الشارع المغاربي – نجيب‭ ‬وأعداء‭ ‬الفنّ‭ ‬والفرح‭!‬ / بقلم: معز زيود

نجيب‭ ‬وأعداء‭ ‬الفنّ‭ ‬والفرح‭!‬ / بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

26 أغسطس، 2023

الشارع المغاربي: ما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالأمس‭! ‬تحريم‭ ‬الفنّ‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬ليس‭ ‬حكرًا،‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يعتقد‭ ‬البعض،‭ ‬على‭ ‬السلفيّين‭ ‬ومشتقّاتهم‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬المنكوبة‭ ‬بحُكّامها‭ ‬يُمارس‭ ‬منع‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬شتّى‭ ‬الأزمان،‭ ‬وحريّة‭ ‬التعبير‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬التونسيّون‭ ‬أيّام‭ ‬الثورة‭ ‬باتت‭ ‬من‭ ‬أضغاث‭ ‬الأحلام‭…‬

‭”‬نجيب‭ ‬بوزينة‭” ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬اسما‭ ‬مجهولا‭ ‬لدى‭ ‬معظم‭ ‬التونسيّين،‭ ‬لكنّ‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العابرين‭ ‬والعابرات‭ ‬لشارع‭ ‬العاصمة‭ ‬الرئيسي‭ ‬يعرفون‭ ‬ذاك‭ ‬الرجل‭ ‬الخمسيني‭ ‬والعازف‭ ‬الحاذق‭ ‬والفنّان‭ ‬الهادئ‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬أبهجهم‭ ‬بمعزوفاته‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬البانجو‭ (‬Banjo‭) ‬الوتريّة‭. ‬ومن‭ ‬المؤكّد‭ ‬أنّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬أو‭ ‬بعضهم‭ ‬قد‭ ‬وضعوا‭ ‬دينارًا‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬تشجيعًا‭ ‬له‭ ‬وبدلا‭ ‬لجهده‭ ‬في‭ ‬إضفاء‭ ‬مسحة‭ ‬فنيّة‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬ارتسم‭ ‬على‭ ‬امتداده‭ ‬هدير‭ ‬الأحزان‭ ‬وحتّى‭ ‬الأفراح‭ ‬أحيانا‭… ‬عازف‭ ‬البانجو‭ ‬ارتحل‭ ‬بداية‭ ‬هذا‭ ‬الصيف‭ ‬القائظ‭ ‬إلى‭ ‬كرنيش‭ ‬ضاحية‭ ‬المرسى،‭ ‬حيث‭ ‬يتهادى‭ ‬الزوّار‭ ‬أملا‭ ‬في‭ ‬انتزاع‭ ‬أوجاع‭ ‬النهار‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بنسائم‭ ‬البحر‭ ‬وأجواء‭ ‬يفتقدونها‭. ‬أمّا‭ ‬العازف‭ ‬الفنّان،‭ ‬فكان‭ ‬مآله‭ ‬المنع‭ ‬رسميّا‭ ‬من‭ ‬العزف‭ ‬ومصادرة‭ ‬آلته‭ ‬المحبوبة‭ ‬والحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالبطالة‭ ‬الإجباريّة‭. ‬والأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬المكلّفين‭ ‬بتنفيذ‭ ‬القانون‭ ‬رفضوا‭ ‬وامتنعوا‭ ‬وماطلوا‭ ‬العازف‭ ‬مرارا‭ ‬وتكرارا‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬حبيبته‭ ‬الوتريّة‭!.‬

تصوّروا‭ ‬أنّ‭ ‬مجرّد‭ ‬آلة‭ ‬موسيقيّة‭ ‬أزعجت‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬المرسى‭ ‬الغرّاء‭ ‬وأقضّت‭ ‬مضجع‭ ‬باياتها‭ ‬وألهمت‭ ‬إحدى‭ ‬دوريّاتها‭ ‬الأمنيّة‭ ‬وابلا‭ ‬متناهيا‭ ‬من‭ ‬العبقريّة،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬مصادرتها‭ ‬وكأنّها‭ ‬سلاح‭ ‬إجرامي‭ ‬أبيض‭ ‬أو‭ ‬أسود‭ ‬أو‭ ‬منعدم‭ ‬الألوان‭ ‬والأحلام،‭ ‬ثمّ‭ ‬الرمي‭ ‬بأداة‭ ‬الجريمة‭ ‬الفنيّة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬غياهب‭ ‬مركز‭ ‬الحجز‭ ‬بالمنطقة‭ ‬وتناسيها‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬يُبعثون‭.!‬

نجيب‭ ‬بوزينة‭ ‬ليس‭ ‬للأسف‭ ‬الشديد‭ ‬فنّان‭ ‬الشارع‭ ‬التونسي‭ ‬الأوّل‭ ‬أو‭ ‬حتّى‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬تلكعه‭ ‬السلطة‭ ‬بمحضرٍ‭ ‬لإحداث‭ ‬الهرج‭ ‬والتشويش‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬العام،‭ ‬وتواجهه‭ ‬بقَدْرٍ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬القمع‭ ‬والمنع‭ ‬والتكميم‭. ‬فالفنّ‭ ‬مجرّد‭ ‬بذخ‭ ‬ضارّ‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬منه‭ ‬والإبداع‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬والمهمّشون‭ ‬لا‭ ‬حقّ‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬ممارسته‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭…‬

منذ‭ ‬اعتصام‭ “‬القصبة1‭” ‬أخذ‭ ‬فنّ‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬الازدهار‭ ‬والانتشار‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬تونس،‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬المنع‭ ‬والظلم‭ ‬ومحاكمة‭ ‬النوايا‭. ‬ثمّ‭ ‬لم‭ ‬تمرّ‭ ‬بضعة‭ ‬أعوام‭ ‬حتّى‭ ‬استيقظت‭ ‬عصا‭ ‬المنع‭ ‬والتحريم‭ ‬والتعصّب‭ ‬الرسمي‭ ‬مجدّدًا‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬وما‭ ‬جاوره،‭ ‬تحت‭ ‬عناوين‭ ‬تسلّطيّة‭ ‬عديدة‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬تمّ‭ ‬إيقاف‭ ‬مجموعة‭ “‬الفنّ‭ ‬سلاح‭” ‬الشبابيّة‭ ‬ومُنعت‭ ‬من‭ ‬العزف‭ ‬والغناء‭ ‬وفُرض‭ ‬على‭ ‬أعضائها‭ ‬توقيع‭ ‬التزام‭ ‬بعدم‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭. ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬اللاحق،‭ ‬أي‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬مُنعت‭ ‬مجموعة‭ ‬شباب‭ “‬من‭ ‬حقّي‭ ‬نعيش‭ ‬الفنّ‭” ‬بدورها‭ ‬من‭ ‬ارتكاب‭ “‬جرم‭” ‬العزف‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬الشارع‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬تبرير‭ ‬للتعسّف‭ ‬إلّا‭ ‬التأكيد‭ ‬بأنّ‭ ‬منع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬العزف‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬قيامهم‭ ‬بالتنسيق‭ ‬مع‭ ‬السلط‭ ‬المحليّة،‭ ‬وكأنّ‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬والفنّ‭ ‬عموما‭ ‬تُشكّل‭ ‬خطرا‭ ‬داهما‭ ‬على‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الاجتماعيّين‭. ‬ومن‭ ‬ثمّة‭ ‬يُلزم‭ ‬المغرمون‭ ‬بالموسيقى‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الإجرام‭ ‬إلى‭ ‬إخطارٍ‭ ‬وإشعارٍ‭ ‬وتنسيق‭ ‬محكم‭ ‬مع‭ ‬ذوي‭ ‬الشأن‭ ‬والقرار،‭ ‬نظرا‭ ‬إلى‭ ‬المخاطر‭ ‬الجسيمة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يُفرزها‭ ‬هذا‭ ‬الصنف‭ ‬النظيف‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬المهمّش‭ ‬والثقافة‭ ‬الموازية‭.‬

ما‭ ‬عسانا‭ ‬نقول‭ ‬حيال‭ ‬هذه‭ ‬الفضيحة‭ ‬التونسيّة‭ ‬الجديدة،‭ ‬ونحن‭ ‬نشاهد‭ ‬يوميّا‭ ‬عشرات‭ ‬الفيديوهات‭ ‬تُصوّر‭ ‬درجة‭ ‬الاحترام‭ ‬التي‭ ‬يلقاها‭ ‬العازفون‭ ‬والمغنّون‭ ‬الذين‭ ‬ينشرون‭ ‬البهجة‭ ‬والفرح‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬الشوارع‭ ‬الكبرى‭ ‬والساحات‭ ‬العامّة‭ ‬وفي‭ ‬محطّات‭ ‬السفر‭ ‬وعلى‭ ‬متن‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬العموميّة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬عواصم‭ ‬الدول‭ ‬الغربيّة‭ ‬أو‭ ‬سائر‭ ‬المدن‭ ‬السياحيّة‭ ‬في‭ ‬العالم؟‭!…‬

لا‭ ‬يسعنا،‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الخجل،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬نعتذر‭ ‬لنجيب‭ ‬ولرفاقه‭ ‬الممنوعين‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬والعزف‭ ‬والتعبير،‭ ‬ونقول‭ ‬لهم‭ ‬ولأنفسنا‭ ‬يال‭ ‬الأسف‭ ‬على‭ ‬تونس‭ ‬التي‭ ‬أُجهِضت‭ ‬ثورتها،‭ ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬الموازية‭ ‬وأطنان‭ ‬البضائع‭ ‬المهرّبة‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان،‭ ‬باتت‭ ‬الموسيقى‭ ‬والأحلام‭ ‬تُصادر‭ ‬حتّى‭ ‬من‭ ‬شوارعها‭ ‬الحزينة‭…‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 اوت 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING