشعب عن الإقتراع لهذا البديل الرئاسي عقابا له مُسبقا بذنب سابقه. و ما يترتّب على هذا الإحتمال أنّ سعيد ، رئيسا، هو اليوم في فلك منفصل عن الشعب. و الإحتمال الثاني أن الشعب قد ضاق ذرعا بالساسة الذين في صدارتهم سعيد نفسه، باعتباره الجهة الرسمية الأولى و الوحيدة، و الطرف الوحيد الفاعل في التدبير الرسمي الذي به اختَطّ مسارَه. و في هذه الحال أيضا، يكون الإعراض الشعبي عن مسار سعيد الإنتخابي تعبيرا عن كونه في واد غير واد الشعب. و بهذا الإحتمال و ذاك، يكون الإقبال المخجل عن الإنتخابات الأخيرة إفصاحا عن سقوط سعيد من سُّلّم الولاء الشعبي.
2/ المخاطر
أما مخاطر الإعراض الشعبي الذي يكابر الرئيس في قبول محموله الدّلالي، فمنها إصراره على إنكار أنّ للأحزاب دورا فيه. و هذا ما تَلَوَّى فيه خطابُ مُريدِيه تَلَوِّيًا أرادوا به إظهار أنّ الإعراض الشعبي”عزوف” و ليس”مقاطعة”،حتى كأنّ الدافع و النتيجةَ مختلفان اختلافا جوهريا. فأين مكمن الخطر؟.
إن الخطر يكمن في ادّعاء أنّ الإعراض لا يعبرّ عن تدنّي شعبية سعيد. إذ هو ، بعبارة إحداهن،”المْعَلِّمْ”الأوحَد المُتعالي على هذه الحلقة الإنتخابية من مساره، أي المتعالي على نفسه في آخر الأمر تَعالِيًا طيفِيًّا لا يَبلُغه إلا المُطَّهَّرون. و مَقصد هؤلاء المريدين الآخر هو إلى إظهار أنّ الأحزاب التي يعاديها سعيد لا أنصار لها على الإطلاق، لتَقدرَ على أن تُنَفّذ دعوةَ أحزابها إلى المقاطعة تنفيذا أفضى إلى ذلك الإعراض عن صناديق الإقتراع.
وللخطر في لَيّ أعناق الحقيقة على هذا النحو مظاهر أربعة. أما المظهر الأول منه فهو تزييفُ الوعي الشعبيّ العام و الترويج لما ليس منه. و هو ترويج يتعمّد به عُمَّالُهُ تغطيةَ أنّ سعيد قد أخفق في إدارة المرحلة فانفضّ عنه الشعبُ. و من هذا التمويه يتأتّى مظهر الخطر أولا في تزيين الإخفاق تزينا قد يصدّقه سعيد و هو المَيّال إلى تصديقه، فيواصلَ رياضة العدو الريفي إلى الأمام المُحَبّبة إليه.
ويتأتى مظهر الخطر ثانيا من أن ذاك التمويهَ لا يَنفُق على الشعب الذي يكابد الإخفاق يوميا. و إذْ لا ينفق عليه ذلك، فإنه يفقد الثقة لا في أولئك المريدين المكتسحين لمنابر الإعلام فحسب ، و إنما أيضا في عموم النّخب و جملة “السلطات الوسيطة”التي هي في الأصل قاطرة الوعي الجمعي البَنّاء. و ها هنا يطغى لدى الشعب التّعميمُ الخطيرُ، فينفصلَ عن عموم النخب السياسية و الإعلامية و عن غيرها من أهل الفكر و الثقافة و الإبداع. فلا جدوى لفكر و نحوه إذا أعرض عن أغلبه أو عن بعضه عمومُ الشعب.
وأما مظهر الخطر الثاني فهو تجاهلُ رأس السلطة المزاجَ الإنتخابيَّ العام أو سوءُ تقديره. فلو استأنسنا بأرقام الإنتخابات السابقة، لحصّلنا أن معدّل الإقبال على الإقتراع يفوق 40% من الناخبين. و هذه النسبة التي تقارب نصف المسجّلين هي الكتلة النشيطة انتخابيا على الجملة. و لمّا اقترع منها في انتخابات برلمان سعيد رُبُعُهَا، فإن الأرباع الثلاثة الباقية هي الكتلة الناخبة المتحزبة، بصرف النظر عن حظوظ كل حزب منها لأن هذا معلوم. و بإنكار سعيد و مُريديه لهذا المعطى، يكون قد أقرّ، بنوع من الغفلة، أنه معنيّ شعبيا مِن رُبُعِ الكتلة الناخبة أو من عشر المُسجَّلين أو من 0,8 من عموم التونسيين. و يُنذِرُ ذلك بوخيم العواقب. فالماسك لرأس الدولة لا بالمشروعية الشعبية التي تضمن الإستقرارَ، و إنما بقوة السلطة، إنما هو يبعث على الاهتزاز أو حتى على الإنفجار.
وأما المظهر الثالث من الخطر فهو أنّ التّمويهَ ذاك يُروّج أنّ ثلاثةَ أرباع الكتلة الناخبة، أي المعنية بالسياسة و مواعيدها و مناسباتها، غير خاضعة للتأطير الحزبي، وفق مكابرة سعيد الناكرة لأدوار الأحزاب. و يكمن الخطر في أن هذا الإدّعاء يعمل على أن يَخرُجَ عن التأطير الحزبي، و هو تأطير مدني إذا لم يكن إخوانيا، ثلاثةُ أرباع الكتلة الشعبية النشيطة. و إنّ في ذلك استخفافا غريبا بخطرِ فرضيةِ أنْ تخرج أغلبيةُ المواطنة النشيطة عن التأطير الحزبي. إنها في هذه الحال مواطنة غير محاطة بالتأطير مما يجعلها، بعبارة “جورج بوردو”:” مواطنةً غيرَ عقلانيةٍ، مُنفَلتةَ الوجدان انفلاتا يضع المجتمع على حافة الكارثة”.
وأما المظهر الرابع من الخطر فهو ذريعةُ”العزوف الشعبي التلقائي” الذي يصرّ عليه سعيد و مريدوه. ذلك أن الخطر العالق بهذا التذرّع إنما قد يُفضي السّعيُ الغبيُّ إلى ترسيخه إلى ذِروةِ المخاطر المجتمعية. فالشعب الذي ينصرف عن الشأن السياسي الرسمي و الحزبي، كانصرافه عن الإنتخابات عزوفا و إحباطا، هو شعب قد تملّكه اليأس تملّكا. و يقول التاريخ و المفاهيم السوسيولوجية: لَن يعود الشعب في هذه الحال إلى السياسة و إلى الساسة الحاكمين إلا بمعاول الغضب و العنف الطّليقَين مِن كل تَوجيهٍ و تأطير . و لا يبدو أن سعيد على استعداد لقبول مظاهر الخطر تلك، حتى حين سقط في انتخاباته الأخيرة”شفطرُه” الأول.
3/ “شفطتر” مُختصر السقوط
أين نضع، في نطاق” الشعب يريد”، السقطات الإنتخابية للتهامي العمدولي و سرحان الناصري و خاصة أحمد شفتر، فضلا على آخرين؟. فإذا صحّ أن “عبثية” البرلمان السابق قد أثنت الشعب عن انتخاب أي برلمان، فإنّ ادّعاء سعيد امتثالَه “لإرادة الشعب”يكون غير ذي معنى. فهو يكرّس”إرادته البرلمانية” النقيضة لإرادة الشعب. أو هو متعال عليها.
وإذا صحّ، من زاوية أخرى، تعليلُ سعيد لإعراض الشعب عن الإقتراع، فإنه بذلك ينأى بنفسه عن إعراض الشعب عنه. و هو بذلك أيضا يضمّن ما يفيد أنّ الشعب في صفّ شخصه دوما و إن أعرض عن الإقتراع من أجل البرلمان. فلماذا اختار الناخبون القلائلُ مترشحين لا صلةَ لهم بسعيد و لم يختاروا أغلبَ مَن لَهُم به صلة، و الذين في صدارتهم أحمد شفتر؟.
لقد اختزل شفتر دائرة “مفسري”طلاسم سعيد . فهو، مفسّرا أول، مركز هذه البدعة المشتقة من مراجع الغيب. و هو لسان حال سعيد، و مُنظر “منهاجه و مشروعه”، و المُلِم بأبعادهما، و المُطِلّ علينا بصورة مستنسخة منه. لا بل جعل شفتر نفسه” بديلا” لسعيد، أي(doublure) إلى حد التماهي. و على ذلك يُفتَرَض أنّ ترشّحه منبثق من شخص سعيد، و أنّ الإقبال على انتخابه هو ضمنيا و فعليا إقبال على انتخاب سعيد. لكن هذه النسخة طبق الأصل سقطت في عقر آلَتها الناخبة سقوطا عبّر عن سقوط الأصل. فكيف ذلك؟.
إنّ شفتر هو شخصية عامة. و لما كان كذلك فهو وجوبا ذو وجاهة محلية. و ترشحه عن جهة جرجيس التي هو سليلها يقتضي أن ينال فيها الإسنادَ الإنتخابيَّ المُنجِحَ لو مَثَّلَ فيها شخصَه و ترشّح به عنها.
لكنّ الناخبين هناك أدركوا بوعي شعبي صائب أنه مترشح عن سعيد لا عن الجهة، و أنه لا يمثّل شخصه و إنما يمثّل سعيد في تماهٍ معه كاملٍ و امِّحاءٍ له فيه. و بِوَعيهم هذا، فهموا أن انتخاب شفتر هو انتخاب سعيد و الإعراض عنه هو إعراض عنه، فأسقطوا سعيد بإسقاط شفتر.
ويتأكد هذا التلازم بين شفتر سعيد أو سعيد شفر بمترشحين آخرين جنَى عليهم احتسابُهم على سعيد فأطاحَت بهم جهاتهم إطاحةً تختزل بصورة أنموذجية انحدارَ شعبية سعيد في عموم البلاد. هذه هي الحقيقة الأكيدة التي لا يمكن أن تدحضَها تبريراتُه أو بهلوانياتُ مُرِيدِيه أو شعوذاتُ الزرقوني” الرقمية”.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 فيفري 2023